stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

كتابات القراء

تأمل استعدادي للصوم الاربعيني الكبير

2.7kviews

استماع صوت الله

استعداداً لزمن الصوم الكبير، الذي يبدأ يوم الأحد القادم ٢٦ فبراير /  ٢٠١٧ ،

نستعد في هذا الأسبوع إلى قيامة القلوب بالسرّ الفصحي، سرّ موت المسيح تكفيراً عن خطايانا، وقيامته من أجل تقديسنا ( رومة ٣ : ٢٥ ) .

الصوم الكبير هو زمن التغيير في اتجاهات ثلاثة : التغيير في العلاقة مع الله بالصلاة والتوبة من أجل استعادة بهاء البنوّة الإلهية . والتغيير في العلاقة مع الذات بالصوم والإماتة بهدف التحرُّر من كلِّ ما يعيب هذه البنوّة وصورة الله فينا، ومن أجل تدريب الإرادة على كبح الأميال والغرائز المنحرفة ، والسيطرة على الذات؛ والتغيير في العلاقة مع كلِّ إنسان ، ولاسيّما مع ذوي الحاجة ، بأعمال المحبة والرحمة والتصدُّق ، بُغية ترميم الأخوّة الشاملة . هذا التغيير المثلّث أن يُدخلنا في عمق سرّ الشركة والمحبة .

 يتزامن الصوم الكبير في قسم منه مع ربيع الطبيعة التي تتغيّر بلباس ثوب جديد استعداداً لموسم العطاء . فكم يجدر بالإنسان أن يكون شبيهاً بالطبيعة . فلا بدّ من أن ننزع منا أنماط الحياة العتيقة بالتقشف والتوبة ، كما فعلت الطبيعة في فصل الشتاء ، وأن نلبس ثوب الحياة الجديدة على مستوى التفكير والرؤية ، والأفعال والمسلك .

 يوحنا المعمدان ينادي : ” توبوا وآمنوا بالإنجيل ” (مرقس ١٥ : ١ ) وبولس الرسول : ” لا تتشبّهوا بهذا العالم ، بل تغيّروا بتجديد أفكاركم ، مميِّزين أين هي مشيئة الله الصالحة والمقبولة والكاملة ” ( رومة ١٢ ٢ ) .

 وسائل هذا التغيير ثلاثة : الصلاة والصوم والصدقة . هذه الثلاثة متكاملة وغير منفصلة وتشكّل شريعة الصوم الكبير. نقول ” شريعة ” لأنّها واجب على الجميع ، وشريعة إنجيليّة دعا إليها المسيح الربّ ( متى ٦ : ١ و ٥ و ١٦ ) .

الصلاة ضرورة حياتيّة : فالروح القدس الذي يملأ كيان المصلِّي والمصلِّية يحرِّره ، كما يقول بولس الرسول ، من أعمال الجسد المنحرفة ، ويثمر فيه ثمار الروح  كالمحبة والفرح والسلام واللطف والطهر والتواضع والصلاة والصبر.                 (غلاطية  ٥ : ١٨ – ٢٣ ) .                                                                                                                                                            الصلاة تقرِّب القلب من الروح القدس الذي يقود حياتنا ويحرِّرنا من عبودية الخطيئة . يؤكِّد القديس يوحنا فم الذهب أنّه ” من غير الممكن أنّ الإنسان الذي يصلِّي ، يُستعبد للخطيئة . فالصلاة تجعل غير الممكن ممكناً ، والصعب سهلاً “. ويجزم القديس ألفونس دي ليغوري : “منْ يصلِّي يَخلُص حتماً . والذي لا يصلِّي يهلك بالتأكيد ” . لكنّ الصلاة تنبع من الإيمان بالله ومحبته . فالذي لا يؤمن ولا يحب ، لا يستطيع أن يصلِّي ، وبالتالي أن يَخلُص ( كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية رقم  ٢٧٤٤ – ٢٧٤٥ ).

 والصوم حرمان للذات من الطعام والشراب ، به يُكَفِّر كلُّ إنسان عن خطاياه والشرور التي ارتكبها ، بالتعويض عنها. فالمسيح ، ابن الله ، كفّر عن خطايا جميع الناس وشرورهم بآلامه وموته ، وهو بريءٌ من كلّ خطيئة شخصيّة ( قورنتس الثانية ٥ : ٢١ )، بل ما صنع إلّا الخير لجميع الناس ( اعمال الرُسُل ٣٨ : ١٠ ).

لكنّ الصوم يشمل أيضاً حرمان الذات ممّا يسمّيها بولس الرسول ” أعمال الجسد ” وهي : ” الزنى والنجاسة والدعارة وعبادة الأوثان والسِّحر والعداوة والخصومة والحسد والغضب والعصيان والإنقسام والبدع والقتل والسِّكر وكلّ ما يشبه ذلك ” ( غلاطية ٥ : ١٩ – ٢١ ) . والله يؤكّد بلسان أشعيا النبي : ” أليسَ الصوم الذي فضَّلتُه هو هذا : حلُّ قيود الشرّ، وفكُّ ربط الظلم ، وإطلاقُ المُستَضعفين أحراراً ، وتحطيمُ كلِّ استعباد؟ ” أشعيا ٥٨ : ٦ ) .

والصوم ، إلى جانب كونه شريعة إنجيليّة، هو أيضاً وصيّة كنسيّة من وصاياها السبع : “صُم الصوم الكبير وسائر الأصوام المفروضة ، وانقطعْ عن الزفر يوم الجمعة ” ( وصايا الكنيسة الثانية والثالثة ).                                                                                                                                                              انّ  ” الصوم الكبير ، المعروف بالأربعين ، يبدأ يوم الإثنين  ” اثنين الرماد ” ، ثمَّ يتواصل في اسبوع الآلام للمشاركة في آلام الفداء ، وينتهي يوم السبت ” سبت النور ”  السابق ليوم أحد القيامة .  والصوم هو الإنقطاع عن الطعام والشراب من نصف الليل إلى نصف النهار . كما يجب القطاعة عن أكل اللحم .

الصدقة تجاه الفقراء ، وهي تعبير عن واجب العدالة ووصيّة المحبة الأخويّة : ” أحببّ قريبك حبَّك لنفسك ” ( متى ٢٢ : ٣١ ) ، أوصى بها الربّ يسوع قائلاً : ” تصدّقوا بما هو لديكم ” ( لوقا ١١ : ٤١ ) ، ويوحنا المعمدان : ” منْ له قميصان ، فليعطِ من ليس له ” ( لوقا ٣ : ١١ )  ويعقوب الرسول : ” إن كان أخٌ أو أخت عريانين ، وليس لهما قوت يوم ، وقال لهما أحدكم : إذهبا بسلام واستدفئا واشبعا ، ولم تعطوهما حاجة الجسد ، فماذا انتفعا ؟ كذلك الإيمان وحده ، بدون أعمال ميت ” ( يعقوب ٢ : ١٥ – ١٧ ) ، ويوحنا الحبيب : ” من كان له مقتنى الدنيا ، ويرى أخاه في فاقة ، ويُمسك عنه مراحمه ، فكيف تكون محبة الله فيه ؟ ” . فلا يكنْ حبُّ بعضنا بعضاً بالكلام واللسان ، بل بالأعمال والحقّ ”                   ( يوحنا الأولى ٣ : ١٧ – ١٨ ) .

الصدقة هي مجمل أعمال الرحمة بأفعال محبة نساعد بها إخوتنا وأخواتنا سواء في حاجاتهم الجسدية بإطعام الجائع، وإيواء الشريد والغريب ، وكساء العريان ، وزيارة المريض والسجين  ( متى ٢٥ ٣١ – ٤٦ ) ، أم في حاجاتهم الروحية بالتعليم والتربية والتعزية والمشورة والتشجيع ( كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية رقم ٢٤٤٧ ) 

ويعود السيدُ الربّ لينبّه بلسان أشعيا النبي : ” أليسَ الصوم الذي فضّلتُه هو أن تكسر للجائع خبزك ، وأن تُدخِل البائسين المطرودين بيتَك ؟ وإذا رأيتَ العريان تكسوه … حينئذٍ يبزغ كالفجر نورك ، ويسير برّك أمامك ، ومجد الربّ يجمع شملك . وحينئذٍ تدعو ، فيستجيب الربّ ” ( أشعيا ٥٨ : ٦ – ٩ ) .

المسيح الفادي يُجري التغيير

بقولنا إنّ الصوم الكبير هو زمن التغيير، نعني أنّه زمن التوبة الداخليّة والإرتداد إلى الله وإلى الذات وإلى الآخرين . الصلاة والصوم والصدقة هي الأشكال التعبيريّة لهذه التوبة الداخليّة ، وهي في الوقت عينه الوسائل لقبول غفران الخطايا . لكلّ هذه الغايات تُقام في الكنائس والرعايا والأديرة والمدارس الرياضات الروحية ، وليتورجيات التوبة ، واللقاءات الإنجيليّة والزيارات التقويّة التي ينبغي على المؤمنين والمؤمنات المشاركة فيها وعيشها زمناً مرضيّاً لله ( كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية  رقم ١٤٣٤ – ١٤٣٥ ) . 

