stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

روحية ورعوية

روح قدس في خدمة كهنوتيّة-الأب/ميشيل ليبورديه

712views

spروح قدس في خدمة كهنوتيّة-الأب/ميشيل ليبورديه

لا شك في أن المجمع المسكونيّ الفاتيكاني الثانيّ، قد كشف لنا رؤية جديدة للكنيسة، وهي كنيسة العنصرة، انطلاقًا من سر الفصح، علامة المسيح الذي يتحد به المؤمنون بقدرة الروح القدس. لا يمكن أن نكتفي الآن برؤية قانونيّة لسر الكهنوت، لأن الخدمات المكرّسة هي في خدمة “حياة الروح”، وتُظهر أن الكنيسة تعيش وتستمد وجودها من المسيح القائم من الأموات. لذلك اكتشف المسئولون في الكنيسة، مرة ثانية، أن صلاة “استدعاء الروح القدس” (إبيكليسيس) هي صلاة جوهرية، تعطي أعمال الكنيسة كلها المعنى، وقد عبّرت عن هذا وثيقة صادرة بمناسبة “اليوبيل”: “لا يمكن أن تقوم الكنيسة بأي عمل دون استدعاء الروح القدس، لأن المسيح يعمل في جسده السري بالروح القدس وفيه”. وحسب قول القديس إيريناوس: “يصدر كل شيء من الآب، ويتم كل شيء بالابن، ويصل كل شيء للإنسان، ويبقى حاضرًا بيننا في الروح”. يعمل الروح في العهد القديم، ويكشف عن الابن في العهد الجديد، ويحمل الكنيسة حتى مجيء الملكوت، حيث يسلّم كل شيء للآب. ولو لم يكن الروح حاضرًا، لما وُجد رعاة ولا معلّمون. يقول القديس إيريناوس وهو يتكلم عن الرسل: “الروح القدس هذا الذي قد نالوه في يوم العنصرة، شاركوا به الناس، ووزعوه عليهم، حينئذ أسسوا الكنيسة”. وعلى هذا النور نعتبر، بحق، أن الكهنة هم “أشخاص أسرارية” قبل أن نرى فيهم “مديرين توزيع الأسرار”. علينا أن نتأمل عمل الروح في خدمة الكاهن، حسب العلامات الأربعة الأساسية التي تتميز بها الكنيسة: واحدة، مقدسة، جامعة، رسولية.

 أولاً: خدمة الوحدة

 لأنه يوجد روح واحد يكون هناك جسد واحد، فيجب إذًا أن نكون في الجسد حتى يكون لنا الروح. يقول القديس أوغسطينُس: “من تفتُر فيه المحبة يصبح مريضًا في جسد المسيح، ولكنه قادر على شفاء أعضائه المريضة، إن الله أقام الرأس من الموت، أما الأعضاء فما داموا لم ينقطعوا بسبب كفر مميت، يظلّون مرتبطين بالجسد مرضى حتى يتم شفاؤهم”. لكن هذه الوحدة، هي وحدة أشخاص مختلفين، على صورة الثالوث الأقدس. نقرأ في الليتورجية البيزنطية هذه العبارة: “إن الروح القدس هو الذي يجمع في الوحدة جسد الكنيسة بكامله” ولكن كيف يضمن الروح القدس هذه الوحدة؟ لا يحقق الروح القدس الوحدة في الكنيسة بالإجبار والإرغام، ولا تعني الوحدة وجود نمط وحيد، بل تتحقق الوحدة في الكنيسة بالمشاركة والتنوع.

يؤيد الروح القدس تنوع الشخصيات، وبه تتكامل الوحدة في الكائنات التي تعيش الاندماج الداخلي المتبادل بالحب. لذلك فإن “الإبيسكوبس” (=الناظر) ليس هو من يراقب سلوك وحياة الشعب، بل هو من يسهر على وحدة الأفكار في تنوع الخدمات وواقعية المشاركة. ولكن تظل هذه الشركة مجرد نظريات إذا لم تترجم بممارسة أخوّة واقعية، أي بمواقف تدل على الصبر والخدمة والمصالحة والوداعة وضبط النفس (غل22:5). نلاحظ أن الأخوّة الحقيقية التي نعيشها مع زملائنا الخدّام، هي الطريق الذي به يكتشف الشباب سر الكنيسة، كما يكتشفون أيضًا من خلالها دورهم ومسئوليتهم في الكنيسة ودعوتهم.

وتتجسّد اليوم خدمة الوحدة في بناء جماعات أخوية حية، حيث يُعترف بكل واحد حسب موهبته وممارسة رسالته. يبدو أن هذه الخدمة- خدمة الوحدة- أصبحت رغبة ملحّة في أيامنا. وذلك أمام الأزمات التي تصيب نوعًا ما الحركة المسكونية، وأيضًا أمام التوترات التي توجد داخل كنائسنا، بسبب اختلاف وجهات النظر في مفهوم دور الكنيسة ورسالتها في العالم اليوم. ولن نحل هذه المسائل بمجرد تسويات بشرية، بل بروح المسيح الذي لم يمارس سلطته بأسلوب بشري بل بالتخلي عن ذاته إذ أخذ صورة العبد، غسل أرجل تلاميذه قبل أن يسلّم نفسه في الروح ذبيحة للمصالحة: “لكي يجمع في الوحدة شمل أبناء الله المشتتين بالخطيئة” (يو52:11).

 ثانيًا: خدمة التقديس

 في تدبير الأسرار، يعمل الكاهن باسم شخص المسيح: والمسيح هو الذي يعمّد ويعلّم ويصالح… ومعنى سر الكهنوت أن الكنيسة تنال كيانها من المسيح. أمّا خدمة التعليم فيعتبرها بولس عبادة: “صرت بالمسيح يسوع خادمًا لدى الأمم، كاهنًا عاملاً لإنجيل الله، حتى يكون قربان الأمم مقبولاً عند الله مقدسًا في الروح القدس” (روم16:15) والرسالة حسب القديس بولس هي عبادة طاعة الإيمان وذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله (روم1:12). وهذا ما يقوله بولس بأسلوب آخر للكورنثيين: “كان كلامي وتبشيري لا يعتمدان على أساليب الحكمة البشرية في الإقناع، بل على ما يظهره روح الله وقوته، حتى يستند إيمانكم إلى قدرة الله، لا إلى حكمة البشر” (1كو2/4-5). نجد هنا أساس الفاعلية المشتركة بين الكلام والروح في خدمة الإنجيل. إن الروح هو المعلم الداخلي، الذي يُلهم سامع كلام الإنجيل. إنه يعطي الكلام قوته ومعناه لعصرنا، ويجعل الكلام مناسبًا في ظروفنا الحالية، ومحركًا وملهمًا إرادتنا. وهذه العقيدة التي تشترط ببديهية قداسة الكاهن، انتشرت في الشرق والغرب وسط الاعتراضات. والشاهد المؤثر بطريقة خاصّة لهذه الفكرة هو الهيجوميني أي رئيس الدير “سمعان اللاهوتي الجديد” الذي عاش في اسطنبول (القسطنطينية) في القرن الحادي عشر. بالنسبة لسمعان، إن حضور الروح مسألة خبرة وثمرة ولادة ثانية في الدموع، مما ينمّي إحساسًا داخليًا لمواهب الروح.

