stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

روحية ورعويةموضوعات

القديس بولس في أثينا – الأب أوجينيو إلياس

3.2kviews

‏1-‏ لماذا الاهتمام بالقديس بولس؟
‏2-‏ ماذا نعرف عن بولس؟
‏3-‏ أعمال الرسل.‏
‏4-‏ بولس في أعمال الرسل.‏
‏5-‏ بولس في أثينا (أعمال 17/16-34)‏
‏6-‏ حديثُه إلى الأيْروباغُسْ (17/22-31)‏
‏7-‏ خاتمة
‏8-‏ خطاب ونَصّ الحديث.‏

‏1)‏ لماذا الاهتمام بالقديس بولس؟

نحن مَدينون للقديس بولس بِأقدم نص في العهد الجديد، أَلا وهو الرسالة الأولى إلى أهل ‏تسالونيكي. بالإضافة إلى ذلك، تحتلّ كتابات القديس بولس والمكتوب عنه – بصفة عامة – ثُلثَ ‏العهد الجديد ‏ ‏. واندفاعه الرسولي معروف للجميع: كثير من الجماعات المسيحية الأكثر قِدَمًا في ‏سوريا وآسيا الصغرى واليونان وُلِدت من كرازته. وكانت الجماعات تتناقل رسائله فيما بينها بالفعل بعد ‏سنوات قليلة من صعود الرب. ولكن أهميته لا تقتصر فقط على المظهر الأدبي أو الرعائي، إذْ إنَّ ‏الرسول قد انشأ دراسةً لاهوتية كاملة، خاصة في رسائله «الكبيرة» – أيْ إلى أهل روما وغلاطية ‏وكورنثس ‏ ‏. العقائد الخاصة بالخطيئة الأصلية، وبالتبرير، بشُمولية الخلاص، وبالمواهب، ليست سوى ‏لمحات من إنتاجه الغزير. لقد ساهم القديس بولس بصفة رئيسية في تعريف العالم بِسرِّ الله ومسيحِهِ، ‏وبعِلمِ الخلاص وعِلمِ الصليب. استشهد على يد نيرون، فكان بالحق ذلك «الإناء المختار» (أع 9/15) ‏الذي استخدمه الله خيرَ استخدام؛ وقد ترك ذلك الرجل شديدُ الحَمِيّة آثاره على الإعلان الإلهي ‏المسيحي، وعلى حياة الكنيسة الأولى وعلى حياتنا.‏

‏2)‏ ماذا نعرف عن بولس؟

تُتيح لنا رسائلُه أن نعرف عن طبعه واهتماماته وآماله أكثر ممّا تَكشفه لنا عن تاريخه ‏الشخصي. ومع ذلك فهناك نصَّان لا يزالان أساسيّين على الرغم من طابعهما الجزئيّ والظَّرفِيّ:
‏(غلا1-2)‏ ، ويمثّلان «أساسًا بِنائيًّا لتحديد المراحل الزمنية لحياة بولس» ‏ ‏ حيث يشير إلى المراحل ‏الرئيسية لمسيرته منذ اهتدائه وصولاً إلى أَتعابه لتوصيل الإنجيل إلى الوثنيين الذين من بينهم أهل ‏غلاطية؛ وكذلك 2 كور11 ت، حيث نجد بالتفصيل امتيازاته الرَّسولية المُتَمَثِّلَة في آلامه والإعلانات ‏التي حدثت له ‏ ‏.‏

أما الجزء الأكبر من التفاصيل في سيرة القديس بولس فنجده في أعمال الرسل. وبالفعل، فإن ‏هذا الكتاب تتكون مادّتُه من وقائع من حياة بولس وبطرس؛ ولذلك يُطلَق عليه أيضًا اسم «أعمال ‏الرَّسولَيْن». ومع قليل من اللعب بالكلمات، يطلق عليه آخرون اسم «سفري أعمال الرسل» مشيرين ‏بذلك إلى الروايتين المختلفتين في الكتاب: واحدة قصيرة – مرتبطة غالبًا بالإنجيل بحسب القديس لوقا ‏‏– وأخرى مُنَقَّحَة ‏ ‏. هناك بعض اللَّمحات أيضًا عن استشهاد بولس وبطرس في الرسالة الأولى ‏لأكليمانضوس وفي رسالة القديس أغناطيوس الأنطاكي. أما باقي المراجع – مثل المراسلة الشهيرة فيما ‏بين الرسول وسينيك ‏‎(Sénèque)‎‏ – فهي مُحَرَّفة وغير جديرة بالاهتمام من الناحية التاريخية. مهما يكن ‏فإنَّنا نستطيع التأكيد بأن المصادر التي نملكها لأجل أن نتعرَّف على بولس تفوق بكثير تلك التي ‏نملكها لتحصيل المعلومات حول شخصيات أخرى من مشاهير التاريخ القديم، مثل سقراط وهانيبال. ‏وبالمثل إذا ما قارننا مع بدايات المسيحية: سنجد أن بولس هو وجه من الكنيسة الوليدة ممن نعرف ‏عنه معلومات تفوق بكثير جدًّا ما نعرفه عن الشخصيات الأخرى ‏ ‏.‏

ذلك الغنى المعلوماتي لا يمر بالطبع بدون إثارة بعض مشكلات التوافق ‏ ، لكن ليس ذلك ‏بالشيء المُستَغَرب، إذْ هناك اختلاف في حقبات الكتابة، وكذلك اختلاف فيمن وُجِّهَت إليهم تلك ‏الكتابات، وكذلك اختلاف الكُتَّاب أنفسهم. من المفهومِ أنَّ مُلخَّصًا لِلسيرة الذاتية كتب في ظروفٍ ‏خاصة وأثار كثيرًا مِن الجدل – أَلا وهو غلاطية 1-2 – لا يمكن أن يتماثل في الدِّقَّة مع كتابٍ مكوَّنٍ ‏من مُذكَّرات ووثائق متعدِّدَة. ومع ذلك نجد أنَّ مُعطياتهما تتكامل ويؤكِّد أحدُهما الآخر تقريبًا دائمًا.‏

