stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

عقائدية

الوعي الإنساني ليسوع بذاته وبرسالته- ترجمة الأب / ميلاد صدقي زخاري اللعازري

1.3kviews

JES-1035الوعي الإنساني ليسوع بذاته وبرسالته- أربعة اقتراحات من لجنة اللاهوت العالمية – ترجمة الأب / ميلاد صدقي زخاري اللعازري

عقب قيامي بإرسال خطاب إلى الكاردينال وليم ليفادا رئيس مجمع عقيدة الإيمان، تلقيت خطاباً بالموافقة على ترجمة ونشر هذه الدراسة من سكرتارية لجنة اللاهوت العالمية مؤرخاً في 2/8/2006.

مقدمة:

قامت لجنة اللاهوت العالمية بمعالجة موضوعات كريستولوجية مرتين في السابق. وفي الوثيقة المنشورة عام 1980، تحدث بعض أعضاء اللجنة عن خلاصة توجب على اللاهوتيين إعدادها، من أجل أن يضاف إلى تعليم خلقيدونية عن شخص يسوع المسيح وطبيعتيه بعد سوتيريولوجي. وفي نفس السياق، تم التلميح إلى المسألة الصعبة المتعلقة بوعي المسيح وعلمه. ولاحقاً، تمت معالجة موضوع الوجود المسبق ليسوع المسيح والجانب الثالوثي لالآمه. دونما حكم مسبق على المستقبل، نوهت اللجنة إلى أن الدراسة عن وعي يسوع وعلمه الإنساني تظل محتاجة إلى استكمال.

كما فعلت اللجنة في السنوات السابقة، ترغب الآن أيضا في أن تُظهر بشكل أفضل المكانة التي احتلها في خلاص البشر ناسوتُ يسوع ومختلفُ “أسرار” حياته الأرضية مثل العماد والتجارب والنزاع في جتسماني. ولهذا قررت اللجنة القيام ببحث جديد عن الحياة المعرفية والعاطفية لمن يعرف الآب وأراد كشفه للآخرين. لا تنوي اللجنة معالجة كل المسائل المتعلقة بالموضوع مهما كانت أهميتها. ولكن يتطلب روح العصر تقديم ردود عن بعض المسائل الخاصة بيسوع المسيح، وهي مسائل تحرك أفكار البشر وقلوبهم اليوم.

أي إنسان عاقل يقبل أن يضع أمله في شخص ينقصه العقل البشري؟ لا تقتصر أهمية هذا الرد على من عاشوا في القرن الرابع فقط، فهو سؤال يحتفظ بواقعيته اليوم، حتى وإن اختلف السياق.

من تطبيق منهجية النقد التاريخي على الأناجيل انبثقت تساؤلات حول يسوع المسيح، ووعيه بالوهيته وحياته وموته- ينبوع الخلاص– ورسالته وتعليمه، وخصوصاً حول مشروعه لتأسيس الكنيسة. تعددت الردود– وقد ناقض بعضها بعضاً– التي قدمها خبراء طبقوا هذه المنهجية النقدية التاريخية. وبمرور الزمن لم يتناقص الجدل، بل تتابعت المناقشة حول هذه المسائل ليس في المجلات العلمية فحسب، بل تجاوزتها أيضا إلى الصحف اليومية أو الأسبوعية، في الأدب الشعبي وفي وسائل الاتصال الحديثة.

يُظهر هذا الانتشار الواسع أن لهذه المسائل أهمية كبرى لدى قطاعات مختلفة من الناس، كما هو الحال بالنسبة للمسيحيين أنفسهم الذين يجدون أحياناً صعوبة في إعطاء الرد الوافي لكل من يسألهم عن سبب الرجاء الذي فيهم (1 بط 3/15). في الواقع، من يريد، بل من يثق في مخلص يجهل انه مخلص أو لم يرد أن يكون كذلك؟

من ذلك نفهم أن الكنيسة تعلق أهمية كبرى على مسألة الوعي والعلم عند يسوع، على الصعيد الإنساني. لأن الأمر يتعلق، في هاتين الحالتين،  ليس بمسائل لاهوتية نظرية، ولكن بأساس رسالة ومهمة الكنيسة. حينما تبشر الكنيسة بملكوت الله، فهي تدعو البشر إلى التوبة، إنها تكرز بالإنجيل، وهي تقترح وتقدم الوسائل الضرورية للمصالحة وللتحرير وللخلاص. إنها تريد أن تقدم لجميع البشر وحي الله الآب، في الابن، بواسطة الروح القدس. الكنيسة لا تخجل من تقديم نفسها للعالم كله كمكلفة بهذه المهام، إذ إنها تعترف علناً بأنّها اقتبلت هذه الرسالة وهذا التعليم من يسوع ربها. إذاً، فالكنيسة حينما تُسأل عمّا إذا كانت فعلاً قد كلفت بهذه الأمور، فهي تجاوب معبّرة عن إيمانها وعن اقتناعها. من هنا الأهمية اللاهوتيّة والرعويّة للمسائل المطروحة حالياً حول وعي يسوع وعلمه الإنسانيين.

حينما نعالج هذه القضايا اللاهوتية والرعوية البالغة الأهمية، ينتج من المناقشات الحالية نوعان من الأسئلة:

يجب أولاً الحديث عن العلاقة بين التأويل الكنسي- العقائدي، من ناحية، والتأويل التاريخي– النقدي، من الناحية الأخرى. هذه المسائل التأويلية الصعبة هي أكثر حدة في مجال بحثنا. حسب تعليم المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، يتوجّب على تأويل الكتاب المقدس البحث عما أراد الكتّاب الملهمون قوله حقاً. والحال إنه في مجال الاستقصاء عن النوايا الأولى للتأكيدات، يجب الأخذ في الاعتبار أيضاً مضمون الكتاب المقدس ووحدته، التي يجب فهمها على ضوء التقليد الحي للكنيسة كلها وعلى ضوء تشابهية الإيمان. في هذا الصدد الواسع تريد لجنة اللاهوت العالمية، إذ تعالج هذا الموضوع، أن تبدأ، وفقاً لتعليمات المجمع الفاتيكاني الثاني، بالموضوعات الكتابية. فدراسة الكتاب المقدس، في الواقع، يجب أن تكون كل روح اللاهوت.

السؤال الثاني، وهو لا يقل صعوبة عن الأول، يبزغ من دراسة تقليد الكنيسة الحي. فالكنيسة ولاهوتها يعيشان في التاريخ. ولذلك، فمن أجل اقتراح شرح للإيمان المنقول مرة واحدة (= عن طريق الرسل، بما أن الأمر متعلق بالعهد الجديد)، كان من الضروري استخدام اللغة الفلسفية للعصر، وذلك بطريقة خاصة ونقدية. تتأتي المجادلات حول موضوعنا من تنوع المفاهيم الفلسفية. لذلك، ففي ما تعرضه لجنة اللاهوت العالمية، لا تريد الانطلاق من أحكام مسبقة تفرضها اصطلاحات فلسفية معينة. إنها تتناول الموضوع انطلاقاً من مفهوم مشترك مؤدّاه نكون نحن كبشر حاضرين لأنفسنا، في “قلبنا” في كل أفعالنا. ومع ذلك، فنحن نعلم أن وعي يسوع يشارك في فرادة شخصه وطابعه السري. لذلك فشخص يسوع يتخطى بمراحل أي اعتبار عقلاني محض. لا نستطيع معالجة المسألة المعروضة علينا إلا على نور الإيمان بأن يسوع هو المسيح، ابن الله الحي (راجع مت 16/16).    

أربعة اقتراحات

تنحصر دراستنا في بعض التأكيدات الكبرى حول ما كان ليسوع من وعي متعلق بشخصه وبرسالته. الاقتراحات الأربعة الواردة بعده تتخذ موقعها داخل المضمون الدائم للإيمان بالمسيح. عن قصد، لا تدخل هذه الاقتراحات الأربعة في الصياغة اللاهوتية التي تحاول التعبير عن كيفية هذا الجزء من الإيمان (= أي عن كيف كان يعي ويعلم يسوع). لذلك فهي لن تتضمن محاولات صياغة لاهوتية عن الكيفية التي بها يتمفصل أو يتموقع وعي يسوع داخل ناسوت المسيح.

