stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

متنوعة

أيها المسيحيون لا تهجروا الشرق الأوسط

640views

imigr

المطران يوحنّا إبراهيم  رئيس طائفة السّريان الأرثوذكس بحلب

– 1 –

مازالت أصداء اللقاء حول: المسيحيّة في الشرق… إلى أين؟ الذي عُقِدَ في آذار 2012، يتناقلها المهتمُّون بشؤون العيش المشترك بين المسيحيِّين والمسلمين، وقد تركت الأبحاث التي جرت في ورشة العمل، أسئلةً تحتاج إلى الوقوف عندها للتأمُّل، واكتشاف الوسائل المتاحة من أجل تعميق مفهوم العيش معاً، وكان سموُّ الأمير الحسن بن طلال قد أغنى هذه الورشة بأفكاره النيِّرة النابعة من خبراته الواسعة في هذا المجال. وركَّز على نقطتين هامّتين، وهما:

أوّلاً: أنَّ العرب المسيحيِّين هم عرب، وروَّاد الفكر، والنهضة العربيّة، وهم أصيلون وأصلاء في وطنهم.

ثانياً: شدَّد على أهميَّة العمل الجماعي بين المسلمين والمسيحيِّين من أجل نهضة بلدانهم.

– 2 –

أنا قادمٌ من حلب، وأهلها اليوم يعيشون في قلقٍ واضطرابٍ نتيجة الأحداث غير الطبيعيّة التي تجري في سورية، ولست بصدد أن أدخل في تفاصيل هذه الأحداث الأليمة، ولكن أُشير إلى واقعة جرت معي في السّادس من شهر أيّار الجاري، اذ اتَّصلت بي وكالة الأنباء آكي – الإيطاليّة، لتطرح عليّ بعض الأسئلة من وحي المناسبة، وكلّها فاجأتني جدّاً. السؤال الأهمّ كان: هل تؤكّد أنَّ الأخبار التي وردت إلينا عن أنَّ بعض المسيحيِّين في سورية قد استُخدِمُوا كدروعٍ بشريّة؟ والسؤال الآخر: هل حقيقةً أنَّ المسيحيِّين يتعرَّضون اليوم للاضطهاد والمضايقات؟ أقول كانت مفاجأة كبيرة لأنَّ الخبَرَين عارِيان عن الصحَّة، ولكن يبقى السؤال لماذا دائماً في التحوُّلات السياسيّة والانتفاضات والثورات العربيّة الآتية من حِراكٍ شعبيٍّ يُقحَم المسيحيُّون بأسئلة من هذا النوع؟ طبعاً الجواب كان واضحاً وتناقلته وكالات الأنباء، وهو أنّ أوضاعنا غير طبيعيَّة في سورية، ولدينا مناطق ساخنة مثلاً: في ريف حلب، وبعض أحيائها، ولدينا قتلى، وجرحى، وعمليّات خطف، وتخريب، ودمار، وغيرها من الحوادث الأليمة، ولكن كلّ هذه الأمور ليست موجّهة إلى المسيحيِّين، وإنّما تشمل كلّ المواطنين من أي انتماء جاءوا، علماً أنّنا خسرنا عدداً من المسيحيِّين بين الضحايا والشهداء في هذه المرحلة. وضربت مثلاً بقولي: تعرَّضنا لحادث تفجير لسيارة مفخَّخة بالقرب من مطرانيتنا في حلب، ولكن كان معروفاً أنَّ الهدف كان بسببٍ موقعٍ أمنيٍّ قريب منّا.

أنقل لكم هذه الصورة الحية في سورية اليوم، وأنا أعرف بأنّ السؤال مكرَّر، وأين دور المسيحيِّين في الحراك الشعبي أو في التغييرات السياسيّة التي تحصل هنا وهناك.

إنَّ من حقِّ المسيحيِّين أن يدافعوا عن حضورهم، ويؤكِّدوا على شهادتهم المشتركة في كلِّ المجتمعات إنطلاقاً من إيمانهم، بأنّ العيش معاً نحن المؤمنين بالله مسيحيِّين ومسلمين هو جزء من هذا التراث والتقليد، والقيم التي توارثناها قبل أربعة عشر قرناً. ولسنا في مجال بحثٍ تاريخيٍّ يؤكِّد على ضرورة العيش معاً من أجل سلامة الأوطان التي يعيش فيها المسيحيُّون والمسلمون. ولكن لا نتوقَّع من الأحداث الجارية الآن ضمن ما يُعرف بـ الربيع العربي أن تأتي نتائجها بطرفة عين، أو خلال مدّة زمنيّة قصيرة، والتاريخ يعلمنا بأنّ الانتقال من حالةٍ إلى حالة تحتاج إلى زمن طويل لأنَّ أوطاننا تعاني من ترسّبات الماضي، والنظر إلى المستقبل لا يكون مقترناً بالخوف والجزع، بقدر ما يكون مرتبطاً بالموضوعيّة.

