stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

أدبية

سر التوبة – الأب د./ رمزي نعمه

2.2kviews

convers1سر التوبة – الأب د./ رمزي نعمه

مقدمة:

لقد مرّ سرّ التوبة خلال تاريخ الكنيسة بمد وجزر، ومن عصر ذهبي إلى عصر انحطاطي. وحتى في يومنا هذا، ما يزال سرّ التوبة يمر بأزمة، إلا أن الكنيسة تقف اليوم كما وقفت في كل مرة لتكون “العمود والسند للحقيقة” (1تيمو15:3). لتكون أماً ومعلمة وقائدة من أجل خلاص البشرية. تستمد قوتها من الله نفسه ومن ابنه الوحيد الذي جسّد حبّ الله وحنوّه على البشرية.ومنذ المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني وحتى يومنا هذا ما عتمت الكنيسة تعلّم وتجاهر بان الأهمية البالغة للتوبة للإنسان المعاصر كحل لكل معضلات حياته. كان تعليم قداسة البابا بولس السادس غنياً حول هذا الموضوع حيث كتب عام 1966 إرشاداً رعوياً حول التوبة “Paenitemini”، وهو الذي دعى إلى الاحتفال بالسنة المقدسة سنة 1975، وقد أراد أن يكون “التجدّد والمصالحة” الفكرة الأساسية لهذا الحدث الهام. وصدرت عام 1973 الرتبة الجديدة لسرّ التوبة، وتبعتها الترجمة العربية سنة 1976. وكانت تلك الرتبة ثورة تحمل في طياتها آفاق جديدة ومفهوماً جديداً لسر التوبة الذي تجمّد على مرّ العصور، وجرّد مراراً من الحياة ليصبح هيكلاً عظيماً.وفي ذكرى مرور 1950 سنة على الفداء، أي سنة 1983، انعقد في روما سينودس للأساقفة تناول موضوع “التوبة والمصالحة”، وعلى إثره وجّه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إرشاداً رسولياً تحت عنوان “بشأن المصالحة والتوبة في رسالة الكنيسة اليوم”.كل ما سبق يدعو إلى التأمل في هذا السرّ حتى نفهمه على حقيقته حتى يكون هذا السرّ فترة أمل في حياة المسيحي، ويصبح مناسبة يُكتشف من خلالها سرّ المسيح ومحبته ويكون أخيراً عاملاً في تقدم الحياة الروحية. لن نتطرق إلى النواحي الكتابية والتاريخية والليتورجية للسرّ حيث تُدرس في مساق أخرى ونكتفي بالأقسام التالية:

أولاً: الواقع الذي نعيشه

أسباب تناقص عدد المتقدمين من سرّ التوبة

1- الأسباب الفكرية:

“المعترفون قليلون وأما المتناولون فكثيرون”.

إنها ظاهرة جديدة يتناقص فيها عدد المتقدمين إلى سرّ التوبة بالمقابل تزداد عدد المناولات. هذه الظاهرة ليست في أوروبا وأمريكا فحسب بل في شرقنا أيضاً. فما الأسباب؟ الأسباب متعددة فمنها الشخصي ومنها الجماعي. وتتلخص في النقاط التالية:

أ- فقدان معنى الخطيئة:

في رسالة مذاعة قال البابا بيوس الثاني عشر يوماً قولاً ذهب تقريباً مذهب المثل وهو: “إن الخطيئة هذا العصر هي فقدان معنى الخطيئة” وإذا ما تعمقنا في الأسباب التي قادت إلى فقدان معنى الخطيئة نرى أنها أولاً وأساساً تكمن في تجميد صوت الضمير وبالتالي إخماد الحس الإلهي، لأنه متى ضاع هذا الحس الداخلي المهم، فقد الإنسان إحساسه بالخطيئة. وفي إرشاده الرسولي يعدّد قداسة البابا يوحنا بولس الثاني العناصر التي أدّت إلى فقدان معنى الخطيئة:- العلمانية، التي تتجاهل الله كلياً.- مفهوم خاطئ للعلوم الإنسان المعاصرة التي تنادي بعدم التركيز على تنمية الشعور بالذنب وعدم وضع حد للحرية وبالتالي يضع هذا المفهوم الخاطئ حداً لمسؤولية الإنسان فلا يستطيع القيام بعمل بشري حقيقي.- هناك مَن ينادي بالنسبية التاريخية، أي أن القاعدة الأدبية هي نسبية وليس لها أي قيمة مطلقة.- ويُفقد أخيراً حسّ الخطيئة نتيجة للتربية التي تقدم للشباب في وسائل الإعلام وحتى في العائلة. ويختتم قداسة البابا تعليمه حول فقدان معنى الخطيئة بقوله: “ولا يمكن استعادة معنى الخطيئة إلا إذا رجع الإنسان إلى مبادئ العقل والإيمان التي لا يمكنه التنكر لها والتي نادت بها دائماً عقيدة الكنيسة الأدبية” (عدد18).

ب- عدم تفهّم الوساطة الكنسية ورفضها:

حيث أن مجتمعنا تعددي فلا غرابة من تأثير متبادل بين مختلف الفئات. فعدم الرؤية الواضحة في ممارسة سرّ التوبة في الكنائس الأرثوذكسية من جهة، وتجاهل هذا السرّ لدى الكنائس البروتستانتية من جهة أخرى، له تأثيره السلبي في تقبّل الوساطة الكنسية في السرّ. فنسمع الاعتراضات: ما علاقة الكنيسة بسرّ التوبة؟ ولماذا الاعتراف للكاهن؟ ألا يكفي أن اعترف لله مباشرة؟ لست بحاجة لوساطة بيني وبين الله. كذلك فقد صار الإنسان المعاصر أكثر حساسية للبعد الاجتماعي للخطيئة. فلا يرى البعض في الخطيئة إهانة لله بل إساءة إلى الذات أو القريب. “أنا لم أهن الله ولا الكنيسة فلا حاجة للاعتراف، يكفي أن أتصالح مع القريب الذي وجهت إليه الإهانة”. وبالطبع فإذا توقف فهم الإنسان لخطأه على المستوى الاجتماعي لم يعد بحاجة إلى معرّف بل إلى نقابة لتحل له مشاكله.لكن المجمع يركز على البعد الكنسي للمصالحة: “أولئك الذين يتقدمون من سرّ التوبة يقتبلون فيه من رحمة الله غفراناً عن الإساءة التي ألحقوها به، وستصالحون، في الوقت عينه، مع الكنيسة التي جرحوها بخطيئتهم والتي تدأب في العمل على توبتهم في المحبة، والمثل والصلاة” (نور الأمم11).

جـ- مفهوم الحرية:

الحرية هي القيمة الإنسانية الحقة، لأن الله الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله، أعطاه إياها (سيراخ 11:15، 13:12). ولا تُفهم الحرية إلا بالنظر إلى أن الإنسان هو على صورة الله وما حريته إلا مشاركة للحرية الإلهية. وبما أن الحرية الإنسانية هي امتداد لحرية الله فإنها لا تكون “حرة” بالمعنى الكامل إلا إذا عملت في خط الله. وإن الله يحترم حرية الإنسان حتى ولو عملت ضده. هذا هو سرّ الله وسرّ حريته وحرية الإنسان.الحرية أساس لكل عمل إنساني إذ إنها القيمة التي يتمتع بها الإنسان دون باقي الكائنات المنظورة. يؤلّه إنسان اليوم حرية الفرد واستقلاليته ويعتبر أي تدخل خارجي في حياته هو نوع من المساس بصميم حياته ويرى في أي طلب لا يتوافق مع مزاجه مساً لكرامته. لإنسان العصر ثقة كبيرة بنفسه ولديه شعور بالعظمة والكبرياء والكفاءة الذاتية. ومن ناحية أخرى يتساءل الكثيرون متى يتصرّف إنسان اليوم بحرية ولا سيما وإنه مسيّر من قِبَل وسائل الإعلام والضغوط الاجتماعية. وإذا انعدمت الحرية انعدمت المسئولية وبالتالي لا يُخطئ ولا يشعر بالحاجة إلى توبة.العقبات التي تحيط بممارسة سرّ التوبة

2- الأسباب العملية:

من المستحيل أن يُعطي هذا السرّ الثمار الموجودة، إذا لم نقبله كعطية من أجمل العطايا التي تركها يسوع لكنيسته وللنفوس. ولذا لابد من الانتباه إلى بعض العقبات في الممارسة المتبعة لغاية الآن والواقع الذي نعيشه:

أ- عدم الاستعداد الكافي من قِبَل التائب:

غالباً ما يلاحظ أن المتقدمين لقبول سرّ التوبة غير مهيأين جدياً لقبول السرّ. فلم يُعطوا الوقت اللازم للاستعداد داخلياً لهذه الخطوة. فمنهم من يتوجه من باب الكنيسة إلى منبر الاعتراف وغيرهم من يتسابق ليحجز دوره حالما يُعلن عن وجود الكاهن لإعطاء السرّ. ويلاحظ بصورة خاصة عدم الاستعداد الداخلي لقبول السرّ من خلال الكلمات الأولى التي يتفوّه بها التائب، على سبيل المثال:”أبونا أنت تعرف حياة الإنسان كلها خطأ وخطيئة””أبونا ليس عندي خطيئة””أبونا أنا ارتكبت كل الخطايا، إعطني الحلّ””أبونا مافيش، شوية سب دين، شوية نرفزة. ما حضرتش القداس يوم الأحد… مافيش حاجة!”يشير ما سبق إلى أن قبول السرّ بالنسبة للعديدين هو مجرد تطبيق معاملة. لابد من تتميم هذه المهمة بأسرع وقت وبأقل جهد. ويتهيأ لي بأن السرّ بالنسبة لهم يتوقف على إقرار الخطايا فقط وكأن لا صلة بين ما يسبق هذه الخطوة من فحص ضمير وندامة وقصد وما يتبعها من حلّ وقانون اعتراف. كما ويلاحظ مراراً أن الغاية من قبول سرّ التوبة هو أخذ الموافقة القانونية الرسمية للتقدم من الإفخارستيا وليس استعداداً داخلياً للقاء بمن يشير إليه هذا السرّ.لقد أشارت رتبة التوبة الجديدة أكثر من مرة إلى ضرورة الاستعداد الشخصي بالندامة قبل اللجوء إلى السر نفسه. “إن تلميذ المسيح، الذي يحركه الروح القدس إلى سر التوبة، بعد سقوطه في الخطيئة، ينبغي له، قبل كل شيء، أن يرجع إلى الله بكل قلبه. وارتداد القلب هذا الباطن يشمل مقت الخطيئة والعزم على نهج حياة جديدة” (عدد15). وتذهب الرتبة إلى أبعد من ذلك لتطلب استعداداً ليس من التائب فحسب بل من الكاهن أيضاً “يتهيأ الكاهن والتائب بالصلاة أولاً، لإقامة سر التوبة. فالكاهن يدعو إلى الروح القدس، مستمداً منه نور ومحبة؛ والتائب يتطلع إلى حياته، ويحاسب نفسه في ضوء حياة المسيح وقدوته وتعاليمه، ويسأل الله أن يعفو عنه” (عدد41).

ب- عدم تفرّغ الكهنة لسماع الاعترافات:

لا شك أن جزءاً كبيراً من المسؤولية في تناقص عدد المتقدمين من سر التوبة يعود على الكهنة أنفسهم. إن انشغال الكهنة بأمور عديدة، وإن كانت على جانب عظيم من الأهمية، إلا إنها تلهيهم مراراً عن الأهم.تتطلب الاعترافات التزاماً جدياً كالتواجد في الكنيسة في ساعات محددة ولفترة طويلة أحياناً. لذا يعطي بعض الكهنة الانطباع بأنهم مشغولين ومنشغلين فلا يمنحون السر حقه من الوقت، فيمنحونه بصورة أوتوماتيكية لا تليق بالسر. حتى وإن كانت نعمة السر بقوة الفعل ذاته (ex poere operato ) إلا أن الله جعل الكهنة قناة لإيصال هذه النعمة. ويناشد المجمع المسكوني وكتيب رتبة سر التوبة الكهنة أن يتواجدوا باستمرار لسماع اعترافات المؤمنين:من رتبة سر التوبة “ليكن المعرّف دائماً على أهبة الاستعداد لسماع اعتراف المؤمنين، كلما تقدم هؤلاء يطلبون الاعتراف طلباً معقولاً” (عدد32).من قرارات المجمع حول “مهمة الأساقفة الرعوية”: “وليتذكر الكهنة أيضاً كم لسر التوبة من جزيل الفائدة لتعزيز الحياة المسيحية. وعليهم أن يظهروا أنهم قريبوا المنال لسماع اعترافات المؤمنين، وإذا اقتضى الأمر فليدعوا أيضاً كهنة آخرين يتقنون لغات مختلفة” (عدد30).

جـ- عامل الخجل:

نجد أحياناً أشخاصاً انقطعوا ولفترة عن ممارسة سر التوبة نتيجة ذكريات سلبية علقت في ذهنهم من خلال إحراج في الأسئلة ولا سيما في موضوع الوصية السادسة. ولذا لابد من الحذر والفطنة في إعداد الشخص روحياً قبل اللجوء إلى طرح الأسئلة عليه. وإن كان لابد من التكلم عن الحياة الجنسية يجب ربطها بالمحبة.هنالك صعوبة فبالنسبة للبعض لا توجد خطيئة إلا خطيئة الجنس والبعض الآخر لا يذكرون هذه الخطيئة قطعياً إما عن جهل وإما عن خجل لدى الشبان والشابات.

د- قضايا تخص الزمان:

ينتظر العدد الكبير من المؤمنين التقدم من سر التوبة في اللحظة الأخيرة قبل القداس الإلهي مما يجبر الكاهن على الإسراع في إقامة السر ليتمكن من بدء القداس في الموعد المحدد. وهكذا يحرم عدد كبير من التائبين من قبول السر لعدم وجود كاهن مساعد في أغلبية الرعايا. وحتى إن وُجد فإن سماع الاعترافات أثناء الذبيحة له سلبيات، أهمها عدم المشاركة في القداس بطريقة تليق الإفخارستيا ومن ثم التشتت الذي يسببه للمصلين.ويلاحظ هذا الواقع بصورة خاصة في الأزمنة الكبرى كالميلاد والفصح حيث يتهافت التائبون على منبر الاعتراف بأعداد متزايدة فيقع الكاهن في حيرة بين أمرين: الإسراع في منح السر لفسح المجال الأكبر عدد ممكن من التائبين لقبوله أو إعطاء الوقت اللازم لكل تائب حسب ظروفه وحالته ولا سيما وإنه في مثل موسم الصيد هذا يكاد السمك الكبير أن يمزق الشباك.

هـ- قضايا تخص المكان:

برزت فكرة إيجاد كرسي الاعتراف لأول مرة في مجمع عُقد في اشبيلية سنة 1515. وانتشر استعماله مع المجمع التريدنتيني في العصر ذاته خاصة بحسب رغبة القديس “شارل برومية”. منذ ذلك الوقت راح النجارون والنحاتون يتفننون في زخرفته وتزيينه. وفي عام 1565 قرر مجمع عُقد في ميلانو أن يكون هناك حاجز خشبي يفصل بين المعرّف والتائب.يترك الحق القانوني الذي صدر سنة 1983 للمجامع الأسقفية وضع القوانين المناسبة لاستعمال المنبر مع التأكيد على ضرورة وجود المنبر في الكنيسة بحيث يكون مكانه مكشوفاً ولابد من وجود حاجز على شكل الشبكة بين الكاهن والتائب لإعطاء المجال لمن يرغب في استعماله ألا يتردد في ذلك. ويتابع القانون نفسه موضحاً بأنه لا يحق سماع الاعترافات خارج منبر الاعتراف إلا لأسباب موجبة.إلا أنه يجدر الملاحظة أن وضع كرسي الاعتراف في الكنيسة لا يساعد مراراً المؤمنين على الاعتراف، فعامل الخجل يلعب دوره حيث يوضع على مقربة من المؤمنين المصلين وحيث صعوبة سماع الحوار بين الكاهن والتائب قائمة. كذلك وضع كرسي الاعتراف في جهة معينة من الكنيسة، من جهة الرجال أو النساء لا يشجع الطرف الآخر على التقدّم بسهولة.وإن وُحدت السلبيات إلا أن “كرسي الاعتراف إنما هو مكان مفضل ومبارك، يولد منه، بعد القضاء على الانقسامات، إنسان مصالح جديد، لا عيب فيه- عالماً جديداً” (عدد5:31).

و- الروتينية في ممارسة السر: 

أصبحت الاعترافات ليست نادرة فحسب بل من قبيل العادة أو على نمط واحد. والبرهان على ذلك أن العدد من المؤمنين لا يرى فيها سوى واجب مفروض، لا ينبوع حياة. فكثيراً ما نسمع هذا الاعتراض: “الاعتراف هو مجرد روتين وعادة لا فائدة منه. أنا أكرر دوماً نفس الخطايا نفس الهفوات. لا ألاحظ للاعتراف أي تأثير على حياتي. أعترف وأعود إلى الخطيئة من جديد. أعود إلى ما كنت عليه قبل الاعتراف وكأنه لم يكن ولذا فأنا لا أشعر بضرورة هذا السر”.هنالك روتين من ناحية التائب وروتين من ناحية المعرّف الذي يستعمل الكليشهات دون اعتبار الأشخاص والظروف والخطايا. 

عن مجلة صديق الكاهن/عدد 4/ 1995