stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

متنوعة

صراخ الصامتين- أشرف ناجح

855views

urlo-people-bصراخ الصامتين- أشرف ناجح

إنَّ صراخ الصامتين نفسه لهو أقوى مِن صراخ الكلام والأحاديث المنمقة الرنانة التي تطالب بحقوق الإنسان المهضومة بسب الظلم وعدم الرحمة وغياب المحبة عن أبناء جيلنا؛ فهذه الأحاديث قد تكون جميلة وربما تشبع وترضي العقول التي تسعى لسماع كل ما هو جديد، ولكنها لا تحرك ساكناً في قلوب البشر التي تحجرت مع مرور السنين. أمَّا عندما يصرخ الصامتون، فصراخهم يُسقط الدموع الغزيرة مِن العيون التي تراكم عليها الصدى، ويحرك القلوب القاسية التي أثقلتها اللذات والشهوات. إن صراخ الصامتين لا يعرف الأحاديث المنظمة، إنما يقوم فقط بطرح التساؤلات مرة ومرات، ويحاول التعبير بتلقائية عن همومه وآنات قلبه، ويزرف دموعاً غزيرة ليلاً ونهاراً، ليس مِن عيناه فحسب وإنما مِن قلبه وكل كيانه أيضاً؛ ثم يعود مِن جديد إلى صمته مداعباً بصيص مِن الأمل في أن يجد مَن يسمعه ويرفع عنه –ولو قليلاً- مِن آنات وآهات نفسه!! 

• الجَّنين

فها هو الجنين في بطن أمه يصرخ نحوها: «أمي، لماذا تصدقين مَن حولك؟ اسمعي جيداً ما أقوله، إنهم يخدعونك بأحاديث مزيفة زائفة فحواها أن مصيري هو الموت. لا ياأمي، لا تقتلي جنينك! أجل، أنا اليوم جنيناً، ولكنني في المستقبل سأكون شاباً صالحاً يجاهد مِن أجل عائلته ووطنه وكنيسته. لا تصدقيهم عندما يقولون لك بأنني لم أملك بعد نفساً حية، وأنني مجرد أمر زائد ينبغي التخلص منه. هل تذكري، ياأمي، زمناً كانت فيه الأم تموت تضحية مِن أجل فلذات أكبدها؟! أو نسيت، ياأمي، أن الله المحبة ذاته عندما أراد أن يشرح محبته للبشر اختار شخصية الأم ليعلن أنه يحب البشر كما تحب الأم أبناءها، لا وبل يحبهم أكثر (أش 49/15)!! تمهلي، ياأمي، في قرار إجهاضك! فلا تركتبي خطيئة وجريمة في حقي وفي حق نفسك وفي حق البشرية جمعاء! لا..لا أريدك، ياأمي، أن تداني مِن الله عندما يسألك: “أين ابنك؟”! وأخيراً، ياأمي، أنا أحبك؟ فهل تبادلني الحب؟!». 

•  الفتيات القاصرات وغير القاصرات

وها هنَّ الفتيات القاصرات أو غير القاصرات اللاوتي يبعن أجسادهن مِن أجل الحصول على المال لمواجهة ظروف الحياة الصعبة، أو حتى مِن أجل البحث عن الحب المفقود في حياتهم، هوذا صراخ أحدهن نحو مَن يستغلونها: «أعرف جيداً أنكم أسيادي، لأنكم تمتلكون المال الذي أبحث عنه بلهفة وشوق؛ وأعرف أيضاً أنني أنا التي أتيت إليكم بحرية ورغبة شخصيتين! ولكن لا تظنوا يوماً أنني سعيدة لحياة بهذا الشكل، ولا تظنوا يوماً أنكم بإمتلاكم لجسدي تقدرون على امتلاك قلبي وعواطفي معه. أجل، ربما ترونني أضحك أمامكم، ولكنني أتمزق بداخل أحشائي؛ فأنا متشتة فارغة ضائعة، وكل ما بداخلي وكل ما أنا يصرخ في صمت طالباً “القداسة” و”العفة”! نعم، أقول “القداسة” و”العفة”، فحقاً لا يسعدنني أن أرى نفس ملقاة في حضن الخطيئة، متنعمة بالأموال الزائلة والأصحاب الزائفة! فكم تمنيت أن أكون أماً ساكنة بيتٍ ومحاطة بأولادها، تسعدهم ويسعدونها! ولكنني ولدت في الحياة فقيرة، ورأيت مَن حولي سعداء ويملكون الأموال والبيوت، فقلت لنفسي لماذا لا أكون سعيدة أنا أيضاً بإمتلاكي ما يملكون!! ولكنني اليوم نادمة أشد الندم على أنني سلكت مثل هذا الطريق، إ

نه طريق ضياع الذات التي أبحث عنها الآن، وضياع الأصدقاء الحقيقين الذين كانوا يمكنهم أن يصبحوا بجواري الآن، وضياع العائلة التي كان يمكن أن أكون فيها أماً صالحة!! إنني عندما أقبل شراءكم لي بأموالكم، لا تظنوا أنني أريدكم أنتم كأشخاص، لا فأنا أريد أموالكم؛ فلا تظنوا إذاً أنكم أنتم فقط الذين تستغلونني، لأنني أنا أيضاً استغلكم كوسيلة للحصول على المال الذي أرغبه! هل لا تصدقون أنني لا أبحث عنكم كأشخاص، أنما أبحث عنكم كوسيلة لأربح- ولو بطريقة خاطئة محزنة- مالاً ومقتنيات؟! فها لكم الدليل: إنني لا أقبل الذهاب مع مَن لا يملك شيئاً أو مع مَن يدفع أقل؛ فبيني وبينكم لا توجد أيَّة “مجانية”، إنما مجردة “صفقة”!! وقبل أن أنسى، أريد أن أؤكد لكم أنه ينقصنني أيضاً الشعور بالحب؛ فلا تظنوا أنني عندما ألتقي بكم يرضيني ويشبعني فقط المال الذي تعطونني إياه! لا، فهذا المال هو أمر مِن أمور متعددة ومعقدة؛ فعندما أقبل الذهاب معكم، فهذا لأنني أشعر نوعاً ما بتحقيق لذاتي، أشعر بأنني شخص مرغوب فيه- حتى ولو لساعات قليلة- فإنني بالحقيقة أبحث عما فقدته في حياتي، أبحث عن الحب الذي لم أشعر به في حياتي! 

آه.. لو كنت شعرت بأن هناك أشخاص يحبونني، آه.. لو كنتُ قابلتُ مَن يريد أنْ يُكرَّس حياته لأجلي، لما كنت بصدق اخترت طريق الضياع والعذاب هذا!! إن صراخي الصامت مُوجَّهه أولاً لك أنتم يا مَن تستغلونني، لكي لا تصدقونني عندما آتي معكم، ولكي تفهموا إلى ماذا أحتاج، وحتى تساعدونني بمحبتكم ورحمتكم وسخاءكم لأصبح أكثر إنسانية! إن صراخي الصامت موجهة أيضاً إلى كلِّ أغنياء العالم لينظروا بشفقة وإخوة لفقراء نفس العالم الذي يعيشون فيه! إن صراخي الصامت موجهة أيضاً إلى العائلات حتى تقدم لبناتها ولأبناءها الحب والحنان، لكى لا يذهبون للبحث عنهما خارجاً، أقصد في طريق الضياع والهلاك! إن صراخي الصامت موجهة أخيراً إلى الله المحبة الرحمان الرحيم، ليقبلني بمحبته الواسعة، ويحتضنني بذراعيه القويين (لو 15/20)، لكى لا أحتاج لذراعي البشر ولإحضان العالم!».

• السَّجين

 وهاك صراخ السجين البريء إلى مَن حبسه ظلماً وعدم أمانة: «انظروا ماذا فعلتم بي! إن عدم أمانتكم وعدم دقتكم في إنجاز أعمالكم أدت بي إلى هذا السجن المظلم الكئيب! لماذ حُكم عليّ بالسجن، مع أنني بريء مِن كل التهم والجرائم التي لصقتوها بي ظلماً؟ لماذا خسرت عائلتي وفقدت بالموت ابني، وضاع مني العمل، وجُردت مِن المركز والكرامة الاجتماعية؟! أتقدِّمون لي الآن اعتذاراً رخيصاً جداً؟ أتعترفون الآن وتقولون بعد سبعة أعوام “أنكم أخطئتم”؟! وهل سينفع اعتذاركم في إعادة ابني الذي فقد بالموت في غيابي؟ أيقدر اعتذاركم هذا أن يعيد لي كرامتي أمام المجتمع وثقتي أمام نفسي؟ أتظنون أنه مِن السهل أن يبدأ الشخص في استعادة قواه ليواجه الحياة بعد فترة غياب طويلة عن مجتمع يتغير يومياً بسرعة رهيبة؟!».

 • العجوز

وهاك أيضاً صراخ العجوز التي أوشكت على الموت نحو أبناءها الذين يصرون على تعجيل موتها، وحجتهم في ذلك أن يريحوها مِن متاعب الحياة: «أبناءئي، ألست أنا أمكم (أبوكم)؟! فإنْ كنتُ لازلت أحظى حتى الآن بهذا اللقب، فاسمعونني جيداً! لقد كنتُ يوماً مثلكم، أجل كنتُ شابة (شاب) مثلكم، فرحتُ بوجودي في الحياة وبوجود الحياة فيَّ، ورغبتُ في أن أسمح لله أن يُعطي الحياة مِن خلالي، فتزوجت وقومت بإخراج الحياة إلى النور، وها هي أنتم، لقد أعطيتكم يوماً الحياة؛ ولكنكم اليوم- وياآسفاه- تريدون أن تقطعونها مني، تريدون أن تقتلونني قتلاً متعمداً جائراً، وتسمونه “موتاً رحيماً”، فأين هي تلك الرحمة التي تتحدثون عنها؟! كفاكم، أبناءئي، كفاكم خداعاً! لا تسمحوا للثقافة المعاصرة والبيئة المحيطة أن تخداعانكم أكثر مِن هذا بقولهما لكم “أننا نحن العواجز أصبحنا عالة على المجتمع وأصبحناً ضرراً بالنسبة للإنتاج”؛ إنها حضارة الموت والضمار، يأبناءئي! أجل، فهذا هو بصدقٍ دافعكم الأول والأساسي، فليس دافعكم إذاً أن تريحونني! وينتابوني شعورٌ أخر بأنكم تعبتم مِن المصاريف والتكاليف التي تدفعونها مقابل علاجي ورعايتي! أشكركم حقاً مِن أجل هذه التضحيات المُكلِّفة؛ ولكن ليتكم تتذكرون على قدر ما استطعتم كم ضحيت أنا مِن أجلكم ومِن أجل رعايتكم وحمايتكم، مِن أجل أن أراكم في الحياة! ومهما تذكرتم فلن تقدروا أنْ تتذكروا كل التضحيّات، فقبل أنْ تدركوا الأمور جيداً وقبل أنْ تعوا بالحياة، كنت أضحي وأضحي في سبيل أن أراكم يوماً رجالاً ونساء في الحياة؛ أجل، لقد تمنيت أن أراكم في الحياة، ولكن لم أتمنى أبداً أن أراكم هكذا، فلم أتمنى أن أراكم أبناء يُعجِّلون في موت الأم أو الأب الذين ضحيا مِن أجلكم كثيراً!!». 

• أخرون كثيرون

 يمكننا، عزيزي، أن نسترسل في استماع وكتابة صراخ الصامتين؛ ولكننا نترك لك هذا العمل المهم جداً، فانظر حولك لتسمع صراخ الصامتين الذين يملؤن العالم بصراخهم الذي لا يُحدث أبداً ضوضاء! فها هو الفقير المعوز يصرخ في صمته طالباً معونة، وها هو ذو الاحتياجات الخاصة يصرخ طالباً رعاية وحب…!! «إِفتحْ فَمَك لأجل الأخرس في قضيَّة كلِّ أبناء الخِذْلان. إِفتحْ فَمَك واُحكم بالعدل وأُنصف البائس والمِسكين» (مثل 31/8-9)! وتذكَّر أنه «في أيامنا الحاضرة بنوع خاصّ علينا واجب حتميّ أن نكون نحن أيضاً هذا القريب [السامري الصالح] بالنسبة إلى أي إنسان [لو 10/25-37]. وإذا قصدنا علينا أن نتسارع إلى خدمته سواء كان كهلاً تخلى عنه الجميع أو عاملاً مهاجراً محتقراً بلا وجه حقّ، أو معزولاً مرذولاً، أو طفلاً مولوداً مِن علاقة غير شرعية يتحمّل وحده ظلماً تبعيّة ذنب لم يرتكبه، أو جائعاً ملهوفاً يتحدى ضميرنا مذكراً قول المسيح: “وكل ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتموه” (متّى 25/40). وبالإضافة إلى هذا، فإن كلّ ما يتعارض مع الحياة ذاتها، كالقتل بجميع أنواعه وقتل الجنين والإجهاض وقتل المرضى المستعصى شفاؤهم لوضع حد لآلامهم، والانتحار بمطلق الإرادة، وكل ما يشكل اهداراً واكراهاً، كالتشويه والتعذيب الجسمانيّ والأدبيّ، وكل ما يحطّ من كرامة الإنسان، كالعيش في ظروف لا إنسانيّة، والسجن التعسفيّ المستبد والنفي والرق والدعارة، والاتجار بالنساء والأطفال، وكذلك ظروف العمل الإذلاليّ التي تحوّل العمال إلى مجرد آلات انتاج بلا مراعاة لشخصيّتهم الحرّة المسئولة؛ إن كلّ هذه الممارسات وما يشابهها هي في الحقيقة شائنة، فإنها تفسد الحضارة وتشين من يطبّقها أكثر مما تشين من يتحمّلونها. 

إنها إهانات جسيمة تمسّ كرامة الخالق» ! فندعوك، أخيراً، أن تذهب إلي كل مَن يصرخون في صمتهم وتطمئنهم قائلاً: إنَّ ثْمَّة إلهٌ يسمع صراخهم الصامت؛ وهذا الإله يدعوه الكتاب المقدس «مُنقذ البائس ممَّن هو أقوى منه [و] مُنقذ البائس والمسكين ممَّن يَسلبهما» (مز 35/10)، ويدعوه أيضاً «حِصناً للمظلوم» (مز 9/10)؛ وكثيراً ما رفع إليه كاتب المزامير صلاته قائلاً: «أللَّهم استمع لصراخي [و] أصغ إلى صلاتي» (مز 61/2)؛ فهو حقاً يسمع صراخ المساكين! وقل لهم أيضاً إنَّ الكنيسة –التي أرادها الله أنْ تكون له شعباً ولابنه جسداً ولروحه هيكلاً – هي ذاتها تسمع صراخهم الصامت وتصلي مِن أجلهم؛ ليس هذا فحسب، وإنما هي أيضاً تتكلم بدلاً عنهم وتتبنَّي نفس طريقتهم، فهي لا تمتلك أسلحة نارية أو معدات حربية، وإنما هي تصرخ في صمتٍ مثلهم تماماً، ولكن صمتها أبلغ مِن آلاف الكلمات ! فما أقوي وأروع صراخ الصامتين!!