– 3 –

إنَّ من يقرأ في السيرة النبويّة يتحقَّق أن النبي العربي محمّد قد اعترف بالمواطنة بين سكّان المدينة من مسلمين مهاجرين، وأنصار من أوس، وخزرج، ومن اليهود على اختلاف قبائلهم، معتبراً أنّ العيش في وطنٍ واحد، وهنا، المدينة هو أساس التعاقد والتعامل بين الجميع. وقد بُنِيَ هذا التعاقد على أساس التعايش المشترك، والتكافل المشترك، والتناصر المشترك بين المسلمين وغير المسلمين باعتبارهم جميعاً مواطنين في دولة المدينة الجديدة، وهذا يُغني المسيحيِّين والمسلمين عندما يفكِّرون ويعملون من أجل العيش المشترك بين بعضهم، إنَّهم ينطلقون من مفهوم المواطنة ودليلهم جميعاً قول الله تعالى: إنّما المؤمنون إخوةٌ (حجرات10)، وشرَّاح القرآن الكريم يؤكِّدون أنَّ هذه الأُخوَّة تُشير إلى أنواع أُخَر من الأخوَّات مثل: الأُخوَّة الوطنيّة أو القوميَّة أو الإنسانيَّة، فكلُّنا أُخوة في الوطن وإنْ كُنَّا نسير في خطَّين متوازيين من خلال تعاليمنا الدينيّة.

– 4 –

لقد تمَّت الإشارة في ورشة العمل السّابقة إلى سينودُس الأساقفة/ الجمعيّة الخاصّة من أجل الشرق الأوسط الذي عُقِدَ في حاضرة الفاتيكان في أُكتوبر 2010. وأشار سموُّه بشكلٍ واضحٍ إلى بعض ما ورد في هذا السينودُس، خاصّةً من حيث مستقبل المسيحيِّين في الشرق الأوسط، والعلاقة بين المسلمين والمسيحيّين، وقبل أيّامٍ تناقلت بعض وسائل الإعلام ملَّخص الإرشاد الرسولي الجديد، الذي سيُعلن رسميّاً خلال زيارة البابا بينديكتوس السّادس عشر إلى لبنان في منتصف أيلول المقبل.

وكما يظهر أنّ هذا الإرشاد الرّسولي سيتطرَّق إلى حضور المسيحيِّين في الشرق، ولكن في الوقت نفسه سيدعوهم إلى معرفة عميقة بالمسلمين كي يكون التزامهم بالسَّلام، والوئام، والقيم المشتركة أعمق وأقوى. وفي الرسالة التي ستوجَّه إلى المسيحيِّين والمسلمين معاً، سيدعو المسيحيّين إلى عدم التخوُّف من المسلمين مؤكِّداً في الوقت نفسه أنَّ التيّارات المتطرّفة تشكِّل تهديداً للمسيحيّين والمسلمين معاً.

– 5 –

إنَّ اجتماعنا اليوم تحت عنوان اللقاء الحواري: العرب المسيحيّون والعيش المسيحي – الإسلامي المشترك، وبمشاركة نخبة من المفكِّرين ورجال الدّين المسلمين هو ضمن توصيات ورشة العمل السّابقة التي طالبت بالسعي إلى عقد ندوة يُدعى إليها كبار العلماء، ورجال الدّين الإسلامي والمسيحي للبحث في سبيل العمل المشترك، وهذا كلّه يعني أن لا يتقوقع المسيحي على نفسه، وأن لا تتخلّى عن مسؤوليّاته تجاه التغيرات إنّها سِنَّة الحياة، وعلى الجميع أن يتحلّوا بالصبر، ويضعوا نصب أعينهم الحوار كمادّة حية تقرّب من وجهات النظر ليس فقط في الأمور المصيريّة مثل السّلام، وإنّما في شؤون الحياة اليوميّة، خاصّةً حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعيّة، والخدمات الضروريّة للإنسان.

