أليس الله أُمّاً أيضاً؟ / ترجمة أشرف ناجح إبراهيم
أليس الله أُمّاً أيضاً؟ / ترجمة أشرف ناجح إبراهيم
أليس الله أُمّاً أيضاً؟[1]
أبانا الذي في السموات إننا نبدأ الصلاة الربانية بهذا الدعاء “أبانا”. وفي تفسيره للصلاة الربانية، يكتب راينهولد شنيدر بهذه المناسبة هذه الكلمات: “إنَّ الصلاة الربانية تبدأ بتعزية كبيرة؛ فيمكننا أنْ نقول أبانا. وفي هذه الكلمة الواحدة يكمن تاريخ الخلاص بكامله. يمكننا أنْ نقول أبانا، لأنَّ الابن [يسوع المسيح][2] كان أخانا وقد أوحى لنا الآب؛ لأنه بعمل المسيح نحن عدنا مِن جديد لنكون أبناء الله”(صفحة 10). ولكن الإنسان المعاصر، لا ينتبه بشكل مباشر لهذه التعزية الكبيرة الناجمة مِن كلمة “أبانا”، لأنَّ الخبرة المتعلقة بالأب أحيانا إمّا غائبة تماماً وإمّا محجوبة ومعتمة لعدم كفاءة الآباء. ولذلك ينبغي علينا أنْ نتعلّم، انطلاقا مِن يسوع، ماذا تعنى بالضبط كلمة “أب” قبل شيء […]. ويبقى أخيراً هذا السؤال: أليس الله أُمّاً أيضاً؟
إنَّ مقارنة حبّ الله بحبّ أُمٍّ أمر موجود في الكتاب المقدس: “كمَن تعزيه أُمُّه أعزِّيكم أنا، وفي أورشليم أنتم تعزون” (أشعياء 66/13)[3]. “فأجاب الرّبُّ: أتنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ثمرة بطنها؟ لكنْ ولو أنها نسيت فأنا لا أنساكِ يا أورشليم” (أشعياء 49/15). ويظهر سرُّ حب الله الأمومي بشكل مثير للغاية في الكلمة العبرية “راحاميم”، والتي بدورها تعني في الأصل “رحم الأُمّ”؛ ولكنها بعد ذالك أصبحت التعبير الذي يشرح مشاركة الله للإنسان في الألم، ويشرح رحمة الله. في العهد القديم، كانت أعضاء الجسد البشري تستعمل أحياناً لتوضيح توجهات الإنسان الأساسية أو حتى أحاسيس الله، كما أنَّ “القلب” و “العقل” يتم استعمالهما حتى الآن في أيامنا الحالية لشرح بعض أبعاد وجودنا.
وبهذه الطريقة يوضّح العهد القديم الميول والتوجهات الأساسية للوجود ليس بتعبيرات مجردة، وإنما بلغة الصور المأخوذة مِن الجسد. إنَّ رحم الأُمّ هو التعبير الأكثر واقعية عن الرباط الحميم بين وجوديّن وعن الاهتمام بالخليقة الضعيفة وغير المستقلة التي، بجسدها وبنفسها، محروسة ومصونة تماماً في رحم الأُمّ. إنَّ طريقة التعبير المجازيّة الخاصة بالجسد تعيننا في أنْ نفهم عواطف الله نحو الإنسان بشكل أعمق بكثير مما يمكن أنْ يفعله أيّ تعبير اصطلاحيّ. إذا كان في طريقة التعبير المُصاغة انطلاقا مِن جسد الإنسان يبدو حبُّ الأُمّ مفترضاً ضمنياً في صور الله، مع ذالك، يبقى صحيحاً وحقيقياً أيضاً أنَّ الله لا يُلقَّب أو يُناجى أبداً كـ “أُمٍّ”، سواء في العهد القديم أو في العهد الجديد. إنَّ كلمة “أُمّ” في الكتاب المقدس هي صورة لله وليست لقباً له… لماذا؟
إننا، كعميان يتحسسون الطريق، يمكننا فقط أنْ نحاول تفهم هذا الأمر. إنَّ الله بالطبع ليس رجلاً أو امرأة، وإنما هو بالتحديد الله، خالق الرجل والمرأة. إنَّ الآلهة-الأُمّ [الآلهة اللواتي كنَّ تعتبر إناث وأُمهات ويتعبدنَّ لها الشعوب]، اللواتي كنَّ تحيط بشعب إسرائيل كما أيضاً بكنيسة العهد الجديد، كنَّ يقدمنَّ صورة للعلاقة بين الله والعالم تتعارض بشكل جذريّ مع الصورة الكتابية لله [أي مع صورة الله كما جاءت في الكتاب المقدس]. فكانت هذه الآلهة-الأُمّ تتضمن دائماً وربما بدون مفرٍّ على تصورات خاصة بمذهب الحُلُولِيَّة[4]، وفيها كان يزول الاختلاف بين الخالق والخليقة. وانطلاقا مِن هذا الافتراض، أيبدو بالضرورة وجود الأشياء والبشر كصدور مِن الرحم الأمومي للوجود الأكبر [L’Essere] الذي، بدخوله في بُعد الزمن، يصبح واقعياً وملموساً في تعددية الأشياء الموجودة. وعلى العكس، فإنَّ صورة “الأب” كانت ولا زالت ملائمة في توضيح الاختلاف بين الخالق والخليقة وسمو عمله الخاص بالخلق.
فقط بواسطة استبعاد الآلهة-الأُمّ، كان يمكن للعهد القديم أنْ يبلغ إلى النضوج فيما يتعلق بصورته عن الله وتعالى الله التام وسموه. وحتى إنْ لم نتمكن في أنْ نعطي البراهين المقنعة تماماً، يبقى قاعدة بالنسبة لنا لهجة الصلاة الواردة في كل الكتاب المقدس، والتي فيها_ كما قيل حتى الآن_ بالرغم مِن التشبيهات العظيمة الخاصة بالحب الأمومي، كلمة “أُمّ” ليست لقباً لله، ليست اسماً بواسطته نناجي الله. نحن نصلي هكذا مثلما علمنا يسوع أنْ نصلي، انطلاقا مِن خلفية الكتاب المقدس، وليس كما يخطر على ذهننا أو كما يعجبننا. وهكذا فقط يمكننا أنْ نصلي بالطريقة الصحيحة[…]»
——————————————————————————–
[1] هذا المقال هو ترجمةٌ لبعض المقاطع مِن كتاب اللاهوتي المعاصر جوزيف راتسينغر (قداسة البابا بندكتوس السادس عشر) عن “يسوع الناصري”، وبالتحديد مِن الفصل الخامس الذي يتحدّث فيه عن “الصّلاة الرّبانية”. ويتمحّور هذا المقال حول هذا السؤال: إذا كان الله يلقّب بـ “أبّ”، فهل يمكن أنْ يلقّب أيضاً بـ “أُمّ” والمرجع بالضبط هو:
Joseph Ratzinger (Benedetto XVI), Gesù di Nazaret, Rizzoli, Milano, 2oo7, pp. 165-171. [2] جميعُ الكلمات أو الجمل التَّوضيحيَّة المُوضوعة بين القوسين […] وجميع الحواشي الموضوعة في أسفل الصفحة هي مِن وْضعِ المتّرجم.
[3] جميعُ الاسنشهادات الكتابيّة مأخوذة مِن الكتاب المقدّس، الطبعة المسكونيّة: جمعية الكتاب المقدّس في لبنان، 1993.
[4] مذهب الحُلُولِيَّة (Panteismo): بكلمات بسيطة، هو مذهب يماثل ويطابق كل ما هو موجود (في اليونانية: pan ) بالله (في اليونانية: theos). وينطلق هذا المذهب مِن الافتراض بأنه مِن الواقع الإلهي ينحدر العالم كصدورٍ منه. وهو ينكر عن الله واقعاً منفصلاً ومتميزاً عن العالم؛ ويصل إلى حدّ أن يماثله وبطابقه مع الطبيعة؛ فالله_ بحسب هذا المذهب_ في الطبيعة والطبيعة في الله. إنَّ هذا التصور ينكر فكرة وحقيقة وجود واقع إلهي شخصي ومتسامٍ ومنفصل عن العالم. إنَّ هذا كله بالطبع لا يتوافق مع الإيمان اليهودي-المسيحي الذي ينادي بأنَّ الله في الحقيقة هو كائن شخصي ومتميز ومتعال عن العالم، وإنْ كان يحب العالم وحاضر فيه. تم التحديث فى ( الأربعاء, 23 سبتمبر 2009 08:28 )