stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

كتابات القراء

دمُّ يسوع ودمعُ مريم / أشرف ناجح إبراهيم

999views

lacrدمُّ يسوع ودمعُ مريم / أشرف ناجح إبراهيم

أنْ يجتمع الدم والدمع معاً فهذا أمر طبيعي يحدث يومياً ولا غرابة فيه ولا اندهاش؛ فلا ثمة غرابة في أن هذا يموت نازفاً وذاك يبكي دامعاً، أو أن هذا ينزف دماً وتلك تسيل دمعاً! فهذه هي الحياة دماء ودموع، فواحد ينزف والآخر يبكي وينتحب!

ولكنك تجدني مشدوداً أمام هذا المنظر الغريب الذي سأقصه عليك الآن …

كنتُ ذات يوم أتمشى في مدينة جميلة مترامية الأطراف، يطلقون عليها “مدينة السلام”، ومِن المفترض أن تفيض سلاماً على كل مَن يدخلها، ولكنها على العكس مِن ذلك تماماً فهي «قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها» (لو 13/34)؛ وفي هذه المدينة وفوق هضبة عالية اكتظت بنوعيات مختلفة مِن الناس، انتصب هناك صليب على شكل هذه العلامة (†)، وكُتب عليه عِلَّة الحُكم: «هذا هو ملك اليهود» (متى 27/37)! وأرجوك لا تسألني: أحقاً كان ملكاً أم لا؟! أهو ملك ككل ملوك الأرض؟! لأن هذا ليس هو ما أنوي عرضه[1]!

وقفتُ أمام الصليب مُراقباً بعيناي وبكل حواسي وبكل كياني ما يحدث حولي! ويا للهول! 

رأيتُ دماً وماءً يخرجان مِن جنب ذاك المصلوب على آثر طعنة حربة صوبها بقسوة أحد الجنود في جنب هذا المصلوب (يو 19/34).. مسكين هذا المصلوب! وخطف بصري إمرأة باكية مفترشة تحت الصليب، تبدو أنها أم هذا المصلوب (يو 19/25)! إنها حقاً الجميلة بين النساء! لقد قيل لي أنها أم عذراء في آنٍ واحدٍ. وأرجوك أيضاً لا تسألني: كيف يكون هذا؟ فهذا هو سؤالها بعينه الوارد في بشارة لوقا (لو 1/34-35)[2]!

أجل إنه منظر مثير للفكر وجذاب للقلب وخاطف للأبصار أن تري دماً ينزف من يسوع ودمعاً ينحدر مِن عيني مريم! والعجب والغرابة لا يكمنان في امتزاج الدم والدمع معاً، أو في اجتماع الموت والبكاء سوياً؛ إنما الغرابة وكل الغرابة في أنَّ الذي يدمي هو يسوع والتي تدمع هي مريم!

فلماذا تدمي يا يسوع المسيح المصلوب؟! ولماذا تدمعين يا مريم الأم الحنون؟! لماذا تنزف دماً يا يسوع الناصري، يا مَن كرست حياتك بأكملها للبشرية، فكانت دماءك تنزف يوميّاً في شوارع فلسطين القديمة؟! ولماذا تبكين يا مريم الناصرية، يا مَن هي أطهر نساء العالمين والأكثر حناناً بين أمهات البشر؟! 

لقد ذهبتُ إلى الدم لأسأله: 

«لماذا خرجت يا صاح مِن جنب هذا المصلوب الطاهر؟ ولماذا سمحت لنفسك أن تنزف منه؟ لِمَ انفصلت عن شخص لهو أحق الجميع بك؟!». 

فلم يجبني هذا الدم الحزين، ولكنه عطف علي بنصيحة فحسب، فقال لي: 

«أذهب وسل دمع هذه الأم البتول، لعلك تجد لديه رداً شافياً للوعتك وراوياً لعطشك ولحبك للحقيقة!».

وفي لحظات وبسرعة مذهلة طرحتُ السؤال على هذا الدمع السائل مِن عيني هذه الأم الحنون! فجاءت إجابته مثيرة للدهشة، فقد قال: «لن أُجيبك! ولكنني سأصطحبك معي في رحلة قصيرة، لعلها تعود عليك بالفائدة»! 

وفي لمحة بصر خرجت مِن جسد جسدي ولبست روحاً جديداً، ولا أدري هل أنا كنت روحاً وجسداً أم روحاً ترك جسده! وفي لحظات، دخلت عالم لم أعهده مِن قبل، ولم أسمع به سابقاً، ولم أراه قط في سالف أيامي! لقد رأيت عرشاً مثبتاً في ذلك الهواء الطلق والمساحات الشاسعة، وحول هذا العرش جموع كثيرة؛ وقد سمعتُ أصواتاً شجبة تهز القلوب بهتافاتها. لقد شعرت بروح قوية تهز أركان المسكونة، وجاءت الأصوات قوية جداً في أصداءها، قوية أقوي مِن أصوات المدافع والقنابل الكثيرة. ومِن شدة تأثير هذا الروح وهذه الأصوات عليَّ وجدتُ نفسي مدفوعاً بتلقائية شديدة أنْ أهتف معهم بكلماتهم! أتريد أن تعرف الكلمات التي كنا نتغنى بها؟ أترغب في سمعها أو في غناها أنت أيضاً؟! هاك ما تمنيتَ، لقد كانت هذه الكلمات: «أنت أهلٌ لأن تأخذ الكتاب وتفض أختامه، لأنك ذُبحت [سالت دماءك] وافتديت لله بدمك أُناساً مِن كل قبيلة ولسان وشعب وأمة، وجعلت منهم لإلهنا مملكة وكهنة سيملكون على الأرض […] الحمل الذبيح أهلٌ لأن ينال القدرة والحكمة والقوة والإكرام والمجد والتسبيح» (رؤ 5/9-10، 12). 

