stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

متنوعة

حياة خوري أرس بمناسبة السنة الكهنوتيّة- الموقع

791views

فيانيهحياة خوري أرس بمناسبة السنة الكهنوتيّة- الموقع

فرنسا في زمن خوري آرس:

وُلد جان ماري في زمن صعب جدّاً بالنسبة للكنيسة الفرنسيّة، فبعد ولادته بثلاث سنوات نشبت الثورة الفرنسية، وفي 12 تمّوز 1790 صوّت المجلس التشريعيّ على “وثيقة الدستور العلمانيّ للإكليروس”، وبموجبه صار الكهنة الفرنسيّين يُعتبرون موظّفين لدى الدولة، يأتمرون بقراراتها ويرفضون أي علاقة بالبابا وبالكنيسة الجامعة. وفي 27 تشرين الثاني 1790 أضافوا تعديلاً أقسى، فرضوا بموجبه على الكهنة أن يقسموا الوفاء للثورة أمام ممثّل رسميّ لسلطة الرعب القائمة آنذاك.

رفضت روما هذا القرار، ورفضه أيضاً مُعظم الكهنة في فرنسا، وكانت النتيجة مأساويّة: قُتل عدد كبير جدّاً من الكهنة، وحصلت مجزرة “الكرمل” في باريس. المجزرة بدأت بإعدام 23 كاهناً رفضوا أن يقسموا الولاء وينفصلوا عن الكنيسة الجامعة، وقد تمّ إعدامهم في دير كان قد تحوّل إلى سجن للكهنة، وبدأ الإعدام بصرخة الضابط: “أيّها الشعب، أنت تذبح عدوّك، أنت تقوم بواجبك”. وحين انتهت الفرقة من عملها، صرخ الضابط عينه: “لم يعد لدينا شيء نقوم به هنا، فلنذهب إلى الكرمل”. وصلت الفرقة إلى دير الآباء الكرمليين حيث اجتمع أكثر من 150 كاهناَ لم يقسموا اليمين، ذهبوا كلّهم وركعوا أمام القربان في الكنيسة حين سمعوا الجنود يقتربون. دخل الجنود بالسيوف وبالعصيّ وبالفوؤس، فقتلوا رئيس أساقفة أرل، وأسقف سانت وأسقف بوفيه، ورئيس عام الرهبان البندكتان والكهنة الموجودين معهم. بعدها بدأت الدولة تنفي الكهنة عن أرضها، فصارت ترسلهم في قوارب إلى غويانا، وأقفلت المؤسسات الدينيّة التي لم تتبع قرار الدولة، وأغلقت المدارس الإكليريكيّة.

بين 1786 و 1859، أي فترة حياة خوري آرس، عرفت فرنسا الكثير من التغييرات في نظامها، فتحوّلت من نظام ملكيّ إلى نظام ثوريّ فنظام ملكيّ دستوريّ، فجمهوريّة أولى، ثم إلى دولة يحكمها قنصل، ثم إلى إمبراطورية، ثم إلى نظام ملكيّ من جديد (ما يعرف بنظام تمّوز الملكيّ)، فإلى إمبراطورية ثانية… لقد شهد خورى آرس ومؤمنيه تقلّبات سياسيّة واجتماعيّة كثيرة، إنّما ما جمع كلّ الأنظمة التي توالت، كان العداء للكنيسة وللديانة الكاثوليكيّة، ممّا أدّى إلى حالة من الفتور ومن الإلحاد. لم يكن حال فرنسا دينيّاً أحسن منه اليوم، بل كان أسوأ بكثير. العديد من المدارس الخاصّة التي يديرها رهبان أو راهبات أٌقفلت، أغلقت الإكليريكيّات، نفي الأساقفة والكهنة، قتل الرهبان والراهبات. والمسيحيّون المؤمنين فكانوا بغالبيّهم القصوى ينمون على منطق “فتّش عن الله دون الكنيسة”، ينمون دون كهنة، دون أسرار، دون تعليم مسيحيّ: لقد كان الإيمان يُعدم بشكل تدريجيّ.

