stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

روحية ورعويةموضوعات

الأنبا بطرس فهيم مطران ايبارشية المنيا 🙏🙏 اليقظة 🙏🙏

755views

اليقظة، الوعي، الانتباه، كلها كلمات تدل حالة إنسانية نحن جميعا في أمس الحاجة إليها، وبدونها، نحن نسير في غياهب الظلام الكياني والوجداني، فنسير نائمين، مخدرين، مسروقين من ذواتنا، نحو لا شيء، لا هدف، لا معنى، وبكلمة واحدة نحو التفاهة والضياع.

اعتذر عن هذه البداية الصعبة بل المرعبة. ولكن للأسف كثير منا يريد، بل يفضل المواصلة في حالة النوم التي نحن جميعا فيها، النوم شيء لذيذ، هادئ كل شيء فيه يمر بدون وعينا ولا إرادتنا، كل الأمور تسير ونحن مغيبون عن وعينا، ولا مسئولية علينا، ولا تعب ولا إرهاق أفكار ولا توتر أعصاب ولا حرق دم يصيبنا، ولا أخطاء نرتكبها ونلام ونحاسب عليها. ما أجمل النوم. والناس تفضل أن تستمر في حالة النوم والغياب عن الوعي وتدع الأيام تمر ويسرق العمر ولا ننتبه لشيء. ونفاجئ في نهاية الرحلة أننا وصلنا إلى حيث لا ندري ولا نريد ولا نقبل، إلى اللا شيء.

كثير من النظم السياسية، والنظم الاجتماعية، والنظم الاقتصادية، ونظم الحكم عموما تتفنن في إلهاء الناس عن واقعهم المر، بخلق واقع وهمي أو بعمل مسابقات رياضية ينصرف إليها الناس بقوة وحماس، ومنافسات في الفنون المزيفة، “فنون بئر السلم” لتلهي الناس بالضحك أو بالتحمس لموضوعات وأشخاص وقضايا غير قضاياها الأساسية، لتجرهم إلى معارك جانبية وهمية لتأخذ وعيهم واهتمامهم عن واقعهم الأساسي الذي يملأ حياتهم بالحياة والقيمة والمعنى. فيقضوا حياتهم في التلهي والخروج من مسابقة والدخول في أخرى والانتهاء من “فيلم” ليبدأ فيلم جديد ومن “مسرحية” لأخرى، ومن “لعبة” لأخرى، ونظل طول العمر نلعب ونتلهى وننسى، وتنتهي الحياة ونخرج منها كما دخلنها بصرخة لا ندري سببها ولا معناها. مع أن الفنون والآداب والثقافة الحقيقية هدفها الأساسي هو التنوير وتنمية الوعي واليقظة عند الناس على حياتهم وواقعهم. ولكن هذه الأساليب الخبيثة قد تتم في كل مجالات الحياة: في التربية، فتعطي الأم “السكّاتة” أو “الببرونة” أو المصاصة لتسكته، وفي سن أكبر قليلا بعض الألعاب، ليتلهى بها ابنها حتى تنتهي هي من عملها الذي لا ينتهي أبدا. ولا يجد الأبناء القدر الكافي مما يحتاجونه من العناية والرعاية الوالدية لينموا نموا سليما. وفي المدارس تحشى أدمغة التلاميذ بمناهج ومعلومات كثيرة لا فائدة منها، وبعضها مزيف، ولا تعلم الطلاب مناهج التحليل والاستنباط والنقد والبحث العلمي الصحيح وبالتالي نخرج منهم مسخا، وأنصاف متعلمين، ذوي وعي مزيف وتفكير مغلوط. وتستخدم نفس الأسلوب الحكومات والمصالح والهيئات وحتى أحيانا بين الأزواج، لكيلا ينتبه أحدهما لحقيقة وواقع الآخر. وأحيانا يعمل ذلك رجال الدين، ويستخدموا الدين “كأفيون للشعوب” كما قال قديما كارل ماركس. فكل من يلعب لعبة الزيف والخداع ويحاول أن يضحك على الناس، يخشى دائما وعيهم ويقظتهم، فالوعي واليقظة هي دائما أم الثورات، وأم الإنجازات، وأم الحياة.

فماذا علينا إذن أن نفعل لنكتسب هذا الوعي وهذه اليقظة؟

أظن أن الخطوة الأولى هي أن ندرك أننا مازلنا نائمون، وأن نرغب في اليقظة، وأن نعي بذواتنا وأوضاعنا الحقيقية، وألا نخاف من المسئولية، مسئولية مواجهة واقعنا مهما كان صعبا وقاسيا ومرا ومؤلما. وأن نعرف كيف نجد الأشخاص والنظم الحقيقية التي تساعدنا على إيجاد الآليات، والأولويات والأساليب التي تساعدنا على أن نبدأ المسيرة. ونحدد أهدافنا، وطرق الوصول إليها، وتحقيقها تدريجيا. يجب أن ندرك أن عملية الوعي واليقظة هذه هي عملية صعبة ومكلفة، ولكن لابد منها لكي ندرك حقا من نحن؟ ولماذا وجدنا على هذه الأرض؟ وما هي الرسالة المنوطة بنا؟ وما معنى وهدف وجودنا؟ وأن نتحلى بالصبر والشجاعة لمواجهة حقيقتنا وواقعنا وظروفنا، ونسمي الأمور بأسمائها، ونضع كل شيء في حجمه الحقيقي، بلا تهوين ولا تهويل. ونعتمد على الله، وعلى إرادتنا الصالحة، وعلى مبادئ العلم والفكر والعقل والثقافة، والأمانة في العمل والضمير الصالح.

السيد المسيح لم يقبل أن يترك الناس في نومهم وغفلتهم، وما أكثر ما قال: “اسهروا” (متى 24 : 42 ، 25 : 23)، “انتبهوا” ( متى 16 : 6 ، و24 : 4) “احترسوا” (متى 16 : 6) “توبوا” (متى 4 : 17)، “اسمعوا وافهموا” (متى 15 : 10)، “أفهمتم هذا كله” (متى 13 : 51). وكان بذلك يريد أن ينبه الناس للأهمية اليقظة، والوعي، والتعامل مع الله ومع الناس ومع الأحداث والواقع بوعي وحكمة ويقظة. ودعاهم للتفكير في كل ما يعرض عليهم من تقاليد وتفاسير وتشريعات من الكهنة والكتبة والفريسيين. وقال لهم: “قيل لكم … أما أنا فأقول لكم …” (متى 5)، وقال لهم: “الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم … ولم …” (متى 23). وقال لتلاميذه: “أنظروا لا يضللكم أحد” (متى 24 : 4).

وحين تقابل السيد المسيح مع المريض المخلع المطروح على بركة بيت حسدا منذ 38 سنة، قال له: “أتريد أن تبرأ؟” (يوحنا 5 : 6). ماذا كان يقصد يسوع بهذا السؤال؟ قد يظن البعض أنه من البديهي أن كل مريض يريد أن يُشفى، واعتقد أن هذا طبيعي. ولكن يسوع كان يهدف للوصول إلى أبعد من عملية الشفاء الخارجي للجسد، وهذا كان أسلوبه غالبا في شفاء المرضى، فكان أولا يشفي الروح ويغفر الخطايا، ثم بعد ذلك يشفي الجسد (متى 9 : 1 – 8)، فحين سأل المريض الملقى عند البركة هل يريد أي يُشفى؟ كان يقصد هل هو مستعد أن يتحمل مسئولية شفائه؟ وما يترتب عليها من نتائج؟ أن يأخذ مسئولية حياته وحياة ذويه بيده، أن يحمل سريره بعد أن كان سريره هو الذي يحمله؟ أن يحمل مسئولية الحياة بكل ما فيها من عراك وجهاد وعمل وعرق وتعب من اجل لقمة العيش التي كانت تصله إلى حيث هو ملقى مريضا؟ هل هو مستعد ليتحمل مسئولية الحياة والشفاء وأن يكون مسئولا ليس فقط عن نفسه بل أيضا عن آخرين في الحياة ويهتم بهم كما كان الناس يهتمون به حين كان مريضا؟ كل هذه الأمور كان يريد يسوع أن يلفت انتباه المريض إليها ويجعله يعي بها ويكون يقظا لها قبل أن يأخذ قرار الشفاء من عدمه.