‏3)‏ أعمال الرُّسل

ستساعدنا بعض الملحوظات المتعلِّقة بِسفر أعمال الرُّسل على أن نضع أنفسنا في الإطار، ‏وعلى فَهمٍ أفضل لِلمضمون. فصحَّة نسب النَّصِّ للوقا لها أساس قوي: إذ يُمثِّل سِفر أعمال الرسل ‏تكملةً لِلإنجيل الثالث – من الناحية الأدبية كذلك –؛ وقد صارا كلاهما سريعًا مادةً لِلقراءات الليتورچية ‏خلال الزمن الفِصحيِّ ‏ ‏. من الطبيعي أن تستخدم الرواية صيغة المفرد الغائب، ومع ذلك نجد أن ‏الفاعل في كثير من المقاطع بصيغة «نحن»، للدلالة على أن الرَّاوي اشترك في الواقعة؛ كما لو كان ‏لوقا يَلجأ بالحقيقة إلى مُدَوَّنات هي عبارة عن «مذكرات مسافر». يبدأ سفر أعمال الرسل حيث تركنا ‏إنجيل لوقا: في أورشليم، يوم صعود الرَّبّ. وهو موجَّه إلى نفس الشخص، أي ثاؤفيلس؛ ويتّضح الرّابط ‏في أع 1/1 حيث يَذكر «الكتاب الأول». ولكن بينما كان ذلك الأخير يتكلَّم عن ‹كلِّ ما عَمِله يسوع ‏وعلَّمَه›، فإنَّ سفر الأعمال يكلِّمنا عن حياة الكنيسة الوليدة وعن انتشار الإيمان؛ وهو يجعلنا نترك ‏المدينة المقدَّسة لِنتابِع إعلان الخبر السَّار ‹إلى أقاصي الأرض› (1/8).‏

لكنّنا في نهاية سفر الأعمال نجد بولس في روما، و‹كان في السجن يُعلِّم بِكلِّ جرأة ما يختصُّ ‏بِالربِّ يسوع المسيح، لا يمنعه أحد› (28/31). وقد تبدو نهاية مُتناقِضة ظاهريًّا! في ذلك الوقت كانت ‏أقاصي الأرض تتمثَّل في أسبانيا، وكان بولس قد أبدى رغبته في الذهاب إليها
‏(رو15/24 و28)، كما أن أكليمانضوس الروماني يوحي إلينا بِأنَّه ذهب إليها بالفعل إذ يقول: «… بعد ‏أن وصل إلى أقاصي حدود الغرب» ‏ ‏. ولكن يبدو أن لوقا أراد أن يعطي معنًى رَمزيًّا لِتلك المدينة ‏وأن يقابِلها بِأورشليم لكي يشير إلى المدى الكونيّ لِلخبر السَّار. سفر الأعمال، الذي بدأ في البيئة ‏الثقافية الخاصة باليهود والفلسطينيين، يشير هكذا إلى دخول الرسالة الإنجيلية إلى عالم جديد: ألا وهو ‏العالم اليوناني والروماني ‏ ‏. بالإضافة إلى ذلك، نعلم من بولس نفسه أن كاتب سفر الأعمال كان ‏معه في الأيام التي سبقت استشهاده: ‹لوقا وحده معي› (2 تيم 4/11) ‏ ، ولكنَّ لوقا أبعد ما يكون عن ‏الانسحاق تحت وطأة الحزن ‏ وعن الإسهاب في أوصاف كئيبة، فيُظهِر بولس مِقدامًا ومُبشِّرًا بِثقة ‏تامة وحرية، لا يستطيع أحدٌ أن يَكبَح جَماحَه – ‏. وفي الواقع ‏فإنَّ نهاية سفر الأعمال لها طابع إنطلاقٍ حقيقيٍّ أكثر من كونه محطةَ وصول ‏ ‏. واضح بالنسبة ‏للوقا أن كلمة الله لا يمكن ربطُها.‏

إنَّ ما استعرضناه لِلتوِّ يجعلنا نَلْحَظ جَدَلِيَّةً مثيرة لِلغاية: كيف استطاع القديس لوقا أن يحوي ‏ثلاثين عامًا من حياة الكنيسة في ثمانية وعشرين فصلاً صغيرًا؟ التَّحدّي الأدبي والتاريخي الذي يتطلبه ‏ذلك العمل لَهو شيءٌ مَهول. علينا إذًا أن نرضى ببعض الافتراضات. لِنلحَظ في المقام الأول أنَّ ‏القديس لوقا يروي سلسلة من الأحداث المختلفة فيما بينها، دون أن يؤثِّر ذلك في سير الرواية، على ‏الرغم من وضوح عدم التواصل الزمني. فهو لا ينوي أن يقول «كل شيءٍ»، ولكنه يختار من بين ‏مجمل المعلومات التي لديه ما يناسب غايته. ومن أجل ذلك فهو يستعين بِطرق تسمح له بالحفاظ على ‏الخيط المتَّصِل لِلأحداث. وقد تكون بداية سفر الأعمال أفضل مثال لذلك، إذ يعيد فيها تجميع ‏المُعطيات الأخيرة للأنجيل كي يشرح ذلك الانطلاق الجديد، ولكي يجعل الانتقال من جزءٍ من العمل ‏إلى جزءٍ آخر مفهومًا ‏ ‏. أمَّا الجدال فيما يختص بنَسَقِ النص وتقسيمِه فإنَّه يظل مفتوحًا دائمًا. على ‏كلٍّ، نجد أنفسنا أمام سَرْدٍ ذي هيكليَّة جيدة لا يمكن إنكارها من الناحية المنطقية والأدبية والتاريخية ‏ ‏. ‏إن به منهجًا إيقاعيًّا بِفضل مُلخَّصات ومناقشات وسفريّات وتفاصيل أخرى تعكس حياة الكنيسة ‏الرَّسولية وتَرسم نَهجًا مِثاليًّا للأجيال المسيحية اللاحقة كيما يسيرون على خُطاه.‏

إن قارئ سفر الأعمال لا يجد أبدًا انطباعًا بِأنَّه يسير وراء رُسُلٍ يندفعون في نشاط محمومٍ ‏ومجنون؛ ولكنه على العكس من ذلك يجد نفسه مُجبَرًا على التوقُّف مرات عديدة للاستماع إليهم. ‏فالخُطَب تمثِّل عنصرًا أساسيًّا في البناء الأدبي لِسفر الأعمال. وحتى نفهم دورها في السرد، ينبغي ‏علينا ألاَّ نُهمل حقيقة أنَّ سفر الأعمال قد كتب بعد بضع عشرات سنين من وقوع تلك الأحداث. ‏فالخطب تُمثِّل مفتاحًا حقيقيًّا لِفهم الكتاب؛ وقد ذُكِرت في أماكن استراتيچية وحدَّدت مراحل المسيرة، ‏كما أنها توجِّه إلى كيفية تفسير الأحداث. بذلك نجد أن دور بولس تحدِّده ثلاثُ خُطَبٍ رئيسية: خِطاب ‏إلى اليهود، في مجمع أنطاكية بسيدية (13/16-41)؛ وخِطاب إلى الوثنيين، في أريوپاغُس أثينا (17/ 22-‏‏31) وخطاب إلى المسيحيين في أفسس، والتي كانت أكبر وآخر جماعة أسَّسها بولس (20/ 18-35). كل ‏واحدة من تلك الخُطب لها مثل مقدمة تحضرية مختصرة تسبقها. بالنسبة لِخطبة أثينا، فإننا نجد رَسْمًا ‏سريعًا لها في الكلمات التي يوجِّهها بولس إلى الوثنيين في لسترة (14/ 15-17) ‏ ‏.‏

