stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

عظات الأيام الطقسية

الأحد الثاني من الزمن الأربعيني: من الاسقاط إلى التجلي؟ -الأب داني قريو السالسي

1.5kviews

2_07

 

الأحد الثاني من الزمن الأربعيني: من الاسقاط إلى التجلي؟

 

الأب داني قريو السالسي

في هذه الآحاد من الزمن الأربعيني تقدم لنا الكنيسة مقطوعات إنجيلية عميقة ودسمة. مقطوعات مختارة لإرتداد حقيقي والسير نحو إيمان شفاف. في هذا الأحد نتأمل انجيل التجلي ويليه انجيل السامرية ثم المولود أعمى وأخيراً سنتأمل قيامة لعازر.

إنَّ المقطع الذي يسبق هذه المقطوعة الانجيلية هو إعلان يسوع نبأ آلامه وموته وصدامه مع بطرس حينما قال: أصدقائي سأذهب إلى أورشليم وسأعاني آلاماً شديدة من الشيوخ وعظماء الكهنة والكتبة هناك سأقتل. وعند سماع هذه الكلمات ينفرد به بطرس ويقول له: “حاشى لك يارب! من المستحيل أن يحصل هذا”. أنت المسيح ابن الله نحن سندافع عنك، الله سيرسل ملائكته لتدافع عنك، سيرسل جيوشاً من السماء من أجلك، أنت لن تموت!

بطرس وأصدقاؤه لم يتعرفوا بعد على يسوع. بالرغم من كلِّ هذه الفترة التي قضوها معه، مازالوا يُسقِطون عليه الصورة التي يتخيلونها عن الله. يرونه كمسيح قوي، جبار، لا يهزم. يرون فيه البطل الذي سيحررهم من الرومان. هذا ما كانوا يرونه في يسوع. لكن يسوع لم يكن كذلك أبداً. لهذا يأخذ يسوع بطرس ويوحنا ويعقوب ويصعد بهم إلى جبل التجلي. يأخذ بطرس (المروج لمسيحٍ سياسي) يأخذ الأخوين يعقوب ويوحنا (صاحبي الطموحات المادية)، بعد قليل سيطلبان منه أن يكون أحدهما وزيراً للداخلية الآخر وزيراً للخارجية في مملكته “واحد عن يمينك واخر عن شمالك”.  يأخذهم يسوع ليصلّح رؤيتهم ويعلن لهم حقيقته.

إذا كان الشيطان قد قاد الاسبوع الماضي يسوع إلى الصحراء، هذا الاسبوع يقود يسوع الشيطان إلى الجبل!! “انسحب ورائي يا شيطان، فأنت لي حجر عثرة” هو ذاته سمى بطرس بالشيطان! التلاميذ الثلاثة كانوا ينتظرون مسيحاً منتصراً، مسلّحاً، جباراً، لكن يسوع ليس كهذا.

ماذا حدث على قمة الجبل؟ على الجبل رأوا موسى وأيليا – حسب التقليد هذان النبيان لم يموتا إنّما خطفا للسماء- موسى يمثل الشريعة: قائد الشعب العبري من العبودية عبر الصحراء إلى التحرير. وهذا ما رآه التلاميذ في يسوع موسى الجديد. اسقطوا عليه توقعاتهم وآمالهم.

إيليا يمثل الأنبياء: ايليا هو النبي الذي كان يصر على تتميم الشريعة بغيرة كبيرة، وإن تطلب الأمر كان يستعمل العنف لإجبار الشعب على تطبيقها.

بطرس يقول: “فلنصنع ثلاث خيم واحدة لك، وواحد لموسى وواحدة لأيليا” – عند اليهود عيد هام وهو عيد المظال الذي فيه يقيم اليهود لمدة 6 أيام في خيم ليتذكروا تحريرهم من مصر – وهنا بطرس لا يضع يسوع في الوسط إنّما موسى. لأنه يتوقع أنَّ يسوع هو موسى الجديد الذي سيحرر الشعب من الرومان وظلم الفريسيين الديني.  لكن موسى وإيليا لا يتكلمان مع التلاميذ مباشرة، موسى وإيليا ليس لديهما شيء يقولانه إلا من خلال يسوع. انتهت الشريعة القديمة! كل ما يريد أن يقوله الله سيقوله من خلال الأبن: “الابن الحبيب الذي عنه رضيت”. لهذا نجد التلاميذ الثلاثة قد “سقطوا على وجوههم، واستولى عليهم خوفٌ شديد” السقوط على الأرض، هو علامة الهزيمة! يشعر التلاميذ أنّهم خسروا. لأن أحلامهم في تمني المملكة السياسية تبخرت في الهواء. لأن آمالهم خابت وتلاشت. أدركوا أنّهم أخطأوا. أدركوا أنّهم أمام ظهورٍ الهي، لديهم الخوف حتى الموت “لأن من يرى الله وجهاً لوجه يموت”.

ما أجمل الوصف الذي يصف به الانجيلي يسوع أمام قلق ورعب التلاميذ: “ودنا منهم ولمسهم وقال لهم: قوموا، لا تخافوا” يسوع يعيد نفس الحركات “يلمس ويقيم” ويقول نفس كلمات الشفاء “لا تخافوا”. التلاميذ الثلاثة شفوا من رؤيتهم المزيفة عن يسوع. الآن يرونه كما هو عليه، كما هو بالحقيقة. ولهذا يرون فقط يسوع”فلم يروا إلا يسوع وحده” لم يعد وجود لموسى ولإيليا. بطرس ويعقوب ويوحنا لم يعودوا يسقطون شيئاً على يسوع. بدأوا يرونه على حقيقته. بدأوا يرونه كما هو، دون أحكام مسبقة، دون انتظارات مسبقة.

إن الاسقاط هو مرضٌ نفسي: يطرح فيه المريض خصائص ورغبات عن ذاته ويلقيها على الآخر، وما يلقيه على الآخر هي أمور يجهلها أو يرفض تواجدها فيه.

أعرف شخصاً تزوج حديثاً من إحدى بنات المركز. وفي كل مرة يرى زوجته تتحدث مع أحد شباب المركز، ينهال عليها بوابل من الملاحظات والتنبيهات. علماً بأنَّ زوجته هي في غاية الأدب والنزاهة. وكثير من المرات جاءني شاكياً سوء تصرف بعض الشباب مع زوجته – علماً أنّ هذا كله غير صحيح لأن جميع من اشتكاهم كانوا يتمتعون بأخلاق نبيلة وراقية-. ومرة أخذته على حدة وبدأنا نتحدث معاُ ومن حديث الى آخر أكتشفت أنّه عندما كان مراهقاً، كان دون جوان عصره، لم يترك فتاة إلا وأوقعها في شراكه!!!

 إن هذا الزوج يسقط مافي داخله على زوجته وعلى الآخرين. إنّه يرى أموراً غير موجودة، ويتوقع حوادث لم تحدث، يعطي أحكاماً مسبقة على أشخاص هم في غاية النزاهة…

أذكر جيداً عندما كنت طالباً في كلية الفلسفة. افتتح أحد الأساتذة المحاضرة بسؤالٍ، قائلاً: لو رأيتم في منتصف الليل شخصاً يتسلق أحد المباني ويصعد إلى الطابق الأول ويبدأ بكسر زجاج أحد النوافذ محاولاً الدخول للشقة، ماذا ستقولون؟ فجاءت معظم الأجوبة على أنَّ هذا الشخص، حرامي، سارق، لص… ثم قاطعنا قائلاً: لا، إنه صاحب الشقة لكنَّه نسي مفاتيحه في الداخل ولا يملك نسخة إحتياطية!!

الإسقاط هو رؤية ماتريد رؤيته. واذا اكتشفت أن الآخر ليس هكذا تقع في خيبة أمل. “لستَ كما كنتُ أظن بك” نعم، ليس كما كنتَ تظن، ولم يكن أبداً كما كنتَ تظنُ، أنت الذي كنت ترى ما لم يكن موجوداً فيه.

الإسقاط يمنعنا من أن نتعرف على الآخر، يمنعنا من أن نحترم الآخر، أن نحبه. لأننا في هذه الحالة نحبه ليس لما هو عليه (في الواقع) إنّما لما نريد أن يكون، قائدا، صديقا، حبيبا…. فحين نلتقي بشخص جديد، نسقط فكرتنا عليه، ونرى أنّه ليس مثلنا، ليس كما توقعنا، نصاب بخيبة أمل كبيرة. بالتالي نقول انّه لا يعجبنا. وما معناه أنه ليس حسب القالب الذي وضعناه فيه، لهذا نرفضه وننقده. ومن ثم نشتكي قائلين لقد خاب أملنا فيك. لا لم يخب أمالنا، نحن كنّا متوهمين وكنا نتوهم أنّه صاحب ملكات نحلم بها. ولكن في الحقيقة لم يكن يملكها من الأصل.

كم من الزيجات عُقدت هكذا! تزوجته، لأنها كانت ترى فيه فارس الأحلام، القوي، الشجاع، الذي يضمن لها الأمان والاستقرار – لكنه لم يكن أبداً ما كانت ترى فيه- لم يكن قوياً، كان عنيفاً، كان عديم الاحساس. كان دائماً هكذا لكنها كانت تراه بشكلٍ مختلف، ولكن بعد فترة أكتشفته على حقيقته فوقعت في خيبة الأمل ومنها لليأس والإحباط.

إنَّ الإرتداد الأعظم للحياة هو القدرة على رؤية الأشياء، الأشخاص، الله كما هم عليه، ليس كما أريدهم أنا. كان الإهتداء الأكبر للرسل فقدان صورة الله (يهوه العهد القديم) التي تعلموها ونشأوا عليها ليروا – في التجلي- وجه الله الجديد، صورة الله الحقيقي في يسوع المسيح.

يقول الأنجيل “تجلى بمرأى منهم فأشع وجهه كالشمس وتلألأت ثيابه كالنور”. التجلي هو رؤية الأشياء كماهي عليها. ولا يمكن رؤيتها بالعيون الجسدية فقط إنّما أيضاً بعيون القلب. يصف الانجيلي متى هذا المشهد وكأنّه مشهد سماوي. كأنّ السعادة تغمرهم من كل صوب، كأنّ الحب يحتضنهم، كأنّهم يرون محطة من السماء.

هل من الممكن أن يشع الشخص؟ أن تتغير ملامحه؟ هذه الأشياء لا يمكن أن تحدث! لا يمكن فهمها حسب المعدلات الكيميائية والمسائل الرياضية. تحدث فقط مع العاشق، مع المتيم والمغروم. فنحن نجد الشخص عندما يقع في الحب تتغير هيئته، تدب الحياة فيه، فتشع نشاطاً وديناميكيةً. إن تذوقت الحب، الغرام، الاندهاش، التأثر… ستستوعب ما معنى “أشع وجهه كالشمس” فنحن نرى السماء في وجه مَن نحب! نرى النور يشع من عيون طفلنا! نرى السعادة تنبعث منه. الله محبة، وفقط مَن ينفتح على الحب، يستطيع فهم الله. يستطيع رؤية الله على حقيقته. من يتخلى عن الاسقاط يرى الوجه الحقيقي للأشياء، للأشخاص، ولله، فيمتلئ بالنور، ويشع المحبة، فيفيض رجاءً وسلاماً على ذاته وعلى الآخرين. (متى 17، 1-9).