– 6 –

بدايةً، كي يكون هناك عيش مشترك، وتضامن إسلامي – مسيحي، يجب أن يكون وجود المسيحي في المنطقة فعّالاً ومتواصلاً، وهذا هو الموضوع الأساس والأهم. لأنّه إذا تمَّ تفريغ المنطقة من المسيحيّين كما نرى اليوم في بعض المناطق، وتحديداً كما حصل في العراق بعد التطوُّرات الأخيرة، ما معنى أن يُطالَبَ المسلمون بالعيش المشترك، والتضامن الإسلامي – المسيحي؟ هذه نقطة مهمّة يجب الالتفات إليها، أي كيف نعالج موضوع هجرة المسيحيّين من المنطقة من وجهات نظرٍ مختلفة، هنالك مقولة مشهورة تُرَدَّد في أوساط عالميّة، وهي: قُلْ لي كيف تعامل الأقليّات، أقول لكَ كم أنت حضاري، علماً أنّنا اتفقنا في عالمنا أنّه لا يوجد مصطلح أغلبيّة وأقليّة، بل الوطن يتألّف من مكوِّنات، ولكلِّ مكوّنٍ دوره، ومكانته، وإسهاماته، ونشاطاته في سبيل أن يكون الوطن معزَّزاً، مكرّماً، مستقلاً. وليس من باب التشبيه، وإنّما للعلم أقول: لقد ساهم بعض المسيحيِّين مع حكوماتهم في الغرب، خاصّةً الفرق والمجموعات التي تتّخذ من العهد القديم درباً لها في التبشير، في دعم ومساعدة اليهود في العودة بعد ألفيّ سنة إلى ما يُعرف بأرض الميعاد، ومازالت المعارك طاحنة بين الوجودين اليهودي والفلسطيني على أرض فلسطين، علماً أنّنا مقتنعون بأنّ دعم الغرب مع بعض المسيحيِّين، فيه نوع من الاعتداء على خصوصيّة الأرض، وعلى شعبٍ آمنٍ عاش عليها أكثر من ألفي سنة. فكم بالأحرى أن نرى العالمَين الإسلامي والعربي يساهمان، بل يدعمان ويساعدان المسيحيِّين الأصليِّين والأصلاء في هذا الشرق، لكي يستمرّوا في العيش على هذه الأرض.

– 7 –

إنّ العربي المسيحي عندما يُغادر هذه البلاد ويُهاجر إلى الغرب، يرى هنالك من يستقبله، ويقدِّم له الخدمات اللازمة ليعيش في أحضان الغرب دون أن يشعر بالغربة، طبعاً من باب الخبرة أيضاً أقول: إنّ الشعور بالغربة رغم كلّ معاني الضيافة يزداد عند العربي المسيحي في بلاد الغرب يوماً بعد يوم، لأنَّه يشعر أنَّه مقتلَعٌ من جذوره، ولهذا تتمّ المطالبة من وقـتٍ لآخر بأن يتحمَّل العالمان العربي والإسلامي مسؤوليّة الوجود المسيحي في الشرق، وحماية الروابط بين الجميع ماداموا متعاونين على الخير.

– 8 –

أرجو أن نخرج من هذا اللقاء الحواري بتوصيةٍ حول أسس التضامن الإسلامي – المسيحي، خاصّةً وأنّنا فعلاً اليوم نواجه تحدّياتٍ لهذا التضامن المطلوب، لا أعلم كم ستكون انعكاسات الربيع العربي على أسس التضامن، ولكنّنا بكلِّ تأكيد نؤمن بأنّ دور علمائنا، ورجال الفكر، والإعلام، والمثقّفين، ورجال الدّين مسلمين ومسيحيِّين هو كبير في هذه المرحلة، وكلمتهم تُشعر العالمَين العربي والإسلامي بالمسؤوليّة الجسيمة تِجاه إنقراض المسيحيّين في المنطقة.

عندما جاء الإسلام من الجزيرة العربيّة، اعتنق بعض المسيحيّين الإسلام كما حدث للغساسنة في معركة اليرموك، وبعضهم الآخر حافظوا على إيمانهم المسيحي، ولكنّ قسماً كبيراً منهم غادروا المنطقة إلى لا رجعة، فهم اليوم مشتَّتون تحت كلّ كوكبٍ في العالم. فإذا زاد الوعي وحصلت القناعة بمسؤوليّة العالمَين الإسلامي والعربي تِجاه الحضور المسيحي في المنطقة، نكون قد حافظنا على البقية الباقية.

نقطة أخيرة، إنّ تسامح الإسلام الذي يراهن عليه الغرب، يجب أن يُبَرْهِن للعالم كلِّه، بأنّ الوجود المسيحي في هذا الشرق هو ضمن كلّ المكوِّنات الأساسيّة، ولا أحد يريد أن يتخلَّى عنه خاصّةً وأنَّ الهجمة الشرسة على العرب والمسلمين من الغرب، تتَّخذ من هجرة المسيحيّين سلاحاً لاتهام المسلمين بالتطرُّف والاعتداء على غير المسلمين، والآن تتوفَّر الفرصة لنفي هذا المفهوم من مخيلة الغربيِّين.