‏4)‏ القديس بولس في سِفْر الأعمال

فَلْنُلقِ نظرة وجيزة على سفر أعمال الرسل لِنحدِّد تواجُد بولس ونشاطه. الجزء الأول من الكتاب ‏مُخَصَّص لِكنيسة أورشليم. بعد صعود الرَّب يواظب الرسل على الصلاة، تحت قيادة بطرس، – كانوا ‏لا يزالون يصعدون إلى الهيكل – وعلى إعلان البشارة. وتأخذ عِظة بطرس يوم العنصرة أهمية خاصة، ‏إذ يتبعها اهتداء عدد كبير من الناس، مِمَّا أدَّى إلى ميلاد الجماعة المسيحية حيث يغلِب الفرح والمحبة ‏بطريقة ملحوظة ‏ ‏.‏

إنَّ امتداد الكنيسة خارج أسوار المدينة المقدسة يبدأ بعد رجم إسطفانوس. يظهر رجلٌ غيُّور ‏مُضطهِد لِلجماعة اسمه شاول (8/1ت). كان مُنخرِطًا تمامًا في ذلك النشاط، إلى أن اقترب من دمشق ‏فَغَلَّفَهُ نور من السَّماء، وسقط على الأرض – لا يوجد أي ذكر للحِصان! – وسَمِعَ صوتًا يقول: ‏‏‹شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟› ولَمَّا لم يَعُد يرى شيئًا اضطروا إلى اقتدائه ‹من يده› إلى المدينة، ‏حيث لَبِثَ ثلاثة أيامٍ لا يأكل ولا يشرب، عاكفًا على الصلاة. وإذا تلميذٌ اسمه حَنَنْيا أُوكِلَ إليه أن يضع ‏عليه يديه وأن يُعَمِدَّه ‏ ‏. فأبصر وقضى بِضعة أيام فقط مع التلاميذ ثم أخذ في إعلان البشارة. ولمَّا ‏هدَّده يهود دمشق بالقتل، عاد إلى أورشليم ولكن التلاميذ لم يعطوه ثقتهم. وسريعًا ما تعرَّضت حياته ‏مرة أخرى للخطر – هذه المرَّة من قِبَل الوثنيين – فيُرَحَّل إلى طرسوس، المدينة التي ولِد فيها (9/1ت).‏

سيرافقه برنابا إلى أنطاكية، ومنها سينطلقان بعد ذلك مع يوحنا الملقَّب مرقس، مُوَفدين من ‏الجماعة، في أول رحلة إرسالية إلى قبرص وآسيا الصغرى (11-14). تفاصيل تلك الرحلة تتخطَّى ‏الهدف من مقالنا هذا، ولكن من المثير أن نلحظ كيف يَسوقُ لوقا مختلف ردود أفعال السامعين. هكذا ‏نجد بولس وبرنابا ينالان في لِسترة – بعد معجزة يقومان بها – تكريمًا كما لآلهة: ‹وكانوا يدعون برنابا ‏زاويش وبولس هِرمِس، لأنه كان يتولى الكلام… ولم يستطعا إلا بمشقَّةٍ أن يصِرفا الجمع عن تقريب ‏ذبيحة لهما› (أع 14/ 8-18). ولكننا نجده على التَّوِّ في العدد التالي، يتعرض، بتحريضٍ من اليهود، ‏لِلرجم ولِلرمى خارج المدينة ظانين أنَّه مات! (14/19).‏

يلعب مجمع أورشليم، في الفصل الخامس عشر، دورًا محوريًّا فينقل الحركة من الجزء الأول إلى ‏السفريات المتتالية. وفيه يوافق الجميع على قرار بولس وبرنابا بِعدم جدوى مطالبة الوثنيين المهتدين ‏بالختان. كما وافق بطرس ويعقوب كذلك عن طيب خاطر. ذلك منعطف كبير لِسفر الأعمال حيث لن ‏نجد فيه بعد ذلك سوى بولس في وسط الأحداث.‏

الرحلة الرَّسولية الثانية كان هدفها زيارة إخوة الجماعات التي وُلِدت أثناء الرحلة الأولى (15/36). ‏أدَّى خِلاف بين بولس وبرنابا إلى انفصالهما، لأنَّ برنابا كان يريد أن يصطحب معه مرقس ‏ ‏ بينما ‏كان بولس يرفض ذلك بتاتًا. أخيرًا أبحر برنابا ومرقس قاصدين قبرص بينما جال بولس، يُرافقه ‏سلوانس (سيلا)، في سوريا وكيليكية، ووصلا بعد ذلك إلى دِربة ولِسْتْرَةَ، حيث تقابلا مع تيموثاوس، ‏الذي انضمَّ إليهما (16/1 ت). ويحدث شيء لا يستطيع الذين عاشوه أن يتخيلوا مدى تأثيره، إذْ تقودهم ‏رؤيا غامضة إلى الانتقال من غلاطية في آسيا إلى مَقِدونية: يتوسَّل رجل مقدوني إلى بولس ليلاً: ‏‏‹اُعبُر إلى مَقِدونية، تعال إلى نجدتنا›؛ يقول لوقا: ‹كنا مُوْقِنين أن الله دعانا إلى تبشير أهلها› (16/9 ‏ت). وهكذا وُلِدت جماعتا فيليبي وتسالونيكي، ودخلت المسيحية أوروبا.‏

‏5)‏ بولس في أثينا (أع 17/ 16-34)‏

يصل بولس إلى أثينا بعد العديد من الملابسات، حيث لا يمكث أكثر من بِضعة أيام أو أسابيع ‏قليلة. ثم ينضم إليه في كورنثس سيلا وتيموثاوس – الذي كان قد رحل إلى تسالونيكي لمساعدة ‏المؤمنين هناك على تَحَمُّل التجارب التي واجهتهم ‏ ‏. لم تعد أثينا نفس مدينة العصر الذهبي – القرنين ‏الخامس والرابع قبل الميلاد – ولم يكن الرومان قد أصلحوها بعد، وهو ما حدث على يد أدريان بعد ‏قرن من تلك الأحداث. وعندما يصل بولس إليها، فإن عدد سكانها عندئذ لا يتعدَّى 5000 نسمة، ما ‏عدا النساء والأطفال والغرباء والعبيد ‏ ‏. كانت مدن مقدونية التي زارها في تلك الحقبة أكثر أهميةً من ‏أثينا، وكذلك الحال بالنسبة لِكورنثس وأفسس.‏

كعادته يقابل بولس أوَّلاً يهود المجمع (عدد 17) – لقد وجد علماء الآثار في أثينا كثيرًا من ‏الكتابات اليهودية المحفورة، مما يشير إلى وجود جماعة كبيرة –. ولكن الأهمية الرئيسية لمرور بولس ‏في هذه المدينة هو بلا شك كونُهُ يتقابل فيها وجهًا لِوجه مع الهِلّينية الوثنية. كان بولس قد تجادَل بعد ‏اهتدائه مع الهلينيين في دمشق (9/29)، وكان قد بشَّر بنجاح الجموع الوثنية، مثلاً في أنطاكية بسيدية ‏‏(13/47 ت)، وفي تسالونيكي (17/4)، ولكن ما حدث في أثينا في تلك المرَّة لا يتكرَّر مرة أخرى في ‏سفر الأعمال: إذ لا يجادل بولس اليهود والدُّخلاء في المجمع فقط، ولكنه يتجادل أيضًا مع الناس في ‏الساحة العامة ‏‎، ومن بينهم بعض الفلاسفة الإبيقوريين والرَّواقيِّين ‏‎(estoicos)‎‏: أي صفوة ‏المثقفين العقلانيين اليونانيين (عدد 18). وكما رأينا فإنَّ أثينا لم تكن مثلما كانت من قبل – إذ كانت ‏الإسكندرية وأنطاكية وروما على الأخص تجتذب معلمي الفلسفة والبلاغة أكثر من أثينا – ولكن طابعها ‏الرمزي ظل لا جدال حوله، لأنَّ المدارس الأربع الفلسفية الكبرى كانت قد نشأت في أثينا بالتحديد: ‏أكادمية أفلاطون، ومدرسة أرسطو، وبوابة ‏‎ زينون وبستان إِبيقور ‏. تؤكِّد المصادر غير الدينية ‏المعطيات التي يقدِّمها لوقا وتُظهر أنه، خلال القرن الأول من عصرنا هذا، كانت هناك رِواقيّة ‏‎(estoicismo)‎‏ سائدة روحيًّا وأخلاقيًّا، على خلاف المادية الحسِّيَّة للإِبيقوريين ‏.‏

لم يكن انطباع بولس الأول عن المدينة جيدًا: ‹ثار ثائِرُهُ إذْ رأى المدينة تملَؤُها الأصنام› ‏‏(عدد16). الفعل‏ ‏ يشير إلى غيظ عميق ومتصاعد إلى أن يصل إلى الذَّروة! أمَّا كلمة ‏فإنها تُوحي لنا بِعددٍ فائض من الأوثان. إن البادِئة ‏‎(prefix)‎‏ ‏، تُوحي بِاستهلاك ‏شهواني، في إشارة مُحْتَمَلة لِـ «غابة هِرمِس لِلتماثيل النصفية»، وهو ركنٌ في أرض فَضاء ‏‎‎‏ ‏سُمِّيَ كذلك بسبب كثرة التماثيل النصفية لِذلك الإله. كانوا في الواقع يقيمون هياكل لمختلف أنواع ‏الآلِهة، بما فيها مُجرَّداتٌ مُجسَّدَة، مثل «فضيلة» و«وفاء» و«توافُق»، كانت تُضاف إلى الآلهة ‏المعروفة ذات الأسماء مثل ديونِسْيوس وأَرْتِميس ‏ ‏.‏

فإذًا: وجود هيكل عليه لوحة إرشادية تحمل اسم ‹إلى الإله المجهول› لا يجب أن يُدهشنا. ‏الدلائل الأثرية والشواهد الأدبية على السواء تؤكِّد من جديد صحة سفر الأعمال. إن التعبير ‏(في العدد 23) قد دُرِس دراسةً مُكثَّفة منذ القِدم؛ والمشكلة تُطرَح لأنَّ ذلك التعبير قد ‏يعني «إلى الإله غيرِ المعروف» – بمعنى ‹نَجهَل وجودَه› – أو أيضًا «إلى الإله مجهولِ الاسمِ» – ‏أيْ إلهٍ محدَّدٍ نعرف أفضاله رغم جَهلِنا اسمَه –. هذا الحل الأخير هو الذي تميل إليه بعضُ التقاليد؛ ‏فالإله «غير المعروف» سيكون بالضبط هو الإله «المَعْنِيِّ المقصود»، الذي قد اهتَّم ببعض الشُّؤون ‏ ‏.‏

يسخر الفلاسفة من بولس ويعاملونه على أنه ثَرثار، وهي كلمة تعني حرفيًّا «زارع كلمات». ‏وكان هذا التعبير شائعًا كشتيمة، وهي هنا، في الإطار الذي استُخدِمت فيه، تساوي ‹شخصًا يكرِّر آراء ‏الآخرين دون أن يفهمها› ‏ ‏.‏

إنَّهم يتَّهمونه ‹بِالوعظ بِآلهة غريبة› ‏ ، تمامًا مثلما اتَّهموا سقراط قبل ذلك بِعِدَّة قرون. كانوا ‏يقصدون أنه يقوم بعملٍ انقلابي قد يُفسِد الشَّباب، لأنَّه كان يُنكِر آلهة المدينة ويُدخِل آلهة جديدة. ‏يمكن اعتبار ذكر بولس «لِلإله المجهول»، في بداية حديثه، كدفاع ماهر من قِبَلِه: «ليس جديدًا ولكنه ‏فقط مجهولٌ وغير معلوم الاسم» ‏ ‏. من الواضح بالنسبة لِقارئ سفر أعمال الرُّسل أنَّ ‹يسوع والقيامة› ‏بعيدان كلَّ البُعد عن أن يكونا طَرَفين لـ : إذْ نجد أنَّ القديس لوقا يُفهِم القارئ، ‏بِحساسية، جَهل الفلاسفة الذين كانوا في الغالب، يَخلِطون بين القيامة (‏‏ -أَنَسْتاسيسْ) وبين ‏الإلَهَةِ أنسطاسيا ‏ ‏. كما يُمرِّر أيضًا فكرة مميزة على المستوى الشَّفَهِي تميل إلى تبرئة بولس: في حين ‏أنَّ الاتِّهام يشير إليه بِكونه «مُعلِنًا» ‏‎‎‏ لآلِهَةٍ، يصف لوقا نشاطه بـ«التبشير». كما أن ‏الفعل بَشَّر يحمل في طيَّاته طابِعًا إيجابيًّا، ونستطيع أن نستبدله بـ «إعلانِ خيرٍ أو خبرٍ ‏سارٍّ».‏

‏6)‏ خِطاب بولس في الأرْيوباغُس (17/ 22-31)‏

‏‌أ-‏ مقدمة:‏

على الرغم من كلِّ شيء أخذوا بولس واقتادوه أمام المحكمة. «أرْيوباغُس» كانت تعني هضبة ‏أَريسْ على الأرض الفَضاء، أو تعني مجلس المدينة الذي كان مَقَرُّه هناك. الإطار والفعل ‏‎ يشيران بالأكثر إلى ‹لقاء القبض على› أكثر من الإشارة إلى البحث عن مكانٍ أكثر هدوءًا ‏لِلنقاش؛ الأمر إذًا كان يتعلَّق بتحقيقٍ مبدئيّ غير رسميّ ‏.‏

وعندما يصل يسألونه عن العقيدة الجديدة، وهي سبب دهشتهم. حينئذ ‹يقف بولس في وسط ‏الأرْيوباغُس› ويعلن خُطبته (عدد 22). يخبرنا لوقا بِعناية، قبل تلك الخطبة، عن نوعية المستمعين: ‏‏‹كان أهل أثينا جميعًا والنازلون عندهم من الأجانب يصرفون ساعات فَراغِهم في أمرٍ واحد وهو أن ‏يقولوا أو يسمعوا ما كان جديدًا› (عدد 21) ‏ ‏. لا تشكِّل تلك الملحوظة تقديرًا غير ذي قصد؛ إنَّها ‏تؤثِّر في تفسير الخُطبة وآثارها على الجمهور. يتساءل المحلِّلون إلى أيِّ مدًى يوصِّل لوقا بِأمانة ‏كلمات مُعلِّمه، إذ يقولون: لا يمكننا قبل البحث أن نَستبعد احتمالَ أنَّ رواية لوقا لها هدف لاهوتي ‏ودفاعي. ولكن، حتى مع إقرارنا بأنَّ لوقا ليس محايدًا تمامًا، تقودنا كثير من العناصر إلى استنتاج أنَّنا ‏أمام خُطبة أصلية. من بين تلك العناصر: ذِكْرُ الاستشهاد بالشاعر آراتوس – وهو عنصر له أهمية ‏خاصة – إذْ إنَّ ذلك الشاعر كان من موطن بولس الأصلي ‏ ‏. بتعبير آخر يمكننا أن نقول: إن ما ‏نقرأه هو ما قاله بولس للأثينيين، على الرغم من كونه من خلال ذكرياتِ وملحوظاتِ وإنشاءِ لوقا ‏ ‏.‏

‏‌ب-‏ بعض الملحوظات البلاغية والأدبية:‏

إنَّ تفسير الخطاب – والرِّواية – يُمثِّل تحدِّيًّا حقيقيًّا؛ فهي لكي تصل إلى هدفها وتساعدنا على ‏فَهم ما يريد الكاتب أن يقوله، لا ينبغي أن تهمل المظاهر الشكلية، أي الطريقة التي بها تُقدَّم الأفكار. ‏علينا أن نُحِدَّ أنفسنا في نبذة سريعة حول بعض المصادر التي تقودنا إلى فَهم النَّص. مثالٌ لِلبداية: ‏الملحوظة حول تَديُّن الأثينيين التي تفتتح الخُطبة: «يا أهل أثينا، أراكم أكثر الناس تَديُّنًا على كُلِّ ‏وجه». إنَّ كلمة ‏ كانت تعني إمَّا التَّقوى أو الخُزَعْبَلات، وما كان يُفَرِّق ويساعد على ‏أخذِها على الوجه الإيجابي أو السَّلبي هو الإطار. ولكننا نجد أنفسنا هنا أمام لعب مزدوج لِلأُطُر. ‏بالنسبة للمستمعين، واضحٌ أنَّ بولس قد تأثَّر بتديُّنِهم: كان قد دُعِيَ لكي يشرح فكرته وبدأ الخُطبة ‏بالاستحواذ على أن يُصغوا طَوْعًا ‏‎(captatio benevolentia)‎، بحسب القواعد المتَّبَعة حينذاك في البلاغة ‏الكلاسيكية؛ لا يوجد أفضل من ذلك لكي يكسب انتباهَهم واستحسانهم، وهو ما تحقَّق من خلال ذلك ‏التصريح الذي هو في الوقت ذاته حقيقيٌّ ومجامِلٌ ‏ ‏. القارئ الذي يقرأ للوقا يجد نفسه في وضعٍ ‏مختلف تمامًا: فهو يعرف حَنَق بولس أمام الأوثان، وقد قرأ لِتَوِّه ملاحظةً عن الاندهاش أمام الطابِع ‏الفُضولي للأثينيين. استرسال الخُطبة سيُتيح للقارئ أن يحكم بطريقة أفضل على فكرة ونوايا الرسول، ‏ولكنه يكون قد تلقَّى بالفعل تحذيرًا حول أخطاء عابدي الأوثان.‏

بالنسبة لِبناء الخطبة، فإنّ مفاهيم «الجَهل» و «الإعلان» تلعب دورًا أساسيًّا. يتِمّ حَشْرٌ عندما ‏تكون هناك كلمة أو فكرة بارزة بفضل موقعها في وسط البناء الهيكلي المتماثِل للنص ‏‎(estructura ‎simetrica)‎‏ ، مِمَّا يساعد على إبراز الموضوع الرئيسي: الجهل بالله. إن هذا الإله المجهول – حرفيًّا ‏‏«غير المعلوم»: ‏ ، في العدد 23، هم يعبدونه ويَمْتَنُّون له بجهلٍ، وهو يتعارَض بسبب ‏موضعه في الخُطبة مع زمن الجهل: ‏ الذي في العدد 30. ما يقابل هذا هو ‏الإعلان عن الإله الحقيقي، الذي يقوم به بولس في العدد 23ب، والاهتداء الذي يجريه الله في العدد ‏‏30.‏