هذه كلُّها وسائل للتغيير، للتوبة التي تعني بلفظتها اليونانية ” meta-noia ” ثورة على النفس من أجل إصلاحها وإصلاح علاقاتها مع الله والذات والناس. لكنّ المسيح يسوع هو الذي يُجري التغيير بكلمته ونعمته وقدرة روحه القدوس، ويبلغ بالتوبة إلى أهدافها وثمارها.

الصوم الكبير موسم المحبة الإجتماعية 

علَّم البابا بيوس الثاني عشر أن ” مَن يملك خيرات، إنّما يمتلكها لأجل الجميع . وهذه حقيقة مسيحية مُلزِمة ” .                وعلَّم البابا القديس يوحنا بولس الثاني من بعده أنَّ ” نكران هذه الحقيقة وعدم الالتزام بمساعدة الفقراء إنّما هما تشبّه بالغني المُترف الذي تجاهل لعازر المسكين المنطرح عند باب بيته ( الاهتمام بالشأن الإجتماعي رقم ٤٢ ). ونبّه القديس يوحنا فم الذهب جازماً إلى انَّ ” الامتناع عن إشراك الفقراء في الخيرات العامّة وفي خيراتنا الخاصّة هو سرقة لحقوقهم ، واستلاب لحياتهم . فالخيرات التي نحوزها ليست لنا، بل هي لهم ” . ولهذا، كلنا مدعوون للمساهمة المالية والعينية ، على قدر كل واحد منا، لمساعدة إخوتنا وأخواتناالفقراء والمحتاجين ، بحكم وصية الكنيسة :  ” أوفِ البركة أي العشِر . وهي مساعدة بدافع من المحبة ومن باب العدالة ، لأننا نُعيد لهم ما هو في الاساس من حقّهم .                 هذه هي ثقافتنا الانجيلية وتعليم كنيستنا الواحدة الجامعة المقدّسة الرسوليّة ( المجمع الفاتيكاني الثاني، رسالة العلمانين رقم  ٨ ) .

انطلاقاً من كلمة الرسالة إلى العبرانيين : ” لينتبه بعضنا إلى بعض، لكي نحضّ بعضنا بعضاً على المحبة والأعمال الصالحة ” ( عبرانيين  ١٠ : ٢٤ ) أدعوكم إلى :

١ – الإنتباه إلى الآخر والاعتناء به بروح الأخوّة والتضامن والعدالة ، والرحمة والحنان ، النابعة كلّها طبيعياً من القلب . هذا الإعتناء بالآخر يقتضي منا المساهمة في خيره المادي والروحي والمعنوي، على مثال السامري الصالح      ( لوقا ١٠ : ٣٠ –  ٣٧ ) .

٢ – التبادل فيما بيننا بروح الشركة والمحبة ،  إذ نعمل بوصية بولس الرسول : ” أنا لا أطلب ما هو منفعة لي ، بل ما هو منفعة للكثيرين ، لكي يحيوا بسلام ” ( قورنتس الأولى ١٠ – ٣٣ ) ، ” وليسعَ كلّ واحد منا إلى ما يطيب للقريب في سبيل الخير من أجل البنيان ” ( رومة ١٥ : ٢ ) ، ” وأن نسعى جميعنا في طلب السلام ، وفي طلب بنيان بعضنا بعضاً ” ( رومة ١٤ : ١٩ ) .

٣ – السير إلى القداسة في عيش المحبة وإتمام الأعمال الصالحة، وهذه دعوة مسيحية شاملة إلى القداسة. فالإهتمام بالآخر والتبادل في عمل الخير إنما يهدفان إلى أن نشجّع بعضنا بعضاً على محبة فاعلة ومتنامية مثل “نور الفجر الذي يزداد سطوعاً إلى رائعة النهار ” ( أمثال  ٤ : ١٨ ) .

نرفع صلاتنا إلى الله في زمن الصوم ،  الذي هو الزمن المقبول، بشفاعة أمّنا مريم العذراء وأبينا القديس كريكور             ( غريغوريوس ) المنوِّر، والطوباوي الشهيد إغناطيوس مالويان ، مُلتمسين النعمة لنجعل منه زمن تغيير داخلي، نطوي معه صفحة صفراء من حياتنا ، ونبدأ مسيرة تجدُّد شامل في علاقاتنا الشخصية مع الله والذات وكلّ إنسان . فلترفعنا صلاة كلّ يوم النابعة من الكتاب المقدس إلى عالم الله لنستمدّ منه قيم الروح، وليحرّرنا الصيام من قيود الجسد، ولتفتح الصدقة قلوبنا إلى محبة تكبر مثل نور الفجر إلى وضح النهار. وليرتفع من كلّ فم وقلب نشيد المجد والتسبيح للآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين . 

المطران كريكور اوغسطينوس كوسا 

اسقف الاسكندرية واورشليم والاردن للأرمن الكاثوليك