stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

عقائدية

مواهب الروح القدس-الأب جوزيف طوبجي

1.6kviews

spi

مقدمة

قد تكون عبارة “مخافة الله” مخرِّشة لآذان سامعيها من المسيحيين! قد نقف بحذر منها: هل علينا أن نعود إلى عقليات بالية؟ هل نعود إلى إيمان الخوف بدلاً من إيمان المحبة والبنوّة لله، بعد أن جاهدنا في سبيل ترسيخ منطق المحبة؟! والأغرب من ذلك أن تقول بأنها “هبة” من الروح القدس؟! وغيرها من إشارات الاستفهام والتعجب؟

لا يسعني في بدء هذه المحاضرة إلا النصح بالتمهّل والمتابعة لسبر غور هذه الهبة العظيمة والأساسية في حياتنا مع الله ومع القريب ومع ذاتنا.

أقسم المحاضرة إلى قسمين أساسييَن: في القسم الأول نتجوّل في رحاب الكتاب المقدس لنتعرّف إلى هذه الهبة، وما أكثر ماسنعرفه عنها؛ أما في القسم الثاني نحاول تحديد هبة مخافة الله بحسب لاهوت الكنيسة الكاثوليكية منذ ثمانية قرون خلت حتى الآن.

محاولة تعريف لهبة “مخافة الله”

يعرّف القديس توما الأكويني هذه الهبة بما يلي: “هي هبة فائقة الطبيعة، من خلالها وتحت تأثير الروح القدس، يكتسب الإنسان طواعية خاصة لكي يخضع بشكل تام للإرادة الإلهية، بسبب الاحترام الواجب لعظمة الله التي تستطيع أن تعاقبنا بشرٍّ ما” ! 1

طبعاً لا يقصد القديس توما بأننا يجب أن نخاف من شرّ الله، فالله محبة خالصة لا شرَّ فيه، نبع الصلاح والخير الذي لا نهاية له؛ إنما يقصد الخوف من شر عاقبة الخطيئة 2. وهنا يربط القديس توما “مخافة الله” بـ”الرجاء” في تناغم مذهل: فالله عادل ورحوم، العدل يولِّد المخافة أما الرحمة فتولِّد الرجاء.

بعد مرور سبعة قرون على ما قاله القديس توما، يأتي كتاب التعليم المسيحي للبابا بيوس العاشر، الصادر عام 1912، أكثر وضوحاً واقتضاباً، فيعرّف “مخافة الله” بما يلي: “مخافة الله هي الهبة التي تجعلنا نحترم الله ونخاف إهانة سموّه الإلهي، والتي تحمينا من الشر بحملنا على عمل الخير”.

أولاً: معاني “مخافة الله” في الكتاب المقدس

إن كلمة “خوف” مرتبطةً باسم الله، مع كل مشتقاتها (مخافة الله، لا تخف، مخافة الرب، خائفو الله، الخ.) هي عبارات “كتابية” بالدرجة الأولى. لها في الكتاب المقدس معانٍ عدة: فتارةً تعني الرهبة والرِعدة، وتارة احتراماً وشكراً على عظمة الله وقدسيته، وعندما تكون صفة لأشخاص “خائفو الله” تأخذ معنى تتميم إرادة الله ووصاياه والسيرة الفاضلة، ويكوّن خائفو الله “الجماعة” التي تسبِّح الله، كما ويجب أن تُعَلَّم كركن أساس من الدين، وهي رأس الحكمة، أساسها وقمتها لمعرفة الله معرفة حقة، أما تجسيد هذه الحكمة التي ترتكز إلى المخافة فهو السير بثقة في محبة الله بسلوك أبناء الله.

نورد فيما يلي محاولة قراءة كتابية لـ”مخافة الله” وما تتضمنه من معانٍ.

1- “الخوف” (المخافة؟) أمام حضور الله الرهيب

موسى (أثناء الظهور الإلهي في العليقة المشتعلة): “فستر موسى وجههُ لأنه خاف أن ينظر إلى الله” (خر 3/6).

الشعب اليهودي (بعد إعطاء الرب الوصايا العشر لهم): “وكان الشعبُ كلُّهُ يرى الرعود والبروق وصوتَ البوقِ والجبلَ يدخِّن. فلما رأي الشعبُ ذلك ارتاع ووقف على بُعد، وقال لموسى: كلِّمنا أنت فنسمع ولا يُكلِّمنا الله لئلاّ نموت” (خر 20/ 18-19).

أشعيا (أثناء رؤيا أشعيا للسيد الجالس على العرش والسرافون ينادون قدوس…): “ويلٌ لي، قد هلكتُ لأني رجلٌ نجسُ الشفتين، وأنا مقيمٌ بين شعبٍ نجس الشفاه، وقد رأت عيناي الملك ربَّ القوات” (أش 6/5).

مريم (عندما بشرها الملاك): “فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم، فقد نلتِ حظوةً عند الله” (لو 1/30).

الرعاة (عندما بشرهم الملاك بالميلاد): “فحضرهم ملاكُ الرب وأشرقَ مجدُ الرب حولهم، فخافوا خوفاً شديداً” (لو 2/9). (ثم ذهبوا وسجدوا للطفل الإلهي).

الرسل (بعد الصيد العجائبي): “فلما رأى سمعان بطرس ذلك، ارتمى عند ركبَتَي يسوع وقال: يارب، تباعَد عني، إني رجلٌ خاطئ. وكان الرعبُ قد استولى عليه وعلى أصحابه كلِّهم، لكثرة السمك الذي صادوه” (لو 5/8-9).

تعليق: هذا النوع من المخافة، أمام الظهورات والتجليات الإلهية الرهيبة، يجعل الأمور مختلطة أمام الإنسان. فهو من جهة يشعره بصغرِه، لا بل بعدمه أمام قداسة وسمو الله، مما يدفع بالنفس إلى الشعور بضعفها وخطيئتها وبالتالي إلى الاهتداء والتوبة؛ ومن جهة أخرى يتحول الشعور بالهيبة لديه إلى شكر وتسبيح وسجود!

2- الدعوة إلى الثقة بالله: “لا تخف”

الآباء (الله يَعِد ابراهيم بنسل كثير): “… كانت كلمةُ الربِّ إلى أبرامَ في الرؤيا قائلاً: لا تخفْ يا أبرام. أنا ترسٌ لك وأجرُك عظيمٌ جداً” (تك 15/1).

الشعب المعَذَّب: “فلا تخف فإني معك ولا تتلفَّتْ فأنا إلهُك. قد قوَّيتُك ونصرتُكَ وعضدتُك بيمينِ بِرِّي”؛ “لأني أنا الرب إلهَك آخذُ بيمينِك قائلاً لك: لا تخف فأنا أنصرُك، لا تخف يا دودةَ يعقوب ويا هامةَ إسرائيل فإني أنا أنصرُك، يقول الرب وفاديكَ هو قدوس إسرائيل” (أش 41/10، 13، 14).

مخافة الله تشفي خوف البشر وتعيد له الثقة بالله: “لا تقولوا مؤامرةً لكلِّ ما يقول له هذا الشعبُ مؤامرة ولا تخافوا خوفَهم ولا تفزعوا. قدِّسوا ربَّ القوات وليكن هو خوفَكم وفزعَكم فيكونَ لكم قدساً” (أش 8/12-14أ).

(في المحنة): “هل توكَّل أحدٌ على الرب فخزيَ؟ أو هل ثَبَتَ على مخافته فخُذِل؟…” (سيراخ 2/10)

الرسل (يسوع يمشي على الماء): “فلما رأوه ماشياً على البحر، ظنّوه خيالاً فصرخوا لأنهم رأوه كلّهم فاضطربوا. فكلَّمهم من وقته قال لهم: ثقوا. أنا هو، لا تخافوا” (مر 6/49-50)؛

(في العناية الإلهية): “لا تخافوا الذين يقتلون الجسد ولا يستطيعون قتل النفس، بل خافوا الذي يقدر أن يُهلك النفس والجسد جميعاً في جهنم. أما يُباع عصفوران بفلس؟ ومع ذلك لا يسقط واحد منهما إلى الأرض بغير علم أبيكم. أما أنتم، فشعر رؤوسكم نفسه معدود بأجمعه. لا تخافوا، أنتم أثمن من العصافير جميعاً” (متى 10/28-30).

“لا تخف أيها القطيع الصغير، فقد حَسُنَ لدى أبيكم أن يُنعِم عليكم بالملكوت” (لو 12/32).

التعليق: مخافة الرب هي انتصارٌ على الخوف، على كل خوف! عبارة “لا تخف” التي يرددها الرب في كلِّ حضورٍ له، هي تأكيد على سنَدِِه الدائم للبشر. هي دعوة للثقة والإيمان به، وبالتالي تسليمٌ للذات.

3- مخافة الله والتقوى: كتعبير عن محبة الله وتتميم وصاياه

(في نص اسمع يا إسرائيل): “لكي تتقي الرب إلهك3، حافظاً جميع فرائضه ووصاياه التي أنا آمُرك بها…؛ فأحبب الرب إلهك بكل قلبِك وكل نفسك وكل قوتك…؛ بل الرب إلهك تتقي وإياه تعبد وباسمه تحلف” (تث 6/ 2، 5، 13).

“هلموا أيها البنونَ وليَ استمعوا مخافةَ الرب أُعلِّمُكم. من ذا الذي يهوى الحياة ويُحبُّ الأيامَ ليرى فيها الخيرات؟ مِنَ الشر صُنْ لسانك ومن كلامِ الغشِّ شفتيك، جانِبِ الشرَّ واصنعِ الخيرَ وابتغِ السلامَ واسعَ إليه” (مز 33/12-15).

(في نشيد مريم): “ورحمته من جيلٍ إلى جيل للذين يتّقونه” (لو 1/50).

(سمعان الشيخ): “وكان في أورشليم رجلٌ تقيٌّ يخاف الله اسمه سمعان” (لو 2/25)

(كورنيليوس): “كان تقياً يخاف الله هو وجميع أهل بيته، ويتصدّقُ على الشعب صدقاتٍ كثيرة، ويواظبُ على ذكر الله” (أعمال 10/2).

في السعي إلى الخلاص، وجعل إرادة وعمل المؤمن داخل إرادة وعمل الله: “إعملوا لخلاصكم بخوفٍ ورِعدة، فإن الله هو الذي يعمل فيكم الإرادةَ والعمل في سبيل رضاه” (فل 2/12ب-13). إن الإيمان الضروري للخلاص ليس إيماناً سطحياً بل يجب أن ينمّ عن ثقة بالله حية، قوية، ذات قلب ساهر للقاء بالله وبما يعمله فينا في كل لحظة… وهذا ما يعنيه القديس بولس بـ”الخوف والرعدة”.

التعليق: مخافة الله هي دليل على محبة البشر لله، ليس فقط بالقول بل بالفعل. من يحب الله يعمل بوصاياه “ليس من يقول لي يا رب، يا رب يدخل ملكوتَ السموات، بل من يعمل بمشيئة أبي الذي في السموات” (متى 7/21). هنا نجد بأن مخافة الله هي رديف لمحبة الله، ولكي تكون مخافة الله حقيقية يجب أن تُترجَم إلى أعمال محبة لائقة بحياة وسلوك أبناء الله.

4- مخافة الله والحكمة:

“مخافة الرب رأس العِلم والحكمة والتأديب يستهينُ بهما الأغبياء” (أمثال 1/7)؛ “رأس الحكمة مخافة الرب” (مز 110/10)

“رأسُ الحكمة مخافةُ الرب تُخلَقُ في الرحم للمؤمنين. بين الناس عشَّشَتْ، أساساً أبدياً وعلى نسلهم تؤتَمَن. كمالُ الحكمةِ مخافةُ الرب، وبثمارها تُسكِرُهم تملأ بيتَهم كلَّه بالمُشتهيات ومخازنَهم بغلاّتِها. إكليلُ الحكمةِ مخافةُ الرب يُزهرُ بها السلامُ والعافية. رآها الربُّ وأحصاها وأمطرَ العلمَ والمعرفةَ الفطينة وأعلى مجدَ الذين يملكونها. أصلُ الحكمةِ مخافةُ الرب وفروعُها طول الأيام”. (سيراخ 1/14-20).

“فإنّ الحكمة والتأديب هما مخافةُ الرب والذي يُرضيه هو الأمانةُ والوداعة. لا تعصَ مخافةَ الرب ولا تتقدَّم إليه بقلبٍ مزدوج” (سيراخ 1/27-28).

التعليق: إن مخافة الرب مرتبطةٌ ارتباطاً وثيقاً بالحكمة (للحكمة معان إيمانية عميقة: فالحكيم يبتعد عن الأشرار، يبحث عن الكنز الحقيقي أي الله، يعيش بصدق، الخ.). فالحكمة في العهد القديم هي إشارة للابن (الكلمة) مع الروح القدس، والذي بدوره يُعطي حكمته لكل من (يخافه) يؤمن به: “أحمدُكَ يا أبتِ، ربَّ السمواتِ والأرض، على أنك أخفيتَ هذه الأشياء على الحكماء والأذكياء، وكشفتَها للصغار” (متى 11/25).