تتمحوَر الحُجَّة حول ما يمكننا تسميته باللاهوت السَّلبي: أيْ اِستبعاد ما هو ليس في الله. وهي ‏تُجرَى في جزأَين – العددَين 24 و25 والأعداد من 26 إلى 29 – يحتويان على التوالي مضمونًا كونيًّا ‏ومضمونًا خاصًّا بعلم مفهوم الإنسان. من السهل ملاحظة أسلوب النفي: الله لا يسكن في هياكل، ولا ‏يُخدَم بِأَيْدٍ بشريَّة، ولا يُشبه ما يمكن التعبير عنه من خلال تماثيل… ويُقابِل ذلك النفي تصريحاتٌ ‏تصحِّح الفكرة عن الله وتمهِّد الطريق أمام التوبة. تلك التوبة يتم التعبير عنها بواسطة الفعل‏ ‏‎ (metanoe)‎وهو يعني تغيير في العقلية، أي تَخَطِّي للذات مدفوعًا من معرفة جديدة تأتي من البشارة ‏‏(الإعلان) وتضع حدًّا لِزمن الجهل.‏

يستشهد بولس بالشاعر أراتوس – بِدُون ذكر اسمه – ويؤكِّد الفكرة المقدَّمة: ‹ففيه حياتنا ‏وحركتنا وكياننا› (عدد 28) ‏ ‏. ولكن ذلك الاستشهاد يجعل مستمعيه يفهمون أنه لا يجهل ثقافتهم. ‏وفي الوقت نفسه نجد أن إرجاع المثل إلى ‹شعراء منكم› – بينما كان الشاعر من منطقة بولس نفسه ‏‏– يُلَطِّف من تأثير نقده ويبيّن أنه بعيد كل البعد عن الرغبة في إدانة كلِّ شيء.‏

‏‌ج-‏ ‏ مضمون الخُطبة

‏-‏ الإله الحقيقي: «إننا أمام خُطبة، من أوّلها إلى آخرها تتكلَّم عن الله، عن الإله الحقيقي»‏ ‏. ‏الأخطاء الثلاثة حول طبيعة الله والتي يُشدِّد عليها النَّفي الثلاثي الذي لاحظناه، مع الإطار ‏المُتمثِّل في المقابلة – المُوازاة التي تَستخدم التَّضادِّي – بين موضوعَي الجهل والإعلان، لا ‏تترك أيَّ مجال للشكِّ حول الهدف الرئيسي للخطبة. يقوم بولس بِنقدٍ لا تَنازُلَ فيه للديانة ‏الوثنية، ويُعلن الإله الحقيقي، الذي لا يمكن الخلط بينه وبين «ذاك» – الغير محدَّد – الذي ‏يعبدونه (عدد 23).‏

لقد رأينا كيف كان بولس يستخدم بسهولة قواعد البلاغة اليونانية وكيف لا يَنفُر مِمَّا هو حقيقي ‏في تقليدهم. ولكن أفكاره هي من أصلٍ كتابيّ ومسيحيّ. إنَّه يتكلَّم عن الله كما أُعْلِن لِليهود، وبهذا ‏المعنى نجد توافقًا ملحوظًا بين النص الذي بين أيدينا وبين الفَصلين الثالث عشر والرابع عشر من سفر ‏الحكمة، وهما غالبًا المصدر الموحِي بالخُطبة. هناك أصداء أخرى من الكتاب المقدس يمكن أن ‏نستشِفَّها فيها، خصوصًا صدى رواية الخلق بحسب سفر التكوين؛ وكذلك أشعيا، عندما يرفض فكرة ‏أن الله يحتاج إلى هيكل لكي يسكن فيه (66/1 ت)، أو أرميا عندما يتحدَّث عن قُرب الله (23/23)‏ ‏. ‏ولكن إله بولس هو ذاك الذي بطريقة فريدة قد أقام يسوع – لا يأتي ذِكرُ اسمِهِ في النص – والذي به ‏سيَدين العالم (عدد 31).‏

‏-‏ نهاية (مصير) الإنسان: بالنسبة لِبولس، الله هو أصل ونهاية الحياة البشرية؛ لقد صنع ‏الإنسان لكي يبحث الإنسان عنه (عدد 27). والبحث عن ذلك الإله ‹القريب من كلِّ واحد ‏منا› هو نشاطٌ رُوحيٌّ بَحْتٌ وحُرّ؛ ولا يتم بواسطة ‹أيدٍ بشرية› (عدد 25). عبادة الأوثان هي ‏بالضبط عكس ذلك: اختزال الله على مستوى ‹صناعة الإنسان وخياله› (عدد 29).‏

إذًا فجَوهر الله نفسُهُ هو الذي يُحدِّد الطبيعة – الروحية – لعلاقاته مع البشر. فإقامة ‹الرجل ‏الذي حدّدَه› (عدد 31) هي الضّمان والعُربون لِقيامتنا. فالقيامة بالنسبة لبولس هي بالفعل نقطة الحَسْم ‏للإيمان‎(punctus stans aut cadens)‎‏. بدون قيامة – وهو سيفسّر ذلك في رسائله – يكون كل نشاط ديني ‏للإنسان باطلاً، لأنَّ ذلك النشاط سيتركنا في نفسِ وضعِنا السابق له؛ ولن يُفيد ذلك الإيمان حينئذ ‏سوى في جَعْلِنا ‹أشقى الناس جميعًا› (1 كور 15/12 ت).‏

‏-‏ شُمولية الخلاص: سنكتفي بملاحظة بعض العناصر التي تشير دون شك إلى البعد الشامل ‏‎(universal)‎‏ لرسالة بولس: فهو يُلغي امتياز أُصوله اليهودية؛ ويساند فكرة خلق الجنس ‏البشري انطلاقًا من مبدإٍ واحد (عدد 26)؛ ويؤكِّد وجود طبيعة واحدة ومصير واحد لكل ‏البشر، على أنّ هؤلاء هم في صِلة قرابة مع الله (العددان 28 و30).‏

‏‌د-‏ ردود الفعل حول الخِطاب

بنفس القدر الذي كان به بولس يعتبر أنَّ الديانة التي لا تعطي ردًّا لمأساة الموت هي شيء لا ‏معنى له وتُسيء كذلك لله (1 كور 15/15)، فإنَّ اليونانيين كذلك كانوا يجدون أن القيامة شيء غريب ‏جدًّا على فِكرهم. مجرَّدُ ذِكْرِها أطلق السُّخرية وأدَّى إلى طرد بولس: ‹سنستمع لك عن ذلك مرةً أخرى› ‏‏(عدد 32)‏

يترك بولس إذًا أثينا ويصل إلى كورنثس. ولا يخلو خروجه من الأرْيوباغُس من تَشابُهٍ مع خروج ‏يسوع من الناصرة بعد خُطبته ومحاولة بعض أقربائه قتلَه: فكلاهما يذهبان ويمرَّان ‹في وسطهم› حتى ‏يتابعا طريقهما ‏ ‏. لا يفوت لوقا ذِكر أنَّ البعض قد نالوا الإيمان على الرغم من كلِّ شيء، ومن بينهم ‏دينيس الأريوباغي وامرأة اسمها داماريس (عدد 32).‏

‏7)‏ كخاتمة
لقد حاولنا أن نتبع بولس إلى أن وصل إلى أثينا في نص أعمال الرُّسل. وقد فعلنا ذلك ‏مصحوبا بمقدِّمة – بالطبع غير كاملة – لِشخصية الرسول ولكتاب القديس لوقا. إنَّ زيارة بولس لأثينا، ‏والتي جاءت عابرةً نوعًا ما، وخُطبته في الأريوباغُس، تُعتَبَران «جزأيْن أساسيّين في اللوحة التاريخية ‏التي يرسمها سفر أعمال الرُّسل» ‏ ، فهما يمثِّلان دخول الرِّسالة المسيحية – التي كانت حتى هذه ‏اللحظة مقتصرة على العالم الثقافي اليهودي/الفلسطيني – في عالم جديد ألا وهو المجتمع ‏اليوناني/الروماني، ولذلك فهما تحتاجان إلى تعمُّقٍ لاحقٍ. بدلاً من محاولة تلخيص ذلك العرض، نعتقد ‏أنه من الأفضل هنا أن نقترح بعض خيوط الأفكار التي تنفتح أمام المؤمنين الذين يقرؤون العهد ‏الجديد.‏

‏‌أ-‏ ‏«فشل» بولس

الملحوظة الأولى تتعلَّق بعدم التناسب الملحوظ بين حجم الرسالة الإنجيلية وبين صفات خُدَّامِه. ‏فبولس، رسول الأمم، هو مضطهد سابق للكنيسة؛ ولا يحاول سفر أعمال الرسل إخفاء تخوُّف الإخوة ‏منه في البداية، ولا اختلافه مع مرقس وبرنابا، مساعدَيْهِ الأوَّلَيْن، ولا بعض التصرفات الأخرى التي أتى ‏بها التلاميذ وتُعتَبَر فقيرة جدًّا مقارنةً بالخبر السار الذي يحاولون نشرَه. وعلى الرغم من وعيهم ‏بحدودهم الشخصية، فإن ذلك لم يوقِفْ المُبشِّرين بالإنجيل.‏

وإن لم يكن الخُدَّام دائمًا على المستوى المُفتَرَض فيهم، فمن المؤكَّد أيضًا أن مُتَلَقِّي الرِّسالة هم ‏أيضًا غير كاملين: فاليونانيون لم يكن لديهم التحضير الذي مَنَحَهُ العهد القديم، وإضافة إلى ذلك فإن ‏لاهوتهم الطبيعي كان موصومًا تمامًا بالأخطاء. وفي الوقت الذي يخصُّهم فيه بولس بتأديبٍ قاسٍ، ‏فإنه يعترف كذلك بما كان يمكن أن يوجد من خيرٍ في استعداداتهم الشخصية، ومن الحقيقة في ‏تقاليديهم. اليهود من جهتهم لم يُظهِروا دائمًا استقبالاً أفضل. في رسالته إلى أهل كورنثس، يقول ‏الرسول بوضوح في هذا الصدد: إنَّ المسيح المصلوب سيظل دائمًا ‹عِثارًا لليهود وحماقة للوثنيين› (1 ‏كور 1/23). لقد كان كذلك بالنسبة له حتى اقترابه من أبوا ب دمشق!‏

من الواضح بالنسبة لِبولس أنَّ ما نعتبره نحن فشلاً، يدخل تمامًا في منطق التبشير. فهو يعرف ‏أنه يتعرَّض لِسخرية البشر، ولكنه يظلُّ أمينًا لمخطَّط الله الذي يريد أن يخلِّص العالم ‹بِحماقة التبشير› ‏‏(1 كور 1/19). وقد لوحظ في هذا الصدد التشابه بين فشله وبين فشل يسوع بحسب الأسلوب الأدبي ‏للقديس لوقا. يكمننا هنا إضافة ابتهاج الرَّبّ المدهش – والذي يُورِده لوقا فقط – أمام رفض كلمته من ‏قِبَل حكماء هذا العالم (لو 10/21)، أو وعيه بطرق الاستقبال المتباينة لِكلمته ولِشخصه والتي يعبِّر ‏عنها في مثل الزارع (لو 8/5 ت). إن الرَّفض والفشل هما المخاطرة التي يأخذها الله على عاتقه – ‏وكذلك خُدّامُهُ – احترامًا لِحرية البشر ‏ ‏.‏

‏‌ب-‏ طريقة الإعلان

لا شكَّ أنَّ لوقا يقدِّم لنا تصرُّفات بولس على أنها نَموذجية، مبرِّرًا الشكل والمضمون للخطبة ‏التي ستصير بالفعل مثالاً خِطابيًّا خصوصًا بسبب تَكَيُّفِهِ مع مستمعيه. بالنسبة للقديس إيرينيوس، من ‏الواضح أن غياب اليهود أتاح لِبولس أن يتكلَّم بِحرية أكثر وأن يشير بصفة خاصة إلى وحدة الجنس ‏البشري ‏ ‏. أما القديس أمبروزيوس فإنَّه يرى من جانبه أنَّ بولس قد أحسن صُنعًا بِأخذه في الاعتبار ‏استعداد جمهوره لكي لا «يَستهزِئ به من قبل أن يسمعوه» ويَتساءل: «متى تعتقدون أن الأثينيين كانوا ‏سيتمكَّنون من الإيمان بِأنَّ الكلمة قد صار جسدًا وأن العذراء حبِلت من الروح القدس، وهم الذين سَخِروا ‏من سَماعهم عن قيامة الأموات؟» ‏ ‏. لذلك فإن قارئ سفر أعمال الرسل لا يشك ولو للحظة واحدة أنَّ ‏بولس، إذا كان لم يُوبِّخْهم بقسوة على وثنيتهم (راجع روم1)، فذلك ليس لشيء إلا لمحبته التي جعلته ‏يرى أن تَقَوَى هؤلاء الأشخاص الملموسين – وإن كانت مُبالَغًا فيها – هي علامة على بحث ‏ ‏.‏