طفولة جان ماري فيانّيه:

قضى جان ماري فيانّيه هذه السنوات العصيبة في قريته، في داردييّ الصغيرة حيث وُلد، ثمّ في آرس حيث كان الراعي. في جوّ سياسّي محوم، وفي انقسامات سياسية عنيفة، لم توفّر حتى المناطق النائية. نشأ في بيت مؤمن، ولم يكن والداه يتردّدان في استقبال الكهنة الهاربين. ودرس جان ماري الكهنوتيّ الأوّل جاء من حديث سمعه، كان يدور بين والدته وبين كاهن أدّى يمين الولاء خوفاّ من الموت، فكان يسمع والدته تؤنّب الكاهن لعدم وفائه للبابا ولأوّلية الحقيقة في حياته، حتى قال لها الكاهن الضيف: “أنت على حقّ سيّدتي، فالكرمة أهمّ من الأغصان”.

هذا الكرم في الضيافة الّذي دفع عائلة فيانّيه إلى المخاطرة بأمنها في سبيل استقبال من كانوا يعتبرونهم رسل المسيح لم يكن الكرم الوحيد. فقد جهدوا ليستقبلوا الفقراء أيضاً ويقاسموهم الخبز القليل الّذي كانوا يملكونه. والكرم الأكبر الّذي زرعوه في قلب أولادهم، كان الكرم في العطاء المطلق للمسيح من خلال الصلاة. منذ صغره، نشأ الأولاد على حبّ المسبحة الورديّة، وحين كان جان ماري في  الرابعة من العمر، وكان يحاول استرداد مسبحته من أخته، قالت له أمّه: “أعط المسبحة لأختك مرغريت، فهكذا يكون يسوع مسروراً”. حادثة صغيرة انطبعت في حياة الصغير، ورافقته دوماً، فتعلّم معنى العطاء، عطاء يكبر أكثر فأكثر. وانطبع أيضاً فيه حبّ مريم: “إن مريم العذراء هي حبّي الأقدم، أحببتها حتى قبل أن أعرفها”، وأنه سوف يطلبها في المستقبل ليكمل سماع الاعترافات، ولها كرّس رعيّته، لمريم البريئة من الخطيئة الأصليّة، حتى قبل أن تعلن الكنيسة هذه العقيدة بسنوات كثيرة.

كان جان ماري من ضحايا النظام السياسيّ أيضاَ، فبسبب النظام المعادي للكنيسة أُغلقت المدرسة الوحيدة في قريته، لذلك لم يتعلمّ القراءة حتى بلغ عمر التاسعة، وبسبب هذا فسوف يعاني دوماً من عجز كبير من الناحية العلميّة كان يمنعه من أن يصبح كاهناً. كما اضطر إلى الانتظار حتى عمر الثالثة عشرة سنة لينال المناولة الأولى، بسبب النقص في التعليم الديني وغياب المكرّسين، ولهذا السبب أيضاً اضطر إلى التأخر لدخول الإكليريكيّة، فالتحق بقسم الدعوات المتأخّرة رغم أنّه بدأ يعي دعوته منذ الصغر.

عقبات كثيرة أمام دعوته:

العقبة الأكبر التي كانت تعيق الشاب عن تلبية دعوة الرّب كانت معارضة والده لكهنوت الابن، فجان ماري القوّي “مثل شجرة السنديان” كان ضروريّاً لعمل الحقل، وكان جان ماري يتفهّم حاجة والده، وكان يتمزّق بين ضرورة الاستجابة لنداء الرّب، وبين مسؤوليّته تجاه عائلته. كان الشاب يعلم أن الأحوال الاقتصادية السيّئة في فرنسا، والجوع المتنامي، كان يحتّم عليه مساعدة عائلته في مصدر رزقها الوحيد: عمل الحقل، ومن كان يقدر أكثر منه على الاعتناء بحقل العائلة، وقد منّ الله عليه بالقوّة الجسديّة وبالخبرة.

