stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

كتابية

مثل “الغني الجاهل” (لو 13:12-21)- الأب د./ كميل وليم

1.8kviews

normal_3066622_f496

يرد مثل الغني الجاهل (لو16:12-20) بعد حوار (13:12-15) وتليه مجموعة من التعاليم (22:12-34). يعود وضع المثل في هذا السياق إلى عمل المحررين اللاحقين إذ كان الحوار والمثل، أصلاً، منفصلين. ويورد إنجيل القديس متى التعاليم ذاتها دون أي رابط مع المثل (را. مت 19:6-21و 25-34). لقد أورد إنجيل القديس لوقا هذه التعاليم بعد المثل كنوع من التعليق عليه. إن في ذلك إشارة إلى كيفية فهم كاتب الإنجيل للمثل وكيفية استخدامه له، كما استلمه من التقليد.

يرى يواخيم يرمياس، في كتابه أمثال يسوع، أن هذا المثل كان في الأصل مثل دينونة أراد به يسوع أن يعلن اقتراب نهاية، وبالتالي غباء، الذي يهتم فقط بجمع الثروات كما لو كان هو والعالم أزليين. ويبدو أن إنجيل القديس لوقا حول هذا المثل من مثل دينونة إلى تعاليم عام عن غباء جمع الثروات واكتنازها؛ وبالتالي إلى تعليم ونصائح للاستعداد للنهاية التي تقترب، بل لطريقة حياة في الزمن الحالي.

لا يتفق مع يواخيم يرمياس في نظريته هذه لأن هذا يفترض أن يسوع كان مقتنعاً بأن النهاية قريبة وليس هناك أية أدلة تثبت هذا الأمر. إن يسوع لم يعلن نهاية العالم، بل أعلن اقتراب الملكوت الذي، بحلوله، يقلب طريقة حياة البشر وأولوياتهم رأساً على عقب. أساس المثل ليس هو حالة الطوارئ لاقتراب النهاية، بل ضرورة النظر إلى العالم نظرة جديدة. 

كان موضوع عدم جدوى الثروات وحماقة مَن يعتمد عليها شائعاً ومعروفاً في حكمة بني إسرائيل. وكان يسوع، بكل تاكيد، على علم بذلك. ولكن يسوع أعاد فم هذا الأمر وتفسيره، كما يشهد بذلك مثل الغني الجاهل، على ضوء مفهومه عن الملكوت.

جمهور المستمعين

مَن يخاطب يسوع بهذا المثل؟ يحدّد لوقا جيداً ملامح المستمعين، وهو أمر يستحق العناية والاهتمام. كان يحيط بيسوع جمهور كبير يتزاحم ويتدافع حوله، لكي يقترب منه، ويوجّه يسوع الخطاب، بغرابة شديدة إلى التلاميذ: “واجتمع في أثناء ذلك ألوفاً من الناس، حتى داس بعضهم بعضاً، فأخذ يقول لتلاميذه أولاً” (لو1:12). يوجّه يسوع الخطاب أولا إلى الرسل ولكن الجموع تتابع هذا الخطاب حتى أن أحدهم سأله “فقال له رجل من الجمع: “يا معلم مُر أخي أن يقاسمني الميراث” (لو13:12). يرد يسوع على هذا غير المحدد، مخاطباً الجموع والتلاميذ معاً: “يا رجل مَن أقامني عليكم قاضياً… ثم قال لهم..” (لو 14:13أ و 15أ). إن خطر الطمع يهدد الجميع بما فيهم أيضاً التلاميذ. وعندما يختم يسوع المثل يتوجّه إلى تلاميذه وحدهم: “وقال لتلاميذه…” (لو22:12): شارحاً لهم ما معنى أن يغتني الإنسان بالله، أي كيف يدخل الإنسان في المنطق الجديد للملكوت.

غني جاهل

يطلب أحدهم أن يناصره في حصوله على نصيبه من الميراث: “فقال له رجل من الجمع: يا معلم مُر أخي أن يقاسمني الميراث” (لو13:12), كان من المعتاد أن يطرح الناس المسائل الشرعية المعقدة على كبار معلمي الشريعة، خبراء تفسيرها. بهذه الصفة يلجأ هذا الرجل إلى يسوع الذي يرفض بلباقة تلبية طلبه: “يا رجل، مَن أقامني عليكم قاضياً أو قساماً؟” (لو14:12)، يبدو من رد يسوع هذا أنه لا يريد أن يتدخل في المسألة، ولكنه في الواقع يحلها بطريقته الخاصة. لا ينزلق إلى قشور الموضوع ولكنه يدخل فوراً إلى عمق المسألة وجذورها. يتنازع أخوان حول الميراث. يريد أحدهما أن يظل الميراث برمته بدون تقسيم، وهذا ما يجب كشفه: “تبصروا واحذروا كل طمع، لأن حياة المرء، وإن اغتنى، لا تأتيه من أمواله” (لو15:12). يوضّح المثل بطريقة واضحة ومباشرة تعليم يسوع. يعمل إنسان طوال عمره لكي يقيم ثروة. وعندما يعتقد أنه وصل إلى الحد الكافي وحصل على “أرزاق وافرة يكفي مؤونة سنين كثيرة” (19:12أ) يقرّر أن يستريح وأن يستمتع بهذه الخيرات “أقول لنفسي: استريحي وكلي واشربي وتنعمي…” (19:12ب). ولكن هيهات، إذ يجلجل صوت: “يا غبي، في هذه السنة تسترد نفسك منك” (20:12أ).

إن المسألة لا تخص لا الخيرات والثروات ولا التمتع بها، إنما تخص اعتبار أن جوهر الحياة ومعناها يقومان ف اكتناز الخيرات أي اعتبارها المركز والأمان. يرفض يسوع ويشجب بشدة فائض الخيرات الذي يصاحبه الجشع والطمع والصلف والخيلاء والمجد الباطل. إنه يتكلم عن حياة بلا صفات. يهدد الخطر ليس فقط حياة العالم الآتي بل أيضاً الحياة الآن: الحياة هي ملء الحياة وليس مجرد الوجود.

يصف المثل الرجل بأنه غني (را لو16:12) وغبي (را. لو 20:12). لماذا يصفه المثل بالجهل؟ الكلمة اليونانية التي تشير إلى هذا هي أفرون أي بلا رأس كما نقول في عباراتنا الدارجة: الأحمق، اللاهي، اللامبالي. يختلف مفهوم الحكمة في الإنجيل عنه لدى العامة. يرى الجميع أن الحرص على جمع الخيرات لتامين المستقبل حكمة. أمّا يسوع فيرى في ذلك حماقة وجهلاً، لأن ذلك يعني أن يبني المرء حياته على خيرات زائلة.

إن عبارة “فلمن يكون ما أعددته؟” (لو20:12ب) هي سؤال ينضح بآن واحد بالحكمة والسخرية اللاذعة. يعبر هذا السؤال الساخر عن غباء مَن يتكل على جمع الخيرات والثروات. لقد عبّر كتاب الجامعة عن هذا الأمر: “إنسان رزقه الله غنىً وأموالاً ومجداً فلم يكن لنفسه عوز من كل ما يشتهي. ولكن الله لم يدعه يأكل من ذلك، إنما يأكله غريب. هذا باطل وداء خبيث” (جا2:6) ويقول نفس الكتاب في مقطع آخر: “ثم التفت فرأيت باطلاً آخر تحت الشمس: واحد ليس له ثانٍ، لا ابن ولا أخ ولا نهاية لكل تعبه ولا تشبع عيناه من الغنى: لمن أتعب و أحرم نفسي الهناء؟هذا أيضاً باطل وأمر سيء” (جا7:4-8).

أنواع مختلفة من الغنى

قد يكون من المفيد أن نتعرّف من العهد القديم على الأجزاء المختلفة التي يتكوّن منها هذا المثل. يبدو أن يسوع ينطلق من نص في كتاب يشوع بن سيراخ: “رب إنسان اغتنى باهتمامه واقتصاده وهذه هي أجرته: حين يقول: قد بلغت الراحة سآكل الآن من خيراتي” وهو لا يعلم كم يمضي من الزمان حتى يترك ذلك لغيره ويموت” (سي 18:11-19). يبدو أن يسوع حوّل هذه الحكمة إلى مثل. لقد أبرز يسوع مفهوم “البطلان” الذي ورد في كتاب الجامعة: “باطل الأباطيل. كل شيء باطل” (جا 1:1) عندما جعله في مثل ملموس قريب من فهم الناس. ينظر الجامعة بتجرّد شديد إلى كل أمور الحياة وخبرات البشر: إن كل ما يتوقعه الإنسان ويثق يلبي أقل بكثير ما يعد به: إنها كلها أباطيل لا تثبت مثل الدخان أو البخار.

يختلف يسوع عن الجامعة إذ لا يكتفي بكسر هالة الاكتناز، بل يحدد بوضوح الطريق الذي يتبعه الإنسان لكي يتغلّب على هذه الأباطيل ويهرب منها مَن يكتنز هذه الخيرات إنما يكتنزها لذاته ولا يغتني بالله. إن الغباء والحماقة يقومان في هذا “الاكتناز للذات” لا الاغتناء بالله. إن عبارة لله في اللغة اليونانية ترد فعل حركة انتقال نحو الله، بالتالي لا يكون معناها لأجل الله، بل في اتجاه الله. إنه بذلك يوحي بفكرة هامة جداً: لا يقدم الإنسان خيرات وتقدمات لله، بل يستعملها في اتجاهه؟ وهو في طريقه إليه، بمنطقه هو.

تبرز تعاليم إنجيل القديس لوقا التالية معنى “لله”: “لا يهمكم للعيش ما تأكلون، ولا للجسد ما تلبسون” (لو22:12)، “فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون أو ما تشربون ولا تكونوا في قلق” (29:12) “أبوكم يعلم أنكم تحتاجون إليه” (30:12) “اطلبوا ملكوته تزادوا ذلك” (31:12)، “بيعوا أموالكم وتصدقوا بها واجعلوا لكم أكياساً لا تبلى، وكذا في السموات لا ينفد” (33:12أ).