لدى وصول بولس إلى كورنثس – أي بعد مغامرته في أثينا مباشرةً – يبدو وكأنه قد أُصيب ‏بخيبة أمل. قرارُه الحاسم بأَلاَّ يعلن شيئًا آخر ‹سوى يسوع المسيح، وإيَّاه مصلوبًا› ‏ ، قد يُبيِّن أنه كان ‏يريد أن يتخلَّى عن استراتيجيته السابقة: فلا يوجد بالفعل في خطبته لِلفلاسفة أيُّ ذِكرٍ لِصليب المسيح. ‏فتراجعه قد يحتوي كذلك على رفض للأسلوب المُستخدَم من قبل: ‹لم يعتمد كلامي وتبشيري – في ‏كورنثس – على أسلوب الإقناع بالحكمة … وليس بحكمة هذه الدنيا› (راجع 1 كور 2/ 1-6). فهو كمن ‏يلوم نفسه لأنَّه ألغى من قبل إعلان السر المكتوم منذ الأزل (1كور 2/8) ولأنَّه حاول أن يتكلم بِلغة ‏البشر وأن ينطلق من حقائقهم ليكمِّلَها ‏‎(racheter leurs verités)‎‏.‏

السؤال الذي يطرح نفسه هو إذا ما كان من الضروري حسم الأمر واختيار طريقة أو أخرى. ‏ولكن بذلك قد نفقد حينئذ إحدى المعطيات الأساسية: أي تلك التي تخصُّ ممارسة ‏‎(praxis)‎‏ الكنيسة ‏والتي فيها، وإنْ مَثَّلَ ‹أسف› بولس الذي تحدثنا عنه تحذيرًا لا يمكن نُكرانُه، فَمع ذلك تظلُّ رغبته في ‏أن يصير ‹كُلاًّ لِلكلِّ› (1 كور9/22) دافِعًا لخطوات تبشيرِهِ. بِلغة اليوم نقول: الحوار والإعلان، ‹يجب ‏عَمَلُ هذا دون إهمال ذاك› (راجع لو 11/42).‏

‏‌ج-‏ ‏ دوافع بولس:‏

كثيرًا ما نضطر إلى ترك أحكامنا المُسَبقة وفهمنا المفترَض لكي نتمكن من إدراك الأشياء ‏بطريقة أفضل. وذلك هو بالضبط ما يجب علينا عَمَلُه لكي نُنصِف بولس ولكي نفهم تاريخه. علينا أن ‏نحاول أن نعيد إليه إنسانيَّتَه؛ وأن نَرجِع إلى الزمن الذي كان فيه شابًّا ذا طبعٍ حادّ، تربَّى على يد ‏شريعة متشدِّدة – كما نرى في رسائله بلا أدنى شك – تصل إلى حدِّ تعذيبِهِ وإلى القيام بأفعال سَيظلّ ‏نادمًا عليها طَوال حياته. علينا أن نضع أنفسنا مكانه على طريق دمشق عندما يدركه النور ليقلب كلَّ ‏كيانه رأسًا على عقب إلى الأبد – كان من الضروري إلقاؤه على الأرض وتَرْكُه في الظلام والصمت، ‏في احتياج وتَبَعيّة كاملَين للآخرين، لكي يَكُفَّ عن أن ‹يرفُس المِهماز› (أع 26/14). علينا أن نستمع ‏لذلك الرجل المهموم لِفكرة رؤية إنسياب حياته وحياة إخوته هباءً أو بدون رجاء ‏.‏

إن ‹سعي› بولس هو محاولة ‹لِلإمساك› بالمسيح الذي ‹قبض› هو على بولس (في 3/12)، ‏والذي أعاد له الحياة كما ‹لِسِقْطٍ› (1 كور 15/8) ومنحه ‹الحرية› (غلا 5/1). لقد ‹بذل› حياته لكي ‏يُعرَفَ المسيح (2 كور 12/15). لا يتعلَّق الأمر باختيار أو مبادرة شخصية بل ‹بضرورة› و ‹بِدعوة› ‏إلهية (1كور 9/16ت؛ غلا 1/15). إن ما يدفعه هو حُبُّه لإِخوتِه (رو 9/3؛ …إلخ)، إنها ‹محبة المسيح ‏التي تحثُّه› (2 كور 5/14). إن التبشير بالنسبة لِبولس هو أمر يتعلَّق بالمحبة.‏

الأب أوجينيو إلياس
تونس، 25 يونيو 2008‏
افتتاح سنة القديس بولس.‏
الخُطبة في الأريوباغُس: أعمال 17/22 ب – 34‏

‏22ب- «يا أهل أثينا، أَراكم شديدي التَّديُّن من كلّ وجه.‏
‏23- فإني وأنا سائر أنظر إلى أنصابِكم وجدت هيكلاً كُتب عليه: إلى الإله المجهول. فما تعبدونه وأنتم ‏تجهلونه، فذاك ما أنا أبشّركم به.‏
‏24- إن الله الذي صنع العالم وما فيه، والَّذي هو ربُّ السَّماءِ والأَرض، لا يسكن في هياكل صنعتها ‏الأيدي،
‏25- ولا تخدُمُه أيدٍ بشريَّة، كما لو كان يحتاج إلى شيء. فهو الذي يَهَب لجميع الخلق الحياة والنفس ‏وكلَّ شيء.‏
‏26- فقد صنع جميع الأمم البشرية من أصلٍ واحد، ليسكنوا على وجه الأرض كُلِّها، وجعلَ لِسُكناهُم ‏أزمنةً موقوتَة وأمكنَةً محدودة،
‏27- ليبحثوا عن الله لَعَلّهم يتحسّسونه ويَهتدون إليه، مع أنَّه غيرُ بعيدٍ عن كل مِنَّا.‏
‏28- ففيه حياتُنا وحركتُنا وكيانُنا، كما قال شعراءُ منكم: فنحن أيضًا من سُلالَتِه.‏
‏29- فيجب علينا، ونحن من سلالةِ الله، ألاَّ نحسب اللاَّهوت يشبه الذَّهب أو الفضَّة أو الحجر، إذا ‏مثَّله الإنسان بصناعته وخياله.‏
‏30- فقد أَغْضى الله طَرْفَه عن أيَّام الجهل وهو يعلن الآن لِلنَّاس أن يتوبوا جميعًا وفي كل مكان،
‏31- لأنَّه حدَّد يومًا يَدين فيه العالم دينونة عدلٍ عن يد رجل أقامه لذلك، وقد جعل للناس أجمعين ‏برهانًا على الأمر، إذْ أقامَه من بين الأموات».‏
‏32- فما إن سمعوا كلمة قيامة الأموات حتَّى هَزِئَ بعضُهم وقال بعضُهم الآخَر: «سنَستمع لك عن ذلك ‏مرةً أُخرى».‏
‏33- وهكذا خرج بولس من بينهم،
‏34- غيرَ أنَّ بعض الرِّجال انضمُّوا إليه وآمنوا، ومنهم ديونيسيوسُ الأريوباغيّ، وامرأةٌ اسمُها دامَريس ‏وآخرون معهما.‏