فالشفاء سينقله إلى واقع جديد. وكم من المرضى، في كل أنواع الأمراض، لا يريدون الشفاء حقا؟ يريدون المسكنات نعم، يريدون المخدرات نعم؟ يريدون الهروب من الواقع نعم، ولكن أن يريدوا يقظة حقيقة تضعهم أمام واقعهم فهذا أمر مخيف ومؤلم بالنسبة لهم ولذلك فهم يحاولون بكل الطرق أن يتجاهلوه ويتغافلوا عنه ويؤجلوه، فليسوا مؤهلين للخوض فيه، وليست لديهم الشجاعة لمواجهته.

إن اليقظة هي أن نُحيي كل حواسنا وعقولنا وقلوبنا وضمائرنا، وكل ملكاتنا وإمكانياتنا، لكي تعمل معا في منظومة إنسانية متكاملة، من أجل عيش الحياة بعمقها وقوتها، وطولها وعرضها، ومسئولياتها وتشابكاتها، وغناها وفقرها، وأفراحها وأحزانها، وأتعابها وآلامها وتحدياتها … إلخ. إن اليقظة هي الوعي بذواتنا، وبكل ما يدور حولنا، والتفاعل معه بحيوية وبحرية، وإدراك ومسئولية وإيجابية. اليقظة هي أن نعيش أحياء بكل معنى الكلمة، وليس كالنيام أو كالمخدرين أو كالأموات. اليقظة هي أن نقرر نحن، بوعي وحرية، ولا نقبل أن يقرر غيرنا قرارنا. اليقظة هي أن نعي ما هو مطلوب منا حقا، لنعمله لا لنؤجله، أو نتهرب منه أو نلقيه على الغير. اليقظة هي ألا نخاف من كل تحديات الحياة فنتهرب منها، بأساليب مختلفة ونتلهى وندفن رؤوسنا في الرمال، أو نغيِّب أنفسنا عن أنفسنا في عالم من الأحلام أو الأوهام.

من الأوهام الشائعة في حياتنا هو التأثر برأي الناس فينا، فحكم الناس لصالحي قد يشجعني ويحفزني على العمل والاجتهاد. وإن كان رأي الناس فيَّ سلبي فإن ذلك قد يحبطني ويكسر عزيمتي وحبي وحماسي للعمل. في الحقيقة ماذا تغير، رأي الناس، فيَّ أو في الظروف التي أعمل فيها؟ لا شيء. الذي تغير هو حالتي النفسية التي تأثرت سلبا أو إيجابا بما سمعت من كلام. وهل تستقيم الأمور هكذا؟ أين قناعاتي وقدرتي على التحدي طالما ما اعمله هو عمل صالح ومفيد؟ الأمر يحتاج وعي وقناعة ويقظة، لكيلا أتأثر سلبيا أو إيجابيا فليكن محركي ودافعي هو قناعاتي وإيماني والقيم والمبادئ التي أنا أؤمن بها وأثق فيها وقررت أن أعيش بموجبها وليس كلام الناس سلبا أو إيجابا مهما كان كلامهم ومهما كانوا هم بالنسبة لي. فلنستمد قوتنا وطاقتنا الإيجابية وعزيمتنا وحماسنا وإصرارنا على المواصلة في العمل وثباتنا على المبادئ من إيماننا بالله خالقنا ومحررنا، من روحه القدوس ومن كلمته المقدسة ومن كل وسائل ووسائط النعمة التي يضعها بين أيدينا كل يوم بسخاء وبوفرة مجانا. فنحن لسنا عبيدا للظروف ولكننا أبنا الله. وهو يدبر من أجلنا كل ما هو لحياتنا ولخيرنا ولسعادتنا ولقداستنا، يكفي فقط أن نفتح عيوننا وقلوبنا على إرادته ونثق أن مشيئته دائما صالحا حتى لو لم نر ذلك في حينه. فنسير مسيرة حياتنا بخطى ثابتة وبسلام ولا نكون كالريشة في مهب الريح. فثبات القلب يأتي من ثبات الإيمان ووضوح الرؤية وسلام الروح ونقاوة الضمير والاتكال على الله والتسليم بين يديه كأطفال في يد والديهم.

++جوزيف مكرم … المنسق الاعلأمى لأيبارشية المنيا ++