تتبع التعليقات الخاصة بهذه الاقتراحات الأربعة نفس الخطة تقريبا بمراحلها الثلاث:

1. نعرض أولاً ما تضمنته الكرازة الرسولية عن المسيح،

2. نحاول ثانياً اكتشاف ما تسمح لنا بقوله الاناجيل الإزائية– من خلال اتفاق خطوطهم المختلفة– عن وعي يسوع،

3. ننظر، أخيراً، في شهادة إنجيل القديس يوحنا الذي يقول غالباً وبطريقة صريحة ما تتضمنه الإناجيل الإزائية بطريقة بالأحرى تلميحية، ودونما تعارض بينهم.

الاقتراح الأول

الصيغة

تشهد حياة يسوع عن وعيه بعلاقته البنوية بالآب. تتضمن تصرفاته وكلماته، التي تتعلق بـ “عبد” كامل، سلطة تتجاوز سلطة الأنبياء القدامى، لأنها سلطة تعود إلى الله وحده. لقد استمد يسوع هذه السلطة المنقطعة النظير من علاقته الفريدة بالله الذي يدعوه “أبي”. لقد كان لدى يسوع الوعي بكونه ابن الله الوحيد، وبهذا المعنى، بكونه الله.

التعليق

1-1- إن بشارة الرسل عقب الفصح، التي نادت بيسوع ابناً، وابناً لله، ليست نتيجة تطور متأخر أفرزته الكنيسة الأولى، فقد كانت متضمنة سابقاً في أقدم صيغ الكرازة والاعتراف بالإيمان أو التسابيح (راجع روم 1/3، فل 2/6). يذهب القديس بولس إلى حد تلخيص مجمل كرازته في تعبير “إنجيل الله بخصوص ابنه” (روم 8/3، غل 4/4). لذلك فبنوة يسوع الإلهية هي مركز الكرازة الرسولية التي يمكن فهمها على أنّها توضيح، على نور الصليب والقيامة، لعلاقة يسوع بأبيه.

1-2- في الواقع، إن تسمية الله “الآب”، التي أصبحت ببساطة الأسلوب المسيحي لتسمية الله، تعود إلى يسوع نفسه: هذه إحدى المعطيات الأكيدة والتي أسفر عنها البحث التاريخي حول يسوع. ولكن يسوع لم يدعو الله “أباً” أو “أبي” على وجه عام، بل نجد أن يسوع حينما يتوجه إلى الله في الصلاة يناديه باسم “الآب” (مر 14/36، راجع روم 8/15، غل 4/6)، وفي هذا شيء جديد. إن أسلوب يسوع الشخصي في الصلاة (راجع مت 11/25)، وأسلوب الصلاة الذي علمه لرسله (راجع لو 11/2) يدلان على التمييز – الذي سيصبح أكثر وضوحاً بعد الفصح (راجع يو 20/17) – بين “أبي” و”أبيكم”، بالإضافة إلى الطابع الفريد وغير القابل للنقل للعلاقة التي تربط يسوع بالله. حتى قبل ظهور سر يسوع للبشر، توفر للإدراك الإنساني لوعي يسوع يقينٌ فريد وعميق: علاقته بالآب. وبالتالي فإن مناداته لله كـ”أب” تتضمن وعي يسوع بسلطته الإلهية وبرسالته. لهذا فإنه لأمرٌ لا يخلو من سبب كوننا نجد في هذا السياق تعبيراً “يكشف” (“قد سلمني أبي كل شيء، فما من أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا من أحد يعرف الآب إلا الابن ومن شاء الابن أن يكشفه له” (مت 11/27، راجع مت 16/17). انطلاقا من وعي يسوع بكونه من “يعرف الآب” معرفة كاملة، يعرف يسوع بالتالي أنه أيضاً في الوقت نفسه مرسل الوحي النهائي عن الله للبشر. لديه إذن الوعي بأنّه “الابن” (راجع مر 12/6، 13/22).

بسبب هذا الوعي، يتكلم يسوع ويتصرف بسلطان يرجع أساساً إلى الله وحده. وهذا ما يدل عليه موقف البشر من يسوع الذي يقرر خلاصهم الأبدي (لو 12/6، راجع مر 8/38، مت 10/32). منذ تلك اللحظة، يستطيع يسوع كمعلم أن يدعو آخرين لاتباعه (مت 1/17). وعلى كل من يريد ذلك، أن يحبه أكثر من أهله (مت 10/37)، وأن يفضله على كل خيرات الأرض (مر10/29)، وأن يكون متأهباً ليضحي بحياته “من أجلي” (مر8/35). يتكلم يسوع كالمشرّع الأعلى (مت 5/22 و28)، فوق الأنبياء وفوق الملوك (مت 12/41). ما من معلم آخرَ سواه (مت 23/8). كل شيء يزول، ما عدا كلمته (مر13/31). 