أمّا العقبة الثانية فكانت عدم قدرته على تعلّم الّلغة اللاتينيّة، واللاتينيّة ضروريّة لتعلّم اللاهوت وللخدمة الليتورجيّة. لقد تعلّم جان ماري القراءة بعمر التاسعة، وكان ذو قدرة علميّة محدودة جدّاً، وقد صار متقدّماً في العمر أكثر من الطلاّب الآخرين، فكيف يقدر على مجاراتهم؟ وكيف يقدر على اجتياز امتحان اللّغة اللاتينيّة الصعب؟ ولكنّ هذه العقبات لم تخمد رغبته بالكهنوت، فشارك في زيارة حجّ إلى لوفيسك، لدى القدّيس جان فرانسوا رجيس، ليطلب منه “الحدّ الأدنى من اللاتينيّة ليجتاز الامتحان”. وقد استطاع، بجهد وكدّ، وبنعمة الله، من اجتياز الامتحان، ممّا أهّله لإكمال الدراسة.

ولكنّ عقبة غير متوقّعة جاءت تعترض طريقه نحو الكهنوت: الخدمة العسكريّة التي سوف تجبره على وقف دروسه، رغم تقدّمه في العمر بالنسبة للإكليريكيّين. لقد كان في الأصل معفيّاً بسبب عمره، ولكنّ خطأ إداريّاً جعل اسمه يرد في لائحة المطلوبين للالتحاق بالجيش في الحرب ضدّ إسبانيا. فما كان منه إلاّ أن التحق، وأرسل قبل أيام قليلة من المعركة سيراً، وحده، إلى اللحاق بكتيبته التي كانت تسبقه بعدّة أيّام. وعلى الطريق التقى بشاب هارب من الخدمة، أرشده في الطريق الخاطئ فلم يستطع اللحاق بكتيبته، وصار معتبراً جنديّاً فارّاً يواجه خطر السجن وحتى الإعدام. هرب جان ماري فيانيّه في غابات بلاد اللوار العليا، وعمل خفية لدى مزارع استقبله حوالي السنة، إلى أن صدر عفو من نابليون على الفارّين، فعاد إلى الإكليريكيّة في ليون، ولكنّه كان قد تأخّر كثيراً، وصار عمره 26 سنة، فطرده المسئولون من الإكليريكيّة بسبب عدم قدرته على التعلّم. فعاد جان ماري إلى كاهن ساعده منذ الصغر، الأب بالاي، الّذي كان يؤمن بدعوة الشاب الكهنوتيّة، في سبيل التعلّم على يده.

الكهنوت حلم يتحقّق:

بعد أربعة سنوات من الكدّ والتعب على يد الأب بالاي، صار جان ماري مستعدّاً للكهنوت. في 23 حزيران 1815 نال السيامة الشمّاسيّة في ليون، في 13 آب 1815، وبعمر التاسعة والعشرين سنة، صار الطالبُ كاهناُ في مدينة غرينوبل بوضع يد الأسقف سيمون. الكلمات التي سوف يكتبها بعد أعوام قليلة يمكنها أن تصف حالة الفرح والفخر الّذي شعر به الكاهن يوم سيامته: “كم هو عظيم الكاهن، لن يفهم حقيقته إلاّ في السماء. لو قدر على فهم هذا على الأرض لمات، لا من الخوف، إنّما من الحب”. عيّنه الأسقف مساعداً لمعلّمة الأب بالاي في رعيّة في أكولي، وفي 9 شباط 1818 وصل إلى آرس حيث عيّنه الأسقف كاهناً لهذه الرّعيّة الصغيرة، حيث سوف يبقى لمدّة 41 سنة، ولن يتركها إلاّ ساعة الانتقال إلى بيت الآب.

