stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

أخبار الكنيسةروحية ورعويةموضوعات

نعمة المسكونيّة – بقلم :الأب الفاضل د. ميجيلْ آنْخِلْ فُوِينْتِسْ

1.3kviews

نعمة المسكونيّة

بقلم: الأب الفاضل د. ميجيلْ آنْخِلْ فُوِينْتِسْ

رهبنة الكلمة المتجسد

إن الذبيحة الأكثر أهمية في عَيْنَيْ الله هي…

شعب تكون وَحدته انعكاسًا للوَحدة الموجودة بين

الآب والابن والروح القدس

(القديس كِبْريانوس)

 

ما هي «المسألة المسكونية»؟ (1) من حيث كونِها ظاهرة فإن المشكلة المسكونية تتمثَّل في المواجهة التي تأخذ طابع الصراع بين واقعين هما: رغبة المسيح الْمُعلَنة فيما يتعلَّق بكنيسته (راجع يو 17/21)، والواقع التاريخي للمسيحية الذي يظهر كخبرة انقسام وكتعارض بين مختلف مُسَمَّيات الأطراف المسيحية.

إن الكنيسة الكاثوليكية لديها التأكُّد التام (هو وليس تأكّدًا بمَثابة أمانٍ ذاتيّ ولكنه تأكّد يستند على الحقيقة الموضوعية) بأنها كنيسة المسيح الحقيقية، وأنها العروس وجسد المسيح السِّرِّي. ولكنْ من أجل ذلك بالضبط فهي تشعر بعمق بالنداء الموجَّه إليها من وجود خبرة الانقسام التاريخية المؤلمة والتي تلاحظها من حولها. من هنا تنشأ التساؤلات الرئيسية التي سنتعرَّض لها في هذا المقال: ماذا كانت بالضبط إرادة المسيح؟ ما هو جوهر الوَحدة التي يرغبها المسيح؟ كيف نشرح الوَحدة وعلاقتها بالانقسام المسيحي؟ ما هي رسالة الكنيسة؟ ما هي غاية المسكونية؟

1- إرادة المسيح فيما يتعلق بكنيسته:

إن إرادة المسيح بالنسبة بكنيسته معلَنة بوضوح في منابع العهد الجديد، وقد كانت الكنيسة نفسها على وعي بها منذ أُصولها الإنجيلية: إن كنيسة المسيح هي واحدة، مقدسة، جامعة ورسولية. ومن بين هذه المميزات (أو السِّمات) التي تنفرد بها الكنيسة التي أسسها المسيح (أي شعب الله الذي اكتسبه لنفسه: راجع ابط 2/10 و 9، وقدّسه بدمه: راجع عب 13/12)، فإن ما يتعلق بالمشكلة المسكونية إنما يختص «بالوَحدة» (2).

إن الكنيسة هي سر مقدس وأداة لوَحدة البشر مع يسوع المسيح، وبالتالي للوَحدة بين البشر في المسيح (3). لقد أراد المسيح الوَحدة لكنيسته كَسِمَةٍ لِجوهرها لا جِدال حولها. «فالوَحدة، كَسِمة رائعة لِلكنيسة الحقيقية، هي قمة صلاة يسوع الكهنوتية في العشاء الأخير، وهي وصيّته الأخيرة بالمحبة، وهي الوصيّة التي تركها لنا قبل آلامه» (4)؛ «إن وَحدة الكنيسة هي من صميم جوهرها بما لا يَدَع مجالاً  للنقاش» (5).

إن الوَحدة هي رغبة معلَنة للمسيح ( ليكونوا واحدًا: يو 17/21). إن رغبة الله في اتّحاد شعبه كانت موجودة من قَبلُ في العهد القديم، ولكنَّ العهد الجديد يضيف المزيد: الآن يسوع المسيح نفسه يصلي طالبًا الوَحدة (يفعل هذا مرتين في العشاء الأخير) (6)، وهو لا يصلي فقط بل يموت من أجل الوَحدة مثلما يعبّر إنجيل يوحنا عن ذلك (راجع 11/ 51-52)، وكذلك الرسالة إلى أهل أفسس (راجع 2/ 1-16) (7).

وقد أعلن المسيح أيضًا إرادته في أن تكون هذه الوَحدة علامةً للمِصداقية أمام العالم (فَليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا ليؤمن العالم بأنّك أنتَ أرسلتني) (8).

ومع ذلك فإن وَحدة الكنيسة في إرادة المسيح لا تقف فقط عند حدِّ أَنْ تُمثِّل العلامة الأساسية للمِصداقية، بل إنَّ لها سببَ وجودٍ في ذاتها كصورة للثالوث (9).

هكذا نفهم أن كلَّ انقسام «يكون في تناقض واضح مع إرادة المسيح، وحجر عثار للعالم، كما يُمثِّل عائقًا لأكثر الأسباب قداسةً ألا وهو: التبشير بالإنجيل لكل خليقة» (10)، لأنه عندما يكون الداعون باسم المسيح مُنقسمين فيما بينهم فذاك «كما لو كان المسيح نفسه منقسمًا» (11): «أتُرى المسيح انقسم؟» (1 كور 1/13) (12).

2- جوهر هذه الوحدة 

الكنيسة «واحدة» بحسب إرادة المسيح. ماذا يعني هذا؟ الكنيسة ليست وَحدة جوهرية (sustantiva) بل هي عارضة (13)؛ والتأكيد بأنها وَحدة جوهرية يؤدّي إلى شُموليّة الأُلوهيّة(panteismo) (إذا قيل أن بيننا وبين المسيح توجد استمرارية جوهرية – أساسية) أو إلى امتداد الاتّحاد الذّاتي(hipostasismo) (إذا قيل أن بيننا وبين المسيح توجد استمرارية جوهرية شخصية). إن أعضاء الكنيسة لا يصيرون جوهرًا إلهيًّا (esencia divina) ولا شخصًا إلهيًّا (persona divina). فكل واحد يستمر في جوهره الخاصّ وبنفس شخصيته. ولكن الأطراف تشابك في الوقت نفسه فيما بينها مُكوِّنَةً كُلاًّ ووَحدةً يعبِّر عنها أحسن تعبير قولُ بولس أَلا وهو «الجسد»: «في الجسد الطبيعي يربط مبدأُ الوَحدة فيما بين الأطراف بحيث تكون محرومة من البقاء بذاتها؛ أما في الجسد السرِّي، على العكس، فالقوة التي تصنع الوحدة المتبادَلة – حتى ولو كانت حميمة – تربط فيما بين الأعضاء بطريقة تجعل كل فرد يتمتع بشخصيته الذاتية» (14).

كونُها «واحدةً» يعني أنها فيها وَحدة، وتَماسُك وتَرابُط؛ وأنها جسد اجتماعي، أو بطريقة أفضل نقول أنها جسد سرِّي يحتوي على أجزاء (أعضاء مختلِفين) ولكنه في الوقت ذاته واحد: فأعضاؤه متّحِدون مع رأسه ومتّحِدون فيما بينهم بمختلف الروابط.

ونحن نعرف كذلك أن تاريخ الكنيسة عانى من سلسلة طويلة من الانفصالات، وإلى هذه النقطة بالذات ستتطرّق مشكلة المسكونية لتكون بمثابة «استعادة للوحدة». كيف تتوافق إذًا تلك الوَحدة – التي لم يرغب فيها المسيح فحسب بل أعطاها أيضًا لكنيسته – مع واقع الكنيسة التاريخي؟ هل يمكننا القول بأن الكنيسة فقدت الوَحدة؟ فكثيرون يعتقدون أن الكلام عن المسكونية كـ «استعادة للوَحدة» يساوي التأكيد على عدم وجود تلك الوَحدة، وتصنيف هذه الوَحدة كهدف سيَتمّ الوصول إليه فقط في المستقبل (15)؛ يُعَّدُّ ذلك بمثابة «تجربة اعتبار وَحدة كنيسة المسيح غيرَ موجودةٍ أو أنها مازالت فقط عبارة عن مثل أعلى جميل ينبغي أن نتطلَّع إليه، ولكنه سيتحقَّق فقط في الاسكاتولوجية (آخر الأزمنة)» (16). ولكن ذلك ليس هو فِكر التعليم الرسمي للكنيسة.

تُوجَد وَحدة جوهرية (esencial) وتكوينية (constitutiva)، وهي سِمة مميِّزة للكنيسة التي أسسها المسيح، وهي وَحدة لا يمكن أن تَضيع بما أنها لا عيب فيها (17)، و«لا يمكنها أن تختفي أبدًا بما فيها مِن قيمة جوهرية» (18). وكما يعلمنا الإيمان فإن وَحدة الكنيسة ليست مجرَّد رجاء للمستقبل بل هي بالفعل موجودة (19).

وفي الوقت ذاته لا شكَّ أنَّ وَحدة الكنيسة – في مظاهرها العارضة التاريخية – لا تظهر بالكامل حَسَبَ متطلبات الإنجيل، لا بالقوة التي كان يجب أن تكون عليها ولا بالنسبة لِلانتشار (20)، وهذا يعني أنها لم تصل إلى تمام تحقيقها الظاهر في المسيحيين (21). إن تعليم الكنيسة العقائدي يرى أن كلّ جَرْح للوَحدة يشتمل على خطيئة، وأنه لا يحدث بدون خطيئة من جهة البشر (22). ولكن أيضًا من الممكن «وراثة» حالة الانفصال هذه بطريقة لا ملامة على الأشخاص فيها كما يحدث لمن يولَدون في داخل الكنائس والجماعات المنفصلة عن روما(23).

إن المعنى الحقيقي للبحث عن الوَحدة المسكونية يتمثل في تحقيق ومعيشة تامّة لِلوَحدة التي قد أعطاها المسيح بالفعل لكنيسته. بالتالي فليس هناك فرق لاهوتي بين الوَحدة التي تَسعَى إليها المسكونية – بالمفهوم الكاثوليكي – وبين الوَحدة كسِمة جوهرية للكنيسة؛ ونتيجة لذلك يكون من الضروري رؤية تلك الوَحدة وِفقًا لنفس الرؤية التي تشرح بها الكنيسة طبيعة الوَحدة المُعطاة من المسيح، وذلك لكي نفهم هذه الوَحدة التامّة التي تتطلّع إليها الكنيسة في بُعدِها المسكوني. يمكننا أن نشرح ماهية هذه الوَحدة انطلاقًا من عِلَلِها (أسبابها) المتعددة (فعالة، نهائية، شكلية، ومادية).

  • العِلّة الفعّالة الرئيسية

إن السبب الفعّال للوَحدة الكنسية هو المسيح: فهو الذي يُصلّي من أجل الوَحدة (راجع يو 17/21)، وهو الذي يموت من أجلها (راجع يو 11/51-52؛ أف 2/14-16) (24). المسيح هو مؤسس الكنيسة وهو علّة وَحدتها (25).

الرسل كذلك (وخلفاؤهم المتمركزون على بطرس والمتّحدون معه) (26). هم – بالاتّحاد بالمسيح – عِلَّة فعّالة رئيسية للوَحدة (ولو بطريقة تابعة). فبطرس وخليفته هو «مبدأ وأساس دائم ومنظور للوَحدة» كما يسمّيه المجمع(27) وكما يسمّيه يوحنا بولس الثاني (28)، وهو «علامة منظورة وضمان للوَحدة» (29). ومع ذلك فهو يمارس خدمة الوَحدة هذه في شركة مع بقية الأساقفة (30).

  • العِلّة الفعالة الأدائية

العِلَّة الفعالة الأدائية هي الأسرار المقدسة والعبادة، وخاصّة المعمودية والأفخارستية (31)، وخصوصًا هذا الأخير (لكونه مركز وقمة ومنبع كل الأسرار) الذي يُقال عنه دائمًا أنه يؤدي إلى الوَحدة. ولذلك يُسَمَّى «سِر الوَحدة الكنيسة»، كما يقول القديس توما: «بالنسبة للإفخارستيا فهي علامة على الوَحدة الكنسية التي فيها يجتمع البشر بواسطة هذا السِّرّ. وبحسب ذلك تُسَمَّى شَرِكةً أو فعلاً مشتَرَكًا(synaxis) ، لأن الدِّمَشقي يقول إنها تُسمَّى شَرِكة (مُناوَلة) لأننا بواسطتها نتَّحدِ بالمسيح (نتشارك المسيح – نتناوله)؛ لأننا من ناحية نشترك في جسده وأُلوهيته، وكذلك نتشارك ونتحد الواحد بالآخَر من خلالها» (32). ولذلك يسميها القديس توما أيضًا «تتميم الحياة الروحية وغاية كل الأسرار»: «إن العماد هو مَبدأ الحياة الروحية وباب الأسرار المقدسة. أما الإفخارستيا فهي من ناحيتها تتميم الحياة الروحية وغاية كل الأسرار… : إذ أن التقديس الذي تمنحه كل الأسرار يكون للإعداد لتلقّي أو لتكريس الإفخارستيا. وبالتالي فإن تَلَقِّي المعمودية يكون ضروريًّا لكي تَنْطَلِق الحياة الروحية ، بينما يكون تَناول الإفخارستية ضروريًّا لتتميم هذه الحياة الروحية: ولكن ليس بمعنى أنه لا بدّ من امتلاكها بطريقة مطلقة ولكن يكفي امتلاكها بالرغبة، مِثلما تكون الغاية حاضرة في الرغبة وفي النيَّة… وبالمعمودية يتخذ الإنسان تَوُجُّهًا نحو الإفخارستيا، ويكون ذلك بنفس الطريقة التي بها تُناول الكنيسةُ من الأفخارستيا الأطفال الذين يعتمدون. وهكذا كما يؤمنون بإيمان الكنيسة فإنهم يرغبون في الإفخارستيا بِنِيَّة الكنيسة في ذلك، وبالتالي يتلقون واقع الكنيسة بداخلهم» (33).

يعبر القديس بولس عن ذلك بقوله: «أَلَيسَت كأس البركة التي نباركها مشاركة في دم المسيح؟ أليس الخبز الذي نكسره مشاركة في جسد المسيح؟ فلما كان هناك  خبز واحد، فنحن على كثرتنا جسد واحد، لأننا نشترك كلنا في هذا الخبز الواحد» (1 كور 10/16-17).

«خبز واحد، جسد واحد» (Unus panis, unum corpus). الشركة الإفخارستيا تُنتِج الشركة السرّية (mística). فالإفخارستيا هي سبب لاتحاد المسيحي بالمسيح، وهي سبب للوَحدة الكنيسة، كما أن الوَحدة الأولى هي بدورها أساسٌ للثانية كما تقول القاعدة الرياضيّة العِلميّة: أي كميتين مُساويتين لثالثة تكونان متساويتين فيما بينهما. فدَم المسيح يكون هكذا مسبِّبًا للوَحدة (34).

إن الإفخارستيا كمنبع للوَحدة الكنسية مشهود لها طَوال تقليد الكنيسة، وهو ما نراه مؤكَّدًا في نصوص كتاب تعليم الرسل (Didaché) (35)، وعند القديس أغناطيوس الأنطاكي (36) والقديس اثناسيوس (37) والقديس كيرلس السكندري (38) وبيوس الثاني عشر (39) والمجمع الفاتيكاني الثاني (40) ويوحنا بولس الثاني (41)، وشهود كثيرين آخرين.

ولذلك فقد قيل بحقٍ عنها: «الكنيسة تقيم الإفخارستيا ولكن الإفخاستيا أيضًا تقيم الكنيسة» (42). وهذا يشرح لنا – كما سنرى لاحقًا – لماذا ترغب المسكونية بوضوح لا في وَحدة كيفما تكون (أي عاطفية أو ناشطة، إلخ) بل في وَحدةٍ إفخارستيةٍ.

  • العِلَّة الشكلية الخارجية – أو النموذجية – للوَحدة الكنسية

يمكننا أيضًا تحديد نموذجي للوحدة الكنسية في وحدة جسد المسيح: «إن جسد المسيح هو نموذج للجسد السِّرِّي» وهذا يعني أنَّ وَحدة أعضاء الجسد السِّرِّي يجب أن تقتدي، بقدر المستطاع بوحدة وترابط أعضاء جسد المسيح البشري الذي يوفِّق بطريقة كاملة فيما بين الاختلاف والوَحدة (43).

  • العلَّة الشكلية للوَحدة الكنسية

العلَّة الشكلية (أو شبه الشكلية) لأي مجتمع تتمثل في ترتيبٍ ما، وهذا يعني أنها تظهر من خلال علاقة خاصة تترسخ فيما بين أعضائه وتكون مرتَّبة نحو غاية مشترَكة. وهكذا فإن المبدأ الشكلي هو القادر على إرساء روابط الوَحدة والترتيب المتبادل بين الأعضاء. بطريقة أخرى يمكننا أن نقول أنه يتعين علينا هنا الحديث عن الشيء الذي يكون أحيانًا بمثابة النفس داخل جسد المسيح السِّرِّي. بهذا المعنى يمكننا التنويه عن «النفس غير المخلوقة» و«النفس المخلوقة» للكنيسة.

  • الروح القدس بمثابة النفس غير المخلوقة للكنيسة

يمكننا القول أن «النفس غير المخلوقة» للكنيسة هي الله الواحد والثالوث، أي الروح القدس تحديدًا، بشرط أن نفهم «النفس» بمفهوم أوسع. فلا يمكننا أن نفهم النفس على أنها «شكل» بالمفهوم الضيق لمعنى الكلمة، إذ أن ذلك يقودنا إلى ما يشبه التأكيد على وجود نوع من تعدُّد الآلهة (especie de panteísmo). إنها نفسٌ بالمعنى «الوظيفي»: فهي تُعتبَر «مِثل» النفس مُقارنةً بالوظائف الأخرى التي تمارسها النفس تجاه الجسد والتي تختلف عن وظيفة إرشاده (غير قابلة للتطبيق). إنها تلك التي تتمثَّل في إحياء الجسد وتوحيده (وهو ما يُهِمُّنا هنا) وتحريكه. إن اعتبار الروح القدس كنَفْسٍ للكنيسة، وبالتالي سبب وَحدتها، مشهود له باستفاضة في تقليد الكنيسة، وهو ما يمكن تجميعه بإيجاز في عبارة القديس أغسطينوس: «يفعل الروح القدس في الكنيسة ما تفعله النفس في كل أعضاء الجسد الواحد» (44)؛ وأيضًا ما يؤكِّده القديس توما بقوله: «توجد استمرارية في الكنيسة بفضل الروح القدس الذي بكونه أَوْحَدَ – ومُتطابقًا عدديًّا – يملأ ويوحِّد كلَّ الكنيسة» (45).

  • النعمة بمثابة النفس المخلوقة للكنيسة

إن التقليد اللاهوتي العظيم استخدم مفهوم «الشكل» بالنسبة للكنيسة أو للجسد السِّرِّي ناسبًا إياه لعطية «مخلوقة»، حيث أنه في هذه الحالة لا يسبب الصعوبة التي تَنْتُج عن نَسْبِه للروح القدس بالنسبة لپيجيو (Pighio) كان ذلك يتمثَّل في خضوع المؤمنين للبابا، بالنسبة للقديس روبرتو بيلارمينو في شهادة الإيمان (أو الاعتراف الخارجي بالإيمان)؛ وبالنسبة لسُوارِس يتمثَّل في الإيمان (الداخلي)؛ وبالنسبة لچورنيه في المحبة (على الرغم من أنه يذكر أحيانًا أنه يتمثَّل أيضًا في نعمة المسيح)؛ وبالنسبة لساوْراس في النعمة المسيحية (46). هذه الأخيرة تبدو لنا الأكثر اكتمالاً لأنها تَشْمَل بطريقة ما كل ما يسبقها.

يمكننا القول إن العِلَّة الشكلية (أو بطريقة أفضل: شبه الشكلية) للوَحدة المسكونية يمكن بطريقة ما نَسْبُها إلى النعمة، لأن كل العلاقات فيما بين المسيحيين – لِكونِهم كذلك – تنبع مِن النعمة المخلوقة وكذلك تفترضها. فالنعمة هي التي تُرَسِّخ الإنضمام الأساسي لله، بما أن هذا الانضمام هو اشتراك في الطبيعة الإلهية (راجع 2بط1/4). فالنعمة لدى المسيحي تُشْتَقُّ من ملء نعمة المسيح، كما يقول القديس توما: «إن أساس الشريعة الجديدة يَكْمُنُ في نعمة الروح القدس الذي يظهر في الإيمان العامل بالمحبة. ولذلك فإن البشر يحصلون على هذه النعمة بفضل ابن الله الذي صار بشرًا والذي غَمَرت النعمة أولاً بشريَّتَه (replivit gratia)، لكي تُشتَقَّ لاحقًا فتفيض علينا. ولذلك يقول يوحنا في يو1/14: الكلمة صار بشرًا؛ ويضيف بعد ذلك: مملوءًا نعمة وحقًّا، وفي (الآية 16) يقول: ومن مِلئه كلُّنا أخذنا نعمة فوق نعمة. ويضيف في (الآية 17) أن النعمة والحق بيسوع المسيح قد أَتيا» (47).

فنعمة المسيحي مُشتقَّة من نعمة الابن، وهي تجعلنا أبناءً بالتبنِّي؛ وبالتالي فهي تُؤاخي البشر فيما بينهم.

ومن النعمة تنبثق روابط الوَحدة الأخرى التي تترسَّخ أساسًا انطلاقًا من الفضائل التالية (48): الإيمان الذي يوحِّد المؤمنين في الاعتراف بنفس الحقيقة المعلَنة، والرجاء الذي يُوحِّد السائرين انتظارًا لنوال نفس الخيرات الفائقة للطبيعة، والمحبة التي توحِّد بالطريقة الأكثر امتيازًا. ولذلك يُثبِّت القديس توما أحيانًا كثيرة عِلَّة الوَحدة الكنيسة في الفضائل، خصوصًا في الفضائل اللاهوتية، ومن بين هذه خصوصًا في المحبة (49) («صميم المحبة هو أنها توحِّد»(50))؛ ولذلك يُسمِّيها القديس بولس «رِباط الكمال» (51).

كذلك فإن النعمة هي التي توحِّد المسيحيين حقيقةً فيما بينهم؛ وبما أن الروح القدس هو الذي يصنع عمل النعمة فإنه هو الذي يُرسِّخ روابط سرّيّة تتخطَّى – في الزَّمَن الحاضر – الأبعاد المرئية للكنيسة: إنها الروابط التي تنتمي بطريقة غير مرئية للكنيسة المرئية.

يقول يوحنا بولس الثاني: «إن الكنيسة الكاثوليكية تَعتبر أن وَحدة المسيحيين ليست سوى تَعبير منهم عن النعمة التي يجعلهم الله بواسطتها شركاءَ في شركته الذاتية التي هي الحياة الأبدية» (52).

إن النعمة تؤسِّس جماعة حقيقية بين الذين يشتركون فيها، إذ أنها – ليس فقط لا تُدمِّر بل على العكس – تَرفع الطبيعة وتؤدّي إلى كمالها حتى في مظهرها الاجتماعي؛ ولذلك من الممكن أيضًا أن نتحدث عن نوع من «مجتمَعية النعمة المُطعَّمة داخل مجتمَعية الطبيعة» (53).

إن النعمة هي التي تؤسس روابط الالتصاق بالمسيح والتصاق المسيحيين فيما بينهم. من أجل ذلك تَقومُ روابطُ غير مرئية – ولكنها حقيقية – مع القديسين الذين يُنشِئُهم الروح القدس خارج الجسد المرئي للكنيسة (54).

  • العِلَّة النهائية للوَحدة

إن العِلَّة النهائية للوَحدة تُوجَد في كلمات المسيح نفسها، وهي التي ذكرناها عدة مرات من قبل (يو 17/21): وهي: انعكاسٌ لوحدة الثالوث، وتقديمُ شهادة عن تلك الوَحدة، والاتحاد في الله وبه هو الأحد والثالوث، وإعطاء المجد له (… ليكونوا واحدًا كما أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، هكذا ليكونوا هم أيضًا فينا…) (55).

إن  كلمات  المسيح  نفسَها  تُعبِّر  عن  غاية  متوسطة ، في  داخل  العالم  وفي  داخل  التاريخ (intramundada e intrahistoria)، وهي ليست سوى سبب مصداقية أمام العالم: ليؤمن العالم أنك أنت أرسلتني؛ «لكي يهتدي العالم إلى الإنجيل ويصل هكذا للخلاص لمجد الله» (56). بينما، على العكس من ذلك، يؤدي «الانقسام إلى الإضرار بالقضية المقدسة التي هي إعلان الإنجيل لكل خليقة» (57).

  • العِلَّة المادّية للوَحدة

إن العِلَّة المادّية للوَحدة تتمثَّل في أعضاء الكنيسة المختلفين. وعلينا أن نوضِّح بعض الاختلافات في هذا الصَّدد:

  • هناك قبل كل شيء أعضاءٌ كاملون. وهؤلاء هم مَن لديهم الاندماج الكامل بالكنيسة الكاثوليكية (58). ويتم الحكم على ذلك من خلال عنصرين يحددان الانتماء إلى الكنيسة: الأول هو الإيمان الرسولي (59)، والثاني يتمثل في الحياة فائقة الطبيعة التي يصنعها الروح القدس بسكناه في قلوب مؤمنيه. هذان العنصران يمثِّلان بالضبط رجل الشريعة الجديدة، حيث إن هذه الأخيرة هي عبارة عن «نعمة الروح القدس المُعْطاة لنا بالإيمان بالمسيح» (60). مِن بين هؤلاء الأعضاء يجب أن نميِّز بين من يمتلكون العنصرين المشار إليهما وبين مَن ينقصهم العنصر الثاني:

    • الأبرار، أي الذين يحافظون على كل الروابط وكذلك على حياة النعمة (61). إن الرسالة العامّة «ليكونوا واحدًا» تشير إلى شيء بالغ الأهمية من حيث وجهة النظر الخاصة بماهيّة الكنيسة (punto di vista de la eclesiología): الانتماء الكامل للكنيسة مِن قِبَل الأعضاء القديسين – وخصوصًا الشهداء – الذين يُنْشِئُهم الروح القدس خارج الجسد المرئي للكنيسة (62).

  • الكاثوليك الذين يعيشون في حالة خطيئة ولكنهم لم يَحيدوا عن الإيمان، وبالتالي فهم يُعتَبَرون أعضاءً ناقصي الشَّكل (miembros informes) (63).

  • هناك أعضاء آخرون غير كاملين: وهم كل من ينقصهم الإيمان الرسولي، سواء بسبب عدم امتلاكهم لهذا الإيمان بالكامل في مظهره العقائدي والسِّرِّي، أو بسبب عدم اتحادهم بالسلطة أي الشركة متدرجةِ الرِّئاسة مع بطرس الذي هو ضامن الإيمان (64).

من الواضح أن درجة الكمال، من حيث الكم، في كلِّ كنيسة ملموسة، تعتمد على مِلء الإيمان المُعْلَن وعلى المفهوم حول أوَّلِيَّة بطرس. لا تتساوى حالة المسيحيين المنشقين فقط عن الكنيسة مع هؤلاء الذين تختلف معهم الكنيسة في مسائل عقائدية جادّة وعميقة (65).

  • الأعضاء بالقوة (بالقُدْرة): وهم الذين لم يتلقوا بعد المعمودية، ولكنهم مدعوون مِن قِبَل النعمة الإلهية إلى تَقَبُّلِهِ (66)؛ أي غير المؤمنين (67). وبيوس الثاني عشر نفسه كان يتكلم عن ترتيب أولئك في جسد الكنيسة السِّرِّي : «إنهم مُرَتَّبون في جسد الفادي السِّرِّي لِرغبة لاشُعوريَّة وشوقٍ ما» (68).

3- الكنيسة والخلاص 

إن الكنيسة والتعليم الرسمي المجمعي وما بعد المجمع لم يُغَيِّرا الصيغة التقليدية «خارج الكنيسة لا يوجد خلاص» (Extra Ecclesia nulla salus)، ولكنها شرحت معناها الحقيقي: «فقط من خلال كنيسة المسيح الكاثوليكية، والتي هي معاون عام للخلاص، يمكن التوصُّل إلى المِلء الكامل لِوسائل الخلاص. نحن نؤمن أن الرَّب ائتمن مجموعةً واحدةً رسوليةً يرأسها بطرس على كل خيرات العهد الجديد، وذلك لكي يؤسس جسدًا واحدًا للمسيح على الأرض، وإليه يجب أن ينضم بالكامل كل من ينتمون بالفعل بطريقة ما إلى شعب الله» (69).

كتاب تعليم الكنيسة الكاثوليكية يشرح هذه الفكرة بقوله أن المعنى الإيجابي لها يعني أن كل خلاص يأتي من المسيح من خلال جسده الذي هو الكنيسة. وهذا يعني الضرورة المطلقة للمسيح، وبالتالي لكنيسته. مَن ينغلق إذًا أمام الخلاص؟ هم مَن لا يريدون الدخول في الكنيسة أو المثابرة داخلها وهم يعلمون أن الله أسَّسَها بواسطة المسيح. وهذا لا يُقصِي، بالتالي، وساطة الكنيسة الخلاصية تجاه الذين لا يعرفون – دون ذَنْبٍ منهم – إنجيل المسيح وكنيسته (70).

تلك هي العقيدة الخاصة بالمبدأ التقليدي «خارج الكنيسة لا يوجد خلاص» (Extra Ecclesia nulla salus): ففقط فيها توجد كل وسائل الخلاص بالمِلء، فبواسطتها ومن أجلها يُنشِئ الروح القدس النعمة المُخلِّصة في قلوب مَن هم ظاهرِيًّا ليسوا في وَحدة معها بطريقة كاملة. إن هذا التفسير لا يتكلم عن الخلاص خارج الكنيسة بمعنى «بطريقة مستقلة عنها». فهو دائمًا من خلال الكنيسة، بما أنه بقدر ما تكون الكنائس والجماعات المنفصلة عنها لديها خَيْرات حقيقية – رَغْمَ كونِها جُزئيّة – فبهذا القدر يكون هناك حضور عاملٌ لكنيسة المسيح الوحيدة في تلك الكنائس والجماعات (71).

وذلك شيء سَبَقَ أن ذَكَرَهُ آباء الكنيسة أنفسهم. فعندما كان القديس غريغوريوس النازيانزي يدافع عن أبيه، الذي اهتدي إلى المسيحية في شيخوخته، كان يقول عنه: «إنه بفضل استعداداته وفضائله كان بالفعل واحد منا حتى من قبل نواله المعمودية» (72). ومن الواضح أن الاستعداد الحسن هذا يتضمّن الجهل المطلق بوجوب الدخول في الكنيسة. وإلا لما كان ذلك الاستعداد سليمًا. ولذلك فإن القديس امبروزيوس هو أيضًا يتكلم عن تأكُّدِه من خلاص فالِنْتينيانوس، الذي مات بدون نوال المعمودية، وذلك بفضل رغبته في التَّبرير (73). كما أن پيوس الحادي عشر كان يقول نفس الشيء عند تفسيره لنفس هذا المبدأ (Extra Ecclesia nulla salus) «خارج الكنيسة لا يوجد خلاص» (74).

إن أولئك الذين يريدون أن يروا أن تلك التعبيرات تنفي المبدأ التقليدي يتعين عليهم أن يُثْبِتوا أَمْرَيْن: أولاً وقبل كلِّ شيءٍ أن الصِّيَغ متناقضة، وثانيًا أن التعليم الرسمي الحيَّ للكنيسة ليس لديه سلطة لكي يشير إلى المفهوم السليم الذي به يجب أن تُفهم صِيَغ التعليم الرسمي السابق له (75).