5- المخافة هبة “مسيحانية”

هبة من الروح القدس تحل على “المشيح” الغصن الخارج من جذع يسّى: “ويحلُّ عليه روحُ الرب، روحُ الحكمةِ والفهم روحُ المشورةِ والقوة، روحُ المعرفةِ وتقوى الرب، ويوحي له مخافة الرب” (أش 11/2-3أ. بحسب الترجمة السبعينية)

هبة-أساس الاعتراف بأن الله هو مصدر كل خير (تواضع المسيح): “إن الكلام الذي اقولُه لكم لا أقولُه من عندي بل الآبُ المقيمُ فيَّ يعملُ أعمالَه” (يو 14/10؛ 8/28).

التعليق: لقد تمتّع المسيح يسوع بهبة مخافة الله الآتية من الروح القدس، والموجّهة نحو الآب مصدر كل خير، متمماً إرادته بكل تواضع وطاعة “فمع أنه صورة الله، لم يَعُدَّ مساواتَه لله غنيمة، بل تجرّد من ذاته متَّخذاً صورة العبد… فوضَعَ نفسه واطاع حتى الموت موتِ الصليب” (فيل 2/6-8). لهذا فإن هذه الهبة تُشرِكنا في محبة الثالوث الأقدس وعمله.

6- مخافة الرب تفوق كل خير أرضي

“مخافة الرب فوق كل شيء والذي يمتلكُها بمَن يُشبَّه؟” (سيراخ 25/11).

“الغِنى والقوة يُشدِّدان القلب لكن مخافة الرب تفوق كليهما. ليس مع مخافة الرب افتقار ولا حاجةَ معها إلى المساعدة. مخافة الرب كجنّةِ برَكة وحمايتُها تفوق كل مجد” (سيراخ 40/26-27).

التعليق: إن سفر يشوع بن سيراخ يُشيدُ إشادةً عظيمة بمخافة الله، وكأنه يعتبرها كنز الكنوز ورغبةَ رغائبِ القلب.

7- أجرُها الخير، وعقاب الهلاك لمن لا يخاف الله

“مخافة الرب مجدٌ وفخرٌ وسرورٌ وإكليلُ ابتهاج. مخافةُ الرب تُبهِجُ القلبَ وتُعطي السرور والفرحَ وطول الأيام. للمُتَّقي الربَّ حُسنُ الخاتمة وفي يوم موتِه بركةٌ عليه” (سيراخ 1/11-13).

مخافة الله هي الأساس والحافظ لكل خير: “مَن لا يبادر إلى التمسُّك بمخافة الرب يُهدَم بيتُه سريعاً” (سيراخ 27/3).

“لا يَغَرْ قلبُك من الخاطئين بل كن في مخافة الرب طوال النهار فإنك إن حفظتَها فهناك العاقبة وانتظارُك لا يخيب” (أمثال 23/17-18).

“الخاطئ يصنعُ الشرَّ مئة مرةٍ ويُطيلُ أيامَه ولكني أعلمُ أن المتقينَ لله الذين يخشونَ وجهه سينالون خيراً، وأن الشريرَ لن ينال خيراً وكالظلِّ لن يُطيلَ أيامَه لأنه لا يخشى وجهَ الله” (الجامعة 8/12-13).

التعليق: من خلال هذه الآيات السابقة، نرى أن مخافة الله هي الأساس الصلب الذي، إذا بنى الإنسان حياته عليه، فإن رجاءه لن يخيب، بل ينال كل خير، منتهياً بالسعادة في الملكوت السماوي. وهكذا ينجلي المعنى الحقيقي والإيجابي لمخافة الله، والتي تدل على السعادة لمن يسير بموجبها. ولكن في الوقت عينه تدل على عاقبة من لا يضع محبة الله نُصْب عينيه.

8- “مخافة الله” والتديّن

تصِفُ المزامير الذين يخافون الرب بـ: “الحافظين عهدَه الذاكرين أوامرَه ليعملوا بها” (مز 102/18)؛ وهم يشكِّلون “الجماعة الكبيرة” للمؤمنين المجتمعين في الهيكل للصلاة ولتسبيح الله: “من لدُنكَ تسبيحي في الجماعة العظيمة سأوفي بنذوري أمام أتقيائه” (مز 21/26). في هذا السياق نرى بأن مخافة الرب تعني ما يمكن تسميته بـ “الممارسة الدينية”.