خوري آرس:

وصل إلى رعيّة فقيرة، وهو بعمر 31 سنة، دون مورد رزق، ودون قدرة كبيرة على الوعظ، إنّما بحيوّية كبيرة، حيوية الرّوح تنبعث من صلاته. وصل إلى آرس ذات الإيمان الخامد، والتقوى الميتة، وكان يحمل في قلبه رغبة وحيدة: أن يعطي نفسه للرّب بكلّيته ويتّكل عليه في صعاب حياة الرعيّة الجديدة. كان هدفه أن يعيد إلى الله هذه الجماعة التي أوكلتها الكنيسة إلى عنايته، وكان أحياناً يخاف من هذا الثقل الملقى على كتفيه: ثقل النفوس التي يريد الرّب خلاصها، وان يرى نفسه ضعيفاً جدّاً، ومسؤوليّته كبيرة، فحاول ترك الرّعية ثلاث مرّات ليلاً، ولكن رعيّته كانت تمنعه من الخروج، كانوا يجبرونه على العودة إلى بيت الكاهن. وحين كان يستغيث بالأسقف، كان الجواب دوماُ: “ابق حيث تريدك الكنيسة أن تكون”.

كانت آرس قرية مسيحيّة، تعلن إيمانها المسيحيّ بسبب التقليد والعادة، ولكن لا بحرارة الإيمان وبالاستعداد للشهادة، كانت التقوى باهتة والإيمان كان يموت تدريجيّاً. ولكن هذا الأمر لم يمنع الخوري الساعي إلى قداسته وإلى قداسة رعيّته من الجهاد من أجل تغيير الواقع، فكان يزور العائلات ويهتّم بمشاكلهم، كانوا يرونه يصليّ دوماً، يهتمّ بالفقراء، يزور المرضى، كان دائم الحضور في الرعيّة، لا بل في الكنيسة نفسها، حتى  صاروا يقولون أن “الخوري يسكن في الكنيسة لا في بيت الرعيّة”. ورغم هذا، بقي يصطدم بحقيقة أن كنيسته كانت فارغة يوم الأحد، فقد كانوا كلّهم في حقولهم يعملون، ومن لا يعمل، فكان يذهب إلى المقهى في ساحة البلدة.

ارتداد الرعيّة:

لم يكن هذا الإلحاد العمليّ سبباً لفقدان أمل خوري آرس، فكان أوّل ما قام به هو تجديد أواني كنيسته، صارفاُ على هذا الأمر كلّ مقتنياته، فاشترى الكؤوس الفاخرة، وثياب القدّاس الباهرة، وأجمل صلبان المذبح والشموع الخلاّبة والأواني الأكثر زخرفة، فكان بعمله هذا يقول: “الرّب هو الأولى بالخدمة”، “تمضون الأحد في عمل الحقل وفي المقاهي، بينما الله متروك”، لقد قرّر الكاهن أن يعطي المقام الأوّل لجمال خدمة الله. إثر هذا، بدأ أبناء الرعيّة يأتون إلى القدّاس، ليروا ما يحدث أوّلاً، ثم يبقون إثر كلمات خوريهم. وفي غضون أشهر قليلة، سوف تتحوّل آرس إلى الرعيّة الأكثر التزاماُ في الأبرشيّة كلّها. لقد كان قاسيّاً بداية، ليجعلهم يعون فداحة خطأهم، كان يقول أن ليس من الضروريّ أن نقتل، أو نسرق مال أبينا وأمنا لنكون ملعونين، بل يكفي أن نتبع صوت كبريائنا، لنذهب إلى جهنّم. وبينما كان يعرّف راهباّ، قال له هذا الأخير”لقد كنت مهملاً في هذا الأمر، ولكن نيّتي كانت حسنة” فما كان من الخوري إلاّ أن أجاب “آه يا عزيزي، النوايا الحسنة، إن أرض جهنّم مرصوفة بها”.

