أمثال إنجيل القديس متى- كرم السيد وقساوة العبد (مت 18: 21-35)- د. الأب / كميل وليم
يضمن إنجيل القديس متى حديثه عن الكنيسة هذا المثل أيضاً. إنه يريد أن يوضّح، عن طريق المثل أي بطريقة مقنعة توجيه السيد المسيح: «لا أقول لك سبع مرات، بل سبعين مرة سبع مرات» (مت22:18). إنها قاعدة تصرف لا منطقية، تقتضي أن يتفوق الإنسان على الحدود العامة المعقولة. لهذا يلجأ يسوع المسيح إلى المثل. يشير وضع المثل في إطار الحديث عن الكنيسة، أو بالأحرى الحياة داخل الكنيسة أي بين أعضائها، أنه موجّه إلى جماعة المؤمنين. لا يهدف المثل إلى تحديد قواعد سلوك للعالم، بل إلى وضع قواعد خاصة بالكنيسة.
تتكون رواية المثل من ثلاثة مشاهد: المشهد الأول يسلّط الأضواء على السيد الكريم وعبد من عبيده، بينما يجمع الثاني بين العبد وزميل آخر له، ويعود المشهد الثالث ليقدم مرة أخرى السيد والعبد الأول. واضح أنه هناك تناقض بين المشهد الأول والثاني وانقلاب جذري بين الأول والثالث، فالمشهد الأول هو المقدمة التي تسمح بفهم المشهد الثاني فهماً صحيحاً. والمشهد الثاني هو المبرر للانقلاب الجذري الذي يتم في المشهد الثالث. إذا غضينا النظر عن المشاهد الثلاثة والعلاقة التي تربطها ببعضها نقول إن القصة تتناول التناقض بين تصرّف الله تعالى ومعاملته للبشر من ناحية وبين تصرّف البشر ومعاملتهم بعضهم لبعض من ناحية أخرى.
ويلجأ الإنجيلي إلى أسلوب روائي بسيط للغاية وبه يستطيع، ليس في هذا المثل فقط إنما في باقي الأمثال، أن يعبّر عن أفكار وأشياء كثيرة بوسائل قليلة وبسيطة. وسبب لجوء الأمثال بكثرة إلى التضاد هو أن الإنجيل يحمل تعليماً جديداً. تخرق هذه الجدّة مسار الأشياء المعتاد والمتوقع. يخالف الإنجيل العادة والمعتاد. هناك تناقض شديد بين عالم الله وعالمنا. عالمنا هذا هو من خلق الله ولكنا- نحن البشر شوهناه. يدعو المثل إلى اختيار أحد العالمين. يتعلق الاختيار بوجهة النظر وطريقتها.
المشهد الأول: عالم الله
نسبة تبدّد الأشياء في المشهد الأول (مت 23:18-27) غريبة للغاية. أن حجم دين العبد كبير جداً. وإذا تخطّت هذه النسبة في رواية المثل كل المقاييس والتصورات، إلا أنها ليست كذلك في الواقع الذي تشير إليه؛ يتكلم المثل عن علاقة سيد بعبد أمّا المقصود من وراء ذلك فهو علاقة الله والإنسان وما هو غير معقول أو منطقي في عالم البشر، فإنه ليس كذلك فيما يخص الله.
تخطى كرم وتسامح السيد كل ما لم يكن العبد يجرؤ على انتظاره. كل ما كان يطلبه ويتوقعه هو إرجاء ميعاد سداد الدين فإذ السيد يسامحه بكل الدين! يتخطى رد واستجابة الله كل حدود طلب وصلاة الإنسان؛ أي أنه يتخطى «العدل». لا يتعرّض المثل لأي من صفات العبد: إن كان أميناً، نشيطاً، ماهراً في عمله أو أدى خدمات جليلة لسيده. كل ما يذكره المثل هو سجود العبد وتوسّله. سجد سجود من يعرف حالته وضعفه وضعف موقفه ولجأ إلى كرم سيده. توسل إليه كما يتوسل إنسان أمام إله وطلب معونته. لا يهدف الإسهاب في وصف توسل العبد إلى إظهار قوة الصلاة بل يهدف إلى التنبيه على مجانية ترك الدين. كان دافع السيد إلى ترك الدين كرمه وسعة صدره وشفقته. مقياس الصفح والعفو هو كرم السيد، لا استحقاقات العبد.
