stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

كتابية

بناء برج ومحاربة الملك-أب د.كميل وليم

500views

jpg_09

يحيط بتشبيهَي البرج ومحاربة الملك إطار يتناول شروط اتباع يسوع. فقَبْلَ التشبيهَين التفت يسوع إلى الجموع وقال: “من يأتي إليّ ولم يفضلني على أبيه وأمه وامرأته وبنيه وإخوته وأخواته، بل عن نفسه أيضاً، لا يستطيع أن يكون لي تلميذاً” (لو26:14). ويختم التشبيهين قائلاً “هكذا كل واحد منكم لا يتخلّى عن جميع أمواله لا يستطيع أن يكون لي تلميذاً” (لو33:14).

إنه أسلوب احتواء تام يشير بوضوح إلى الموضوع الذي يتناوله يسوع وهو شروط اتباعه. وهذا الموضوع ليس جديداً. الجديد هنا أن يسوع يتناوله بجذرية وقوة تامتين لا نجدهما في أي مكان آخر في الأناجيل.  يدعو يسوع من يريد أن يتبعه أن يقطع كل الروابط الأسرية وأن ينكر ذاته أو أن يفضّل يسوع وطريقه على ذاته (را لو26:14). كانت دعوة يسوع هذه المكلّفة موجّهة أساساً إلى التلاميذ الجوالين والذين كان عليهم بالفعل أن يتركوا كل شيء وأن ينطلقوا إلى كل مكان ليبشروا بمجيء الملكوت.

حافظ إنجيل القدّيس متى على هذا الطابع وعلى هذه الخاصيّة نوضع هذين التشبيهين في مركز خطاب يسوع الإرساليّ (مت37:10-38). أمّا كاتب إنجيل القدّيس لوقا فإنه يرى أن هذا التعليم صالح للجميع: هذا هو شرط التلمذة ليسوع وليس شرط يجب أن يتوافر في المرسلين فقط. يؤكّد هذا أن إنجيل القدّيس لوقا يوجّه التعليم للجموع: “وكانت جموع كثيرة تسير معه، فالتفت وقال لهم” (لو25:14). إن التعليم موجّه للجميع. يحدّد إنجيل القدّيس لوقا ويعدّد الروابط التي يجب قطعها بطريقة تفوق ما يرد في إنجيل القدّيس متى تفصيلاً ودقة.

يجب قطع الروابط ليس مع الوالدين والأبناء فقط، بل أيضاً مع الإخوة والأزواج لا بل ومع الذات. وهناك فرق هام بين الإنجيلين في استخدام الفعل. يطلب إنجيل القدّيس متّى عدم تفضيل، أمّا إنجيل القدّيس لوقا فهو أكثر جذرية ويطلب أن يكره. ينطلق الإنجيلان من نصّ العهد القديم في ترجمته السبعينية حيث يرد الفعل  والذي لا يشير في حدّ ذاته إلى الكراهية أو الاحتقار أو ما شابه ذلك، بل يشير إلى ابتعاد إرادي عن الخيرات الأرضية للالتصاق بالله.

ونذكر هنا أن كاتب إنجيل لوقا لا يقصد الكراهية بحصر المعنى. إذ إنه يعرف جيداً أنه يجب على الإنسان أن يحب والديه ويكرمهما: “أنت تعرف الوصايا: لا تزن، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمك” (لو20:18). إنه هو أيضاً يقصد مجرد الابتعاد الجذري عن هؤلاء الأشخاص وعن هذه العواطف، ليكون الله في مركز حياة واهتمام من يريد أن يتبعه. أراد كاتب إنجيل القديس لوقا أن تحفظ كلمات يسوع بشدتها وبحسمها.

يعلمنا مثلا البرج والملك المحارب أنه يجب علينا أن نتروى جيداً قبل أن نبدأ أيّة مهمة أو أي مشروع: علينا أن نقيس قدراتنا وإمكاناتنا، وأن نهيئ الظروف الملائمة التي تضمن لنا نجاح المهمة أو المشروع، وذلك قبل أن نبدأهما. ويجب أن نقرّ أنه لا يمكن معرفة معنى المثلين بدقة خارج الإطار الذي وضعهما إنجيل القديس لوقا فيه. لقد كانا على الأرجح دعوة إلى الجدّيّة التي تقتضيها التلمذة؛ لا يستطيع السطحيون ولا المندفعون المتهورون ولا المدعوون أن يسيروا في طريق تلمذة المسيح. يضع إنجيل القديس لوقا المثلين في سياق واضح محدد، إذ يربطهما بالنصّ السابق: “فمن منكم، إذا أراد أن …” (لو 28:14)، وبالتعليم الذي يلي: “هكذا كل واحد منكم لا يتخلّى عن جميع أمواله لا يستطيع أن يكون لي تلميذاً” (لو33:14).

نية الكاتب إذاً واضحة أنه يجب قراءة هذين المثلين وفهمهما في سياق الشروط التي لابد أن تتوافر فيمن يريد أن يتبع يسوع. يقتضي هذا القرار دراية وتأملاً وتفكيراً وحكمة الحساب والتدبير. المقصود بالحساب والتدبير هنا قبول منطق الصليب والعيش بموجبه بكل ما يقتضيه هذا من تبعات، لا محالة التهرّب منه. هذا هو الحساب المطلوب من التلميذ. يقتضي إتمام بناء برج كمّاً وافياً من الحجارة، كذلك يقتضي اتباع يسوع ابتعاداً تاماً عن الخيرات والممتلكات. “كذلك كل واحد منكم لا يتخلّى عن جميع أمواله لا يستطيع أن يكون لي تلميذاً”. وحده من يتخلى عن كل الخيرات الممكنة، يستطيع أن يسير في طريق الصليب إلى نهايته. يصرّ إنجيل القدّيس لوقا على هذا الشرط في أماكن أخرى: “تبصروا واحذروا كل طمع، لأن حياة المرء، وإن اغتنى، لا تأتيه من أمواله” (لو15:12)؛ “اتخذوا لكم أصدقاء بالمال الحرام، حتى إذا فقد قبلوكم في المساكن الأبدية”؛ “ما من خادم يستطيع أن يعمل لسيدين، لأنه إما أن يبغض أحدهما ويحب الآخر، إما أن يلزم أحدهما ويزدري الآخر. فانتم لا تستطيعون أن تعملوا لله وللمال” (لو9:16و13). “فلأن يدخل الجمل في ثقب الإبرة أيسر من أن يدخل الغني ملكوت الله” (لو25:18).

إن الدافع الذي يطل من وراء كل هذه النصوص وغيرها هو الحرية الباطنية التي يقتضيها الملكوت. إنه هو الدافع الأساسي في مثلي البرج والملك المحارب، ولكن مع فارق واضح: لا يتوجّه كاتب إنجيل القدّيس لوقا إلى من هو بصدد اختيار أن يكون مسيحياً أو رفض هذا. ربما كان هذا هدف المثلين الأصلي وهدف الدعوة إلى التفكير.

إنه يوجّه المثلين إلى مَن قَبِل المسيحية وعليه أن يتغلّب على الصعوبات لكي يستمر في الأمانة لاختياره. تقتضي الاستمرارية في الإيمان بالرغم من الصعوبات التخلي. ربما كانت أمام لوقا جماعة مسيحية تعاني الاضطهاد، وأراد أن ينبهها أنه يمكنها الثبات والمثابرة فقط، إذا كانت مستعدة أن تتخلّى عن كل شيء.

أمّا إذا كانت الجماعة غير مستعدة للتخلّي التام عن المال والعلاقات والمكانة والجاه، فإنها تجد مبررات لا حصرّ لها لصمتها وتنازلها. يسير كاتب إنجيل القدّيس لوقا في نفس خط كاتب الرسالة إلى العبرانيين الذي يصف ثبات الجماعة وصبرها: “فصرتم تارة عرضة للتعبير والشدائد، وتارة شركاء الذين عوملوا بمثل ذلك. فقد شاركتم السجناء في آلامهم وتقبلتم فرحين أن تنهب أموالكم، عالمين أن لكم ثروة أفضل لا تزول” (عب 33:10-34).