1-3- يتحدث إنجيل يوحنا بمزيد من الصراحة عن مصدر سلطة يسوع التي لا مثيل لها: ذلك لأن “الآب فيّ وأنا في الآب” (يو10/38)، “أنا والآب واحد” (يو 10/38). “الأنا” المتحدث هنا والذي يشرّع بكامل سيادته له نفس كرامة “الأنا” المتعلّق بيهوه (راجع خر 3/14).

حتى من الناحية التاريخية، من المؤكّد القول بأن الكرازة الرسوليّة الأولى عن يسوع، كابن وكابن الله، هي مبنيّة على وعي يسوع بأنّه ابن ومرسل من قِبَل الله.

الاقتراح الثاني

الصيغة

كان يسوع يعرف هدف رسالته: إعلان ملكوت الله وجعله حاضراً في شخصه وفي أفعاله وفي كلماته، حتى يتصالح العالم مع الله ويتجدد. لقد اقتبل يسوع بحرية مشيئة الآب ليبذل نفسه لخلاص كل البشر؛ لقد كان يعرف نفسه مرسلاً من قِبل الآب “ليخدم ويبذل نفسه فداء عن كثيرين” (مر14/24).

التعليق

2– 1- حتى عندما تتحدث الكرازة الرسولية عن بنوة يسوع الإلهية، إلا انها تتضمن في الوقت نفسه ودونما انفصال عنها مغزى سوتيريولوجي. فإرسال يسوع المسيح، في الواقع، وظهوره في الجسد (روم 8/3)، تحت الشريعة (غل 4/4)، واتضاعه (فل2/7)، كلها تستهدف خلاصنا : لتبررنا (2 كور 5/21)، وتغنينا (2 كور8/9)، وتجعلنا أبناء بالروح القدس (روم8/15، غل 4/5، عب 2/10). إن هذه المشاركة في بنوة يسوع الإلهية التي تتحقق في الإيمان ويُعَبّر عنها خاصة في صلاة المسيحيين للآب، تفترض وعي يسوع بذاته كونه ابناً. ترتكز الكرازة الرسولية كلياً على الاقتناع بأن يسوع كان يعرف أنّه الابن، مرسل من قِبل الآب. بدون هذا الوعي عند يسوع، ليس الكريستولوجيا فقط هي التي ستصبح بدون أساس، بل وكل السوتيريولوجيا أيضاً.

2– 2- إن وعي يسوع بعلاقته البنوية الفريدة مع “أبيه” هي الأساس والمنطلق لرسالته. وعلى العكس، يمكن الاستدلال من رسالته على وعيه ببنوته. حسب الأناجيل الإزائية، كان يسوع يعرف أنّه مرسل ليعلن البشرى السعيدة لملكوت الله (لو 4/43، راجع مت 15/24). لهذا الهدف خرج يسوع (من الآب) (مر1/38)، وأتى إلى العالم (راجع مر 2/17).

 من خلال رسالة يسوع من أجل البشر، يمكننا في الوقت نفسه أن نتوصل إلى من أرسله (راجع مر 2/17). لقد أوضح يسوع هدف مجيئه بالفعل والكلام: دعوة الخطاة للتوبة (مر 2/17)، “ليجد ويخلّص ما قد هلك” (لو 19/10)، “لا لينقض، بل ليكمل الناموس” (مت 5/17)، ليحمل سيف الفصل (مت 10/34)، ليلقي ناراً على الأرض (لو 12/49). يقول يسوع عن نفسه أنّه جاء “ليَخدم لا ليُخدم”، “وليبذل نفسه فداء عن كثيرين” (مر10/45).