لم يكن ينام أكثر من ساعتين أو ثلاثة، ويقضي كل وقته في سماع الاعترافات، وكان التائبون يأتون إليه من كلّ فرنسا، ولم يكن يتوقّف إلا ساعة القدّاس. “كان لخوري آرس طريقة تعاطي تختلف بحسب شخص التائب. من كان يأتي إلى كرسي الاعتراف مدفوعاً داخليّاً وبضعة من حاجةٍ إلى المغفرة الإلهيّة، كان يجد لديه التشجيع للغوص في “غمر الرحمة الإلهيّة” التي تغسل كلّ شيء بجرفها. وإن كان أحدٌ يتألّم منا لضعف وعدم المثابرة، خائفاً من سقطات مستقبليّة، كان خوري آرس يظهر له سرّ الله بعبارات تلمسنا بجمالها: “إن الله الفائق الجودة يعلم كلّ شيء. وقبل أن تعترف أنت، كان يعلم أنّك سوف تسقط مرّة أخرى، ورغم هذا غفر لك. كم هو عظيم حبّ إلهنا الّذي يندفع إلى درجة أنّه ينسى المستقبل بإرادته، لكي ما يغفر لنا”. أمّا الّذي كان يعترف بفتور وبقلّة اكتراث، فكان خوري آرس يقدّم له، عبر دموعه هو، الدليل الساطع والأليم على كم أن تصرّفه آثم، قائلاً: “أنا أبكي لأنّك لست تبكي”. “لو أن الله لم يكن صالح اً، ولكنّه صالح، وحده البربريّ يتصرّف هكذا أمام آب صالح بهذا القدر”. كان يجعل التوبة تولد في القلوب الفاترة، ويدفعهم، بعينيه، إلى رؤية آلام الله بسبب الخطايا، آلام “متجسّدة” تقريباً على وجه الكاهن الّذي يعرّفه. أما الّذي كان يحضر لديه بتوق وقدرة على عيش حياة روحيّة أعمق، فكان يشرّع له أعماق الحبّ، شارحاً له جمالاً لا يوصف، جمال العيش متّحدين بالله وبحضوره: “كل شيء تحت أنظار الله، كلّ شيء مع الله، كلّ شيء لإرضاء الله… كم هو جميل هذا”. وكان يعلّمهم كيف يصلّون: “يا ربّ، أعطني نعمة أن أحبّك بقدر ما يمكنني أن أحبّك”.

لقد عرف خوري أرس في الفترة التي عاش فيها كيف يبدّل قلوب الكثيرين وحياتهم، لأنّه عرف كيف يجعلهم يشعرون بحبّ الله الرحوم. هذا الإعلان عينه هو ضروري أيضاً في أيامنا هذه، وضروريّة شهادة مماثلة لشهادته عن حقيقة الحبّ: “الله محبّة” (1يو 4، 8). فمن خلال الكلمة ومن خلال أسرار “يسوعه”، عرف جان ماري فيانّيه كيف يبني رعيّته، رغم أنّه كان غالباً ما يضطرب ليقينه بعدم أهليّته الشخصيّة، إلى درجة التمنّي عدّة مرّات أن يتخلّى عن مسؤوليّة الخدمة الرعويّة لأنّه غير أهل لها بحسب ظنّه. إنّما بطاعة مثاليّة بقي دوماً في وظيفته، لأنّ الغيرة الرسوليّة لخلاص الأنفس كانت تلته مه. كان يسعى للالتزام بكلّيته في دعوته الخاصّة وفي رسالته عبر حياة تقشّفيّة قاسية، وكان يشكي: “إن الكارثة التي تحلّ بنا، نحن كهنة الرعايا، هي ضعف الحياة الروحيّة”، قاصداً بهذا القول اعتياد الراعي الخطير على الخطيئة وعلى حياة الاستخفاف التي تحيا فيها نعاجه. لقد كان يقمع جسده، بالسهر وبالأصوام، لكي يمنعه من معارضة روحه الكهنوتيّة. ولم يكن يتردّد في إماتة ذاته من أجل خير الأنفس الموكلة إليه، ولكي يشترك في التعويض عن الخطايا الكثيرة التي كان يسمعها في كرسي ّ الاعتراف. كان يقول لكاهن آخر: “سوف أعطيك وصفتي: أُعطي الخطاة تعويضاً صغيراً، وأقوم بالباقي عوضاً عنهم”. أكثر من الإماتات الملموسة التي كان يفرضها خوري آرس على نفسه، يبقى أساسيّاً للجميع قلب تعليمه: “إن النفوس ثمنها دم المسيح، ولا يمكن للكاهن أن يتكرّس لخلاصهم إذا رفض أن يشارك شخصيّاً “بثمن الفداء الباهظ”. (رسالة الأب الأقدس البابا بندكتوس السادس عشر بمناسبة افتتاح السنة الكهنوتيّة)