وعندها وفي تلك اللحظات عينها، فتحت عيني فوجدت نفسي أمام دم يسوع ودمع مريم مرة أخرى، فنطقت بهذ الكلمات، بعد أنْ فهمتُ _ولو قليلاً_ مِن سرِّ هذا “الدم النازف” و هذه “الدموع المنحدرة”: «يا يسوع المصلوب، إنَّ دمك كريم وثمين للغاية، فهو الذي شفاني (1بط 2/24) وفدى حياتي وأعطني الحياة (1بط 1/18-19). فهو الذي أعلن أنَّ الحبَّ لا يكون حباً إلا بعطاء الذات والتخلي والتجرد (فيل 2/6-11)، وأنَّ الحبَّ ينبغي أنْ يُصلب ويتألم (مر 8/31). إنك أنت يا يسوع هو مَن علمني أنَّ كلَّ مَن وكلَّ ما يولد في الصليب لا يموت أبداً، بل يحيا أبداً! ومَن علمني أيضاً أنَّ الحبَّ أقوي مِن الموت والدم والدموع! “أعطني يا مخلِّصي أن أعتبر عذابك كنزي، وإكليل الشوك مجدي، وأوجاعك تنعمي، ومرارتك حلاوتي، ودمك حياتي، وحبتك فخري وشكري”[3].

 أما أنت يا دمع يا مريم الطاهرة، لا تتوقف أبداً عن السقوط بغزارة، لقد كنت بالأمس تبكي دم يسوع ابن البتول كلية الطاهرة، وأريدك اليوم أن تبكي ما آل إليه عالمنا! ليتك تبكي الدم النازف ليس مِن الأجساد فقط، بل ومِن العقول والقلوب والنفوس المريضة بداء الخطيئة! ليتك تبكي وتكون شاهداً لعالمنا وشهيداً فيه! انظر أيها الدمع الحزين ذلك الدم النازف مِن جرح البشرية العميق، فلا تتوقف لأنه لا خلاص ولا مناص لهذا العالم الدامي إلا دم يسوع وإياك»!!

وعندما انتهتُ مِن نطق هذه الكلمات، أحسستُ بضوء الفجر وأشعة الشمس يدخلان مِن نافذة الحجرة المطلة على حديقة المنزل الذي كنتُ نائماً فيه؛ فبدأت أسمع كالعادة ضوضاء الحركة الصادرة مِن هنا وهناك، فاستيقظتُ مسرعاً مِن نومي لأكمل مسيرة حياتي اليومية ويُرافقني حلم “دمّ يسوع ودمع مريم”!   

——————————————————————————–

[1] إنَّ يسوع المسيح هو “ملك الملوك وربُّ الأرباب”، و«سيِّد ملوكِ الأرض» (رؤ 1/5)، و«ملكُ السماء» (دا 4/34؛ عب 1/8-13)؛ ولكن لا ينبغي أنْ يُفهم ملكوته على أنّه مجرد نظام أرضيّ زمنيّ. فعندما وقف أمام بيلاطس البنطي ليحاكم منه، قال له: «ليست مملكتي مِن هذا العالم. لو كانت مملكتي مِن هذا العالم لدافع عني حرسي لكي لا أُسلم إلى اليهود. ولكنَّ مملكتي ليست مِن ههنا» (يو 18/36)! فهو لم ينكر عن نفسه لحظةٍ لقب “الملك”، إنما أراد أنْ يُنبِّهه وينبهنا نحن أيضاً بالأ نخلط ملكوته بأي ملكوت أرضيّ أيان كان؛ وقد أراد أيضاً أنْ يؤكد له ولنا أيضاً أنَّ أصل ملكوته ومصدره ليس العالم، إنما إلهه وأبيه السماوي! «فليس ملكوتُ الله أَكْلاً وشُرْباً، بل برٌّ وسلامٌ وفرحٌ في الرُّوح القُدُس» (روم 14/18).

[2] إنَّ سرَّ “حبل مريم العذرائي بيسوع” ينتمي مثل “سر القيامة” إلى الخوارق الفائقة الطبيعة، والتي لا يمكن شرحها فقط بالعقل البشري المجرَّد، وإنما تحتاج إلى “إصغاء ديني” و “إيمان عميق”! 

[3] الخولاجي المقدس وخدمة الشماس، إعداد القمص إيسيذوروس البراموسي، مكتبة مارجرجس، شبرا، مصر، 1994، 259.