2-3–  هذا المجيء ليسوع إلى العالم لا يمكن أن ينبع إلا من الله، وهذا ما يقوله بوضوح إنجيل القديس يوحنا بصدد كريستولوجيا رسالة يسوع، إذ أنّه يفصل بالتصريح الشهادات التي نجدها عند الإزائيين في شكل تلميح حول وعي يسوع برسالته المنقطعة النظير: إنّه يعرف أنّه “جاء” من الآب (يو5/43)، “خرج” منه (يو 8/42، 16/28). إن رسالة يسوع التي اقتبلها من الآب ليست مفروضة عليه، إنّها خاصة به إلى حد أنها تتطابق مع كل كيانه: إنها حياته كلها (يو 6/57)، طعامه (يو 4/34)، لا يبحث عن غيرها (يو 5/30)، لأن مشيئة الذي أرسله هي كل مشيئته (يو 6/38)، كلماته هي كلمات أبيه (يو3/34، 12/49)، وأعماله هي أعمال الآب (يو 9/4)، حتى أنه يستطيع أن يقول عن نفسه: “من رآني فقد رأى الآب” (يو14/9). إن وعي يسوع عن ذاته يتطابق مع وعيه عن رسالته. وهذا يذهب إلى أبعد من الوعي برسالة نبوية، تُقتبل في لحظة معينة، حتى لو كانت “منذ بطن الأم” مثل:  أرميا (راجع أر 1/5)، أو المعمدان (راجع لو 1/15)، أو بولس (راجع غل 1/15). إن رسالة يسوع تتجذر تماماً، بالأحرى، في “صدور، خروج” أصلي من الآب: “لأني من الله خرجت” (يو 4/42). وهذا يفترض كشرط للإمكانية، إن الابن كان “منذ البدء” مع الله (يو1/1-18). 

2-4- وعي يسوع برسالته، يتضمن إذاً الوعي “بوجوده المسبق”، إذ إن الرسالة، في الواقع، هي امتداد لهذا الوجود المسبق. يمكننا القول بأن الوعي الإنساني ليسوع عن رسالته “يُترجِم بلغة الحياة البشرية” علاقته الأبدية بالآب.

 تفترض هذه العلاقة بين الابن المتجسد والآب، في المقام الأول، وساطة الروح القدس. وبالتالي، فالروح كائن في وعي يسوع عن ذاته كابن. وكما هو معروف قبل ذلك، فمجرد الوجود البشري ليسوع هو نتيجة عمل الروح القدس؛ وانطلاقا من عماد يسوع، كل عمل ليسوع– فعل بين البشر كان أو علاقة صلاة نحو الآب– لا يتحقق إلا في الروح القدس وبه (لو 4/18، أع 10/38، راجع مر 1/12، مت 12/28). يعرف الابن أن الروح القدس يقوده ويثبته في إتمام إرادة الآب إلى الصليب. وعندئذ، متى انتهت مهمته الأرضية، يسلم يسوع “روحه” (يو 19/30)، الأمر الذي يرى فيه البعض تلميحاً إلى هبة الروح. اعتبارا من قيامته ومن صعوده، يصبح يسوع، كإنسان ممجداً، على ما كان عليه كإله منذ الأزل، “روحاً محيياً” (1 كور15/45، 2 كور3/17)، رباً قادراً بسلطانه على منح الروح القدس ليرفعنا إلى كرامة الأبناء في نفسه (= في يسوع ذاته).  

 ولكن هذه العلاقة بين الابن المتجسد والآب تعبر عن نفسها، وفي الوقت نفسه، بطريقة “التخلية”. فلكي يتمم الطاعة الكاملة، تخلى يسوع بحرية (فل 2/6-9)، عن كل ما يمكن أن يمثّل عقبة أمام موقف الطاعة. فعلى سبيل المثال، لم يرد يسوع استخدام كتائب الملائكة التي كان يمكنه الحصول عليها (مت 26/53)، وأراد أن ينمو كإنسان “في الحكمة والقامة والنعمة” (لو 2/52)، وأن يتعلّم الطاعة (عب 5/8)، ويواجه التجارب (مت4/1-11)، ويتألّم. كل هذا لا يتعارض مع التأكيدات بأن يسوع “يعرف كل شيء” (يو 16/30)، وأن الآب “يريه كل ما يعمل” (يو 5/20، راجع 13/3، مت 11/27)، متى فهمت هذه التأكيدات بمعنى أن يسوع يتقبل من الآب كل ما يسمح له بإنجاز عمله، في الوحي وفي الفداء الشامل (راجع يو3/11-32، 8/38-40، 15/15، 17/8).   

للمقال بقية في العدد القادم،

عن مجلة صديق الكاهن العدد الرابع2006