ورغم هذا الوقت الّذي قضاه في سماع الاعترافات، وجد خوري أرس الوقت ليؤسّس في رعيّته مدرسة وميتماً، دعاه “ميتم العناية الإلهيّة”، كما شجّع رعيّته على المشاركة بما أمكنها في الحملة التي نظّمها أساقفة فرنسا، بعد مرور سنوات الرعب، من أجل إعادة تبشير فرنسا. كان معدماّ من ناحية المال، إنّما لم ينقصه الطعام يوماً في الميتم: كانوا يذهبون لأخذ الخبز، فيجدونه فارغاً، فيأتون إلى بيت الرعيّة ليشكوا لكاهنهم الأمر، فيطلب منهم أن يصلوّا معه، وبعدها يعودون إلى الميتم ليجدوا المعجن مليئاً بالقمح.

وحين كانت عاصفة بَرَد تضرب آرس، كان الفلاّحون يأتون طالبين إذن كاهنهم لعدم المشاركة في القدّاس، ليذهبوا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فكان يعلم كيف يجد الحلّ الوسيط بين خوفهم المحقّ وبين واجبهم الإيمانيّ، فما كان يتواني في تأخير القدّاس حتى عودتهم، لا بل كان يساعدهم أيضاً. ورغم ه? ?ا، فإن سكّان الرعيّة كانوا يردّدون دوماً أن العواصف القويّة لم تضرب قريتهم بقسوة كما ضربت القرى المجاورة، وذلك طيلة حياة القديس بينهم.

موت الراعي:

سنة 1858، أي سنة واحدة قبل موت القدّيس، بلغ عدد زوّار آرس سنوياً حوالي مئة آلف زائر يأتون للاعتراف. ورغم أن أسقف الأبرشيّة كان قد أرسل إليه فريقاً من كهنة يعاونوه في الاعتراف، إلاّ أن الحجّاج كانوا يريدون الاعتراف أمامه هو، فكان يبقى في كرسيّ الاعتراف حوالى 17 ساعة يوميّاً. كلّ من عرف خوري آرس كان يقول أن طبعه لم يكن هادئاً، بل قاسياً وعنيفاً، والصبر لم يكن أقوى فضائله، ولكنّه كان يقمع طبيعته في كرسيّ الاعتراف، صابراً ساعات طوال لقبول توبة المؤمنين، فكان “يبدو كملاك محبّة ولطف، إنّما على محيّاه كنّا نرى الإنهاك والإجهاد” بحسب قول شهود عايشوه. قوّة الرّوح التي حرّكت حياة جان ماري فيانّيه لم يقدر قلبه على تحمّلها طويلاً، وفي الساعة الثانية فجراً من 4 آب 1859، أسلم الخوري القدّيس الرّوح بسبب الإنهاك، بعد حياة تعب وخدمة متواصلة، بعمر 73 سنة. ثلاثة وسبعون سنة قضاها في حبّ المسيح، واهباً له قلبه، واضعاً كلّ إمكانيّاته في خدمة الجماعة التي أوكلتها الكنيسة إلى رعايته. مرّة، في صلاته، هاجمه الشرير صارخاً: “لو كان هنا ك ثلاثة مثلك على الأرض، لكانت مملكتي مهدّمة الآن”، لذلك أعلنته الكنيسة شفيعاً للكهنة، وللإكليروس الأبرشيّ بشكل خاصّ، لكيما يكون مثالاً وقدوة في عطاء الذّات الكامل، في حبّ المسيح، وفي الوفاء لدعوته، وفي خدمة النفوس التي توكل إليهم، لتقديسها وتقديمها للرّب دون وصمة “ودون أن يهلك منهم واحد”.