لهذا فإن مخافة الرب تُعَلَّم من جيل إلى جيل: “هلمّوا أيها البَنونَ وليَ استمعوا مخافة الربِّ أُعلِّمُكم” (مز 33/12). “يوم وقفتَ أمام الربِّ إلهكَ في حوريب، حين قال ليَ الرب: اجمع لي الشعبَ حتى أُسمِعَه كلامي، لكي يتعلموا أن يخافوني طول الأيام التي يعيشونها على الأرض ويعلموا بنيهم ذلك” (تث 4/10). وإن تعليم مخافة الرب لا يعني التعليم على “الخوف”، بل تعليم الصلاة وحفظ الوصايا والدخول في حياة قوامها الثقة بالله: “أيها المتّقونَ للرب آمنوا به فلا يضيعَ أجرُكم” (سيراخ 2/8).

9- تسبيح وحب

مز 21/24: “يا أتقياء الربِّ سبحوه ويا ذريّة يعقوب كافةً مجِّدوه. ويا ذريّةَ إسرائيل كافةً اخشَوه” نجد هنا تتابع الأفعال:

“سبحوا”، “مجدوا”، “خافوا الله”، وكلها أفعال أمر موجهة إلى “أتقياء الرب”، وكأنها أصبحت مترادفات! في الحقيقة، من يخاف الله، يسير بحسب إرادته ويتمِّم وصاياه، يصبح حكيماً مؤمناً واثقاً بالله، مندهشاً ومتواضعاً أمام عظمته وقدسه، تائباً ومهتدياً إلى الله، شاكراً إياه،… إلى درجة أن تصبح مخافة الله تسبيحاً يصل إلى اللحظة التي لا يمكنه فيها قول شيء آخر، بل تغدو دهشةً فصمتاً فحباً! ملاحظة ضرورية

أمام التجليات الإلهية غالباً ما يشعر الإنسان بالمهابة أو الخوف أو التأثّر الشديد، وذلك لأنه يشعر بِضِعَتِه أمام الحضور الإلهي السامي والمحب للغاية في آنٍ واحد. هذا اللقاء مع الحضور الإلهي لا يمرّ بدون لحظة ارتجاف تتصف بالسِحر من جهة وبالرعدة من جهة أخرى، نتيجة الشعور بالبون الشاسع بين قداسة الله وخطيئة الإنسان. هذا ما نراه في الكتاب المقدس منذ الصفحات الأولى منه مع آدم وحواء حتى قيامة المسيح وظهوره، ويكاد ألاّ يمر مظهر من مظاهر تجليات الله للبشر بدون أن ترافقه على الفور ثقة راسخة بالله: “لا تخف”، فتنتهي اللحظة! 4

أما هبة “مخافة الله” فهي حالة دائمة لا تنتهي بلحظة: “مخافةُ الرب طاهرةٌ تثبت للأبد” (مز 18/10أ). أما تفسير هذه الحالة الدائمة فيتلخّص بـ”العهد” الذي قطعه الله مع شعبه، فالرب يحفظ شعبه وهم يكونون له مُخْلِصين، بالمحبة: “والآن يا إسرائيل، ما الذي يطلبُه منك الرب إلهُك إلا أن تخافَ الرب إلهَك سائراً في جميع طرقِه ومحباً إياه، وعابداً الربَّ إلهَك بكل قلبِك وكلِّ نفسِك” (تثنية 10/12). خوف، محبة، عبادة، في هذا النص، تُستعمل على حد سواء. لذلك فإن مخافة الرب ليست بلحظة ذهول، بل هي حالة دائمة من الأمانة للعهد. لذلك، وفي كثير من الحالات في الكتاب المقدس، كلمة “خوف” تُتَرجَم بمعنى “عبادة” أو “محبة”، و”مخافة الله” بمعنى “الأمانة”. ومتطلبات الأمانة لحب الله هي التي تدفع بالإنسان إلى تغيير حياته وسلوكه مهتدياً إلى الله في كل لحظة.