ويتطلّب ذلك استقلالية نسبية للخبرة الروحية بالنسبة للأسرار بما فيها سر الكهنوت، فيقول: “ماذا نقول عن الذين يرغبون أن ينالوا مهمة الكهنة، الرؤساء، والذين يريدون استماع الأسرار من المؤمنين، ويؤكّدون أنهم جديرون بمهمة الحل والربط؟ وعندما أراهم لا يعرفون شيئًا عن الأمور الضرورية والإلهية، فلا يعلّمونها للآخرين، ولا يرشدونهم نحو المعرفة، فما هم إلاّ الذين يقول لهم المسيح: “الويل لكم أنتم علماء الشريعة لأنكم استوليتم على مفتاح المعرفة” (لو52:11). وما هو المفتاح سوى النعمة التي أعطاها لنا الروح القدس بالإيمان! الابن هو الباب، أما مفتاح الباب هو الروح القدس.

 ومن هنا نطرح السؤال: إذا كان الروح القدس هو الذي يفتح، ما معنى سلطة المفاتيح؟ ومَن يمارسها؟ الإنسان الروحي أم الخادم المرسوم؟ بالنسبة لسمعان، لا تؤهل الرسامة القانونية وحدها المرسوم لهبة الروح القدس للشعب بواسطة الأسرار، إذا لم يستنر الخادم، ولم يضطرم قلبه بحرارة الروح. ويجب أن يكون قديسًا من يريد أن يصالح الناس مع الله المثلث القداسة: وذلك لدرجة أن أشخاصًا روحيين – وإن كانوا غير مرسومين – يستطيعون أن يمارسوا هذه الخدمة.

وفي الشرق كان الاعتراف والحل شأن الرهبان حتى القرن الثالث عشر . ولكن الكاردينال هومبير في سنة 1054 اعترض على هذه الممارسة قائلاً: “في الكنيسة المقدسة كل واحد يبقى على درجته”. وعادت هذه المناقشات في الغرب مع الإصلاحيين، الذين اشتكوا من أن إكليروس فاسدًا يمارس دور القاضي مع المعترفين لديهم… ولكن حُسم النقاش في المجمع التريدنتيني، الذي أقرّ أن النعمة في الأسرار تقدّس المؤمنين “بفاعلية السر”، بغض النظر عن قداسة الخادم! إن هذه العبارة أمينة لتقليد الكنيسة، ولكن تفسيرها لا يخلو من التباس خطير:

وهو الشك في ضرورة القداسة التي تتطلبها ممارسة الأسرار من الجهتين (مانح السر ومَن يناله). ومن البديهي، أن كاهنًا لا يُلزم نفسه بالقداسة، ويكتفي بالوظيفة “يعمل الطقوس التي تريدها الكنيسة”، لا يقوم هذا الكاهن برسالته بطريقة لائقة! وقال الكاردينال مارتن (رئيس أساقفة باريس سابقًا) في احتفال لتكريم القديس جان ماري (خوري أرس): “هذه الخدمة التي تجعلنا شركاء في عمل المسيح والروح القدس، هي مجال اهتدائنا وتقديسنا. بكثرة ما نعمل ونتكلم باسم المسيح، هو ذاته يعيد بناء شخصيتنا، ويطبع فينا وجهه كراع. فيكفي أن نترك له المجال لكي يشكّلنا على صورته.

ولا أحد يستطيع أن يقول ويكرر مرارًا باسم يسوع هذا القول: “هذا هو جسدي” دون أن تتجلّى تدريجيًا حياته، أي جسده وكيانه وشخصيته كخادم المسيح المكرّس. ولا أحد يستطيع أن يكرّر قول المسيح باسمه، وبصيغة المتكلم: “مغفورة لك خطاياك” دون أن يكون هو ذاته بخطيئته مضطرمًا بالغفران الذي يلج فيه. لا أحد يستطيع أن يرافق خطيبين في البحث عن مصدر حبهما باسم المسيح، دون أن يتلقى مباشرة السؤال: ” أين أنا من مصدر الحب الذي كرّست حياتي من أجله ؟”

 —————————

ترجمة بتصرف الأب ميشيل ليبورديه عن مجلة “Prêtres diocésains”