إعلان القداسة:

في 8 كانون الأوّل 1905، أعلنه البابا بيوس العاشر طوباويّاً وشفيعاً لكهنة فرنسا. وفي 31 أيّار 1925 أعلنه البابا بيوس الحادي عشر قدّيساً، وفي العام 1929 عاد وأعلنه شفيع خوارنة الرعايا في العالم.

 شهادة الأب لاكوردير: من أعظم الوعّاظ في تاريخ الكنيسة، كان جان باتيست هنري لاكوردير، واسمه في  الدير الأب هنري دومنيك لاكوردير، راهباً من رهبة الآباء الوعّاظ (الدومنيكان)، ولد في ا2 أيّار 1802،  ترك الإيمان في فترة الشباب، وصار محامياً لامعاً وخبيراً في فنّ الخطابة. ارتد عام 1824 وقرّر دخول  الإكليريكيّة. طبع بشخصه كنيسة فرنسا في القرن التاسع عشر. ذهب إلى روما لدرس اللاهوت ودخل  رهبانيّة الدومينيكان، ثم عاد إلى فرنسا ليعيد إحياء الرهبانيّة بعد منعها فترة الثورة وصار واعظ كاتدرائية  سيّدة باريس الرسميّ. ذهب عام 1845 إلى آرس ليتعرّف إلى الخوري بعد أن سمع عنه الكثير في  باريس، وعلم أهل القريّة بقرب حضوره، لأنّه كان من أشهر شخصيّات فرنسا، فحضّروا له الإقامة في  قصر أحد النبلاء حيث قضى الليل. وعند الخامسة صباحاً ذهب إلى كنيسة الرعيّة فوجدها مكتظّة والخوري بدأ الاعترافات منذ ساعات عدّة. بقي الضيف على شرفة الكنيسة إلى أن حان القدّاس الإلهيّ، وألقى خوري أرس عظة عن الرّوح القدس، قائلاً “الرّوح القدس هو من يعمل في حديقة قلبنا”. بعد القدّاس ذهب لاكوردير للتعرّف عليه وبادره قائلاً: “لقد عرّفتني على الرّوح القدس حقّاً”، أمّا خوري آرس فقال له “اليوم قد التقى النقيضان: العلم الأعظم والجهل الأعظم”. ثم رافق الخوري الراهب إلى القصر وكانا يتحادثان، ولمّا وصلا، ركع خوري أرس وطلب من الأب لاكوردير أن يعطيه البركة، فما كان من لاكوردير إلاً أن ركع بدوره، منتظراً نهوض الخوري ليباركه”. وطيلة حياته، بقي لاكوردير يخبر عن هذا اللّقاء قائلاً: “أنا أجعل الناس يصعدون فوق كراسي الاعتراف (لأنّ الحشود كانت كثيرة حين كان يعظ، فكان الناس يتسلّقون كراسي الاعتراف ليروه)، أمّا هو فكان يجذبهم إلى داخلها”.  

 zenit  2/7/2009