ثانياً: “مخافة الله” من توما الأكويني حتى اليوم

بعد ما أوضحنا من لاهوت كتابيّ حول هبة “مخافة الله”، ننتقل مباشرة إلى اللاهوت المدرسيّ، لكي نضع أطُراً نحدد فيها هذه الهبة. تجدر الإشارة بأن التحديد لا يخلو من المحدودية التي سنعطيها للموضوع. كما وتجدر الإشارة بأن لاهوت توما الأكويني حول هبة مخافة الله، ما يزال سارياً حتى اليوم ولكن مع بعض الإضافات البسيطة.

1- أقسام الخوف

في شرحه لهبة مخافة الله 5 ، يقسم القديس توما الأكويني “الخوف” إلى أربعة أقسام:

خوف العالم: وهو يعارض خوف الله، بل لا يتأخر عن إهانة الله مقابل النجاة من شرّ زمني مادي، ويضع ثقته وخيره في هذا العالم.

الخوف الخَدَمي (servile): يخدم الله ويتمم مشيئته لكي يتجنب الشرور والعقوبات الزمنية والأبدية. هذا الخوف جيد بطبيعته حتى ولو لم يكن كاملاً، إذ يردع الإنسان عن ارتكاب الخطيئة، على أساس أن الله هو الخير الأعظم. (مثال: لا أريد أن ارتكب هذه الخطيئة، لأن هذا سيقودني إلى جهنم، كما أنه إهانة لله).

الخوف الأوّلي (initial): يهرب من الخطيئة لأنها قبل كل شيء إهانة لله، ولكن يخلط معها الخوف من العقاب.

الخوف البَنَوي: يخدم الله ويتمم مشيئته بداعي المحبة، وبغض النظر عن أي عقاب، لأنه لا يريد الانفصال عن الله أبداً.

ولكن أيٌّ منها هو “هبة الروح القدس”؟

يقول توما الأكويني بأن الخوف البَنَوي هو ما يجب اعتباره “هبة مخافة الله” الآتية من الروح القدس، لأنه مؤسَّس على المحبة وعلى الاحترام الواجب لله كونه أباً، ويخاف الانفصال عنه بالخطيئة. ولكن باعتبار أن الخوف الأوّلي لا يختلف كثيراً بجوهره عن الخوف البنوي، فيمكن اعتباره أيضاً “هبة من الروح القدس” وإن كان بشكله أقلّ كمالاً من الخوف البنوي. وبتعاظم المحبة يكتمل الخوف الأوّلي شيئاً فشيئاً ليصبح بنوياً.

أما في السماء فيبقى الخوف البنوي لا غير، وفقط بمضمون احترام الله، فلن يكون هناك مجال لإهانته أو الابتعاد عنه، ولا خوف من العقاب طبعاً.

2- ضرورة هذه الهبة:

إن هبات الروح القدس ضرورية لتقوية الفضائل. أما هبة مخافة الله فهي تقوي فضائلَ ثلاثاً: الرجاء، الاعتدال والتواضع.

أ- الرجاء:

يسعى الإنسان بطبيعته إلى السعادة، أما فضيلة الرجاء فهي الفضيلة التي تجعل الإنسان يتطلّع إلى الله على أنه السعادة الحقيقية والأبدية فتوجِّه عمل الانسان وحياته نحو الله. وهنا يأتي دور هبة مخافة الله التي تجعل الإنسان يشعر بعدمِه وفراغه أمام قدرة الله وعظمته، وعدم قدرته على الإتيان بالسعادة لنفسه، فتدعم فضيلة الرجاء، إذ يضع الإنسان كامل ثقته واتّكاله على الله لكي يسير بحسب مشيئته. والله بدوره يدعم المسيرة الشخصية والمسيرة الجماعية التاريخية لخائفيه .6

ب- الاعتدال:

إن هبة مخافة الله تساعد الإنسان بشكل أساسي على محبة الله والابتعاد عن كل ما قد يهينه. هكذا نرى أن هذه الهبة تصحح بشكل كبير تصرفات الإنسان وتجعله يحيد عن الرذائل والشهوات، لأنها تجعلنا نفضِّل كل ما يأتي من الله على ما يأتي من العالم، لا بل تجعلنا “نكفر بذاتنا” على قول المسيح: “من أراد أن يتبعني، فليزهد في نفسه ويحمل صليبه ويتبعني. ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ وماذا يعطي الإنسانُ بدلاً لنفسه؟” (متى 16/24، 26)؛ أما مار بولس فيصيب صلب الموضوع مباشرة إذ يقول: “ولمَّا كانت لنا، أيها الأحباء، هذه المواعد، فلنطهِّر أنفسنا من أدناس الجسد والروح كلِّها، متممينَ تقديسَنا في مخافةِ الله” (2 قور 7/1). كما تدعم فضيلة العفة واللطف والوداعة.

أما ما نعيشه اليوم من روح استقلالية وحرية مغلوطة، فهو يجعل مخافة الله أكثر نُدرةً. هذا من أكبر الجروح في زمننا الحالي.

ج- التواضع:

إن الحاجز الأكبر أمام خيرنا هو الكبرياء، وهو الذي يحملنا على الصمود في وجه الله وذلك بجعل ذاتنا هي الكل بالكل (هذا طبعاً يعني الهلاك). والتواضع هو الذي ينتشلنا من هذا الخطر. فمن يعطينا التواضع؟ طبعاً الروح القدس الذي يفيض في نفوسنا هبة مخافة الله.

إن المخافة تحفظنا في انسحاق القلب، حتى ولو كانت خطايانا مغفورة، لأنها تذكّرنا بخطيئتنا أمام قداسة الله ورحمته. وبما أنها شعور بنوي يرفض إهانة الله محبةً به وإكراماً لعظمته الإلهية، تتماهى مع المحبة، فيعرف الإنسان قدره ومكانته أمام الله، وبالتالي تولِّد التواضع.

3- التطويبات وهبة مخافة الله

لمخافة الله حصة في التطويبات أيضاً، والقديس توما الأكويني، يضع التطويبتَين الأولى والثالثة بعلاقة مع هبة مخافة الله : 7

أ- “طوبى للفقراء بالروح، فإن لهم ملكوت السموات”

إن جوهر هبة المخافة هو الاتضاع أمام الله والإكرام البنوي لعظمته الإلهية، وهذا ما يدعو بشكل مباشر إلى رفض كل انتفاخ للذات أو امتلاء منها أو من أي خير زمني، بل يدعو إلى الامتلاء من الله، الكنز الحقيقي والغنى الأعظم، بدافع من الروح القدس.

ب- “طوبى للحزانى، فإنهم يُعزَّون”

إن هبة المخافة ترتبط ارتباطاً غير مباشرٍ بهذه التطويبة. فالمخافة تجعلنا نشعر بالبون الشاسع بين ضِعتِنا وعظمة الله، وهذا ما يجعلنا نفضّل الله على كل الملذات الأرضية والأشياء الفانية، كما يترافق مع الشعور بالحزن والألم على كل الخطايا السابقة، ويفرمل النزعات الشهوانية، راجين العزاء الحقيقي من الله.

4- نصائح عملية تساعد على تفعيل هذه الهبة:

التأمل المستمر في عظمة الله وسموّه.

الاعتياد على العلاقة البنوية الممتلئة احتراماً لله.

التأمل بشرّ الخطيئة وببشاعة الابتعاد عن الله.

التعامل مع الآخرين بوداعة وتواضع.

طلب هبة المخافة بشكل مستمر من الروح القدس.

خاتمة (بهدف التلخيص)

مخافة الله هي الهبة التي من خلالها تريد النفس تتميم إرادة الله فقط.

هي الهبة التي تعطي النفس أن تسير بحسب الحق، وبحسب كلمة الله لأجل محبته.

هي الهبة التي تشتهي النفس بواسطتها محاربة كل ظلام، كل ما هو جسدي وكل ما هو كاذب، لكي تحيا في الحقيقة وترضي الله.

هي الهبة التي من خلالها تشتهي النفس قطيعة العالم من أجل الحياة مع الله بحسب الكلمة الحق.

هي الهبة التي تشتهي النفس من خلالها الخضوع والطاعة لأحكام ووصايا كلمة الله وكنيسته.

هي إذاً الهبة التي من خلالها لا تجد النفس إلاّ رغبة واحدة، أي إرضاء الله. المراجع

BERNARD Saint, “Sermon sur les sept Dons du Saint-Esprit”, dans http://www.abbaye-saint benoit.ch / saints / bernard / tome07 / sermons / tome 7013.htm

DAL SASSO G. – COGGI R., Compendio della Somma Teologica di s. Tommaso d’Aquino, ESD, Bologna 1991.GUILLEMETTE Y., “Crainte de Dieu” , dans

http://www.interbible.org/interBible/ecritures/mots/2002/mots_020816.htm

منقول عن موقع سلطانة الحبل بلا دنس