قلنا إن كل شيء غير عادي في المشهد. ولكن هل يوجد ما هو «عادي» في علاقة الله بالإنسان؟ إذا اعتبرنا تعامل الله مع البشر من وجهة نظرنا البشرية المحدودة لاكتشفنا أن هناك مبالغة كبيرة في كرمه وحبه وتسامحه إن هذه المبالغة هي دليل على الحقيقة والصحة لأنه إن غابت لأصبحت تصرفات الله ومعاملته للبشر مثل تصرفات هؤلاء وتعاملاتهم مع غيرهم. إن هذا البعد «غير العادي» هو عنصر تستعمله الأمثال لجذب الانتباه لاختلاف عالم الله وتميزه. ويصبح واجب المستمع أن يعي أنه بهذه الطريقة يخرج ولو لحظة من خبرته الإنسانية ومن المعتاد لكي يكتشف حقيقةً ومعياراً مختلفين.
المشهد الثاني: عالم البشر
ينقلنا المشهد الثاني إلى عالم البشر حيث لا تقوم العلاقة بين عبد وسيده، أي الإنسان والله، إنما بين الإنسان وأخيه الإنسان. إذا قرأ أحد هذا المشهد بدون أن يقرأ الأول لأيّد تصرّف العبد إذ يجب رد الدين لصاحبه. ربما أخطأ العبد في طريقة تصرّفه مع زميله إلا أنه من حيث المبدأ محق في مطالبته بحقه أي بسداد دينه. هكذا يفكر من لم يقرأ المشهد الأول. ينقلب الأمر رأساً على عقب إذا اعتبرنا تصرّف هذا العبد على ضوء المشهد الأول: لقد تُرك له أولاً كل الدين الذي عليه وهو دين تفوق قيمته قيمة الدين الذي له آلاف المرات. كيف لا يترك لزميله قيمةً هكذا زهيدة، وقد تُرك له هو دين باهظ؟ إنه أمر لا يُعقل! الآن يصبح ما كان من قبل عادياً، أي تسديد العبد دينه لزميله، أمراً غير مفهوم ولا معقول ولا مقبول ولا عادل. يهدف المثل أن يكون المشهد الأول كمقدمة تغيّر وتقلب كل المفاهيم. هنا وفي هذا الأمر يقوم قلب الموازين رأساً على عقب: اعتبار الأمور انطلاقاً من مقدمة أي من «الخبر السار» وهو غفران وعفو الله اللا متناهي.
الأمر المتوقع هو أن يعفو هذا العبد، الذي سامحه سيد بدينه الباهظ، وهو سعيد بهذا العفو، عن زميله ويسامحه بدينه البسيط. لم يقدر العبد الأول ما تم معه ولم يجدده عفو سيده ولم يفتح كرم سيده قلبه ونفسه لكرم مماثل مع زميله. لم يفهم أن من يقبل أن يُعفي عنه ويسامح يعني أن يعفو هو بدوره ويسامح ويعني دخوله في دائرة جديدة من العلاقات ومنطق جديد: دائرة ومنطق الكرم والعفو والتسامح. لم تعد قواعد «اللازم» و «الواجب» القديمة تصلح لهذا النوع من العلاقات. إذ نسينا أنه سامحنا أولاً وأحبنا مجاناً فإننا لن نفهم شيئاً عن الغفران والتسامح: لا غفران الله لنا ولا غفراننا نحن للقريب. بذلك نتحوّل إلى مدافعين مستمعين للعدل الجامد لدرجة أننا نحاول فرضه على ذاته، بدلاً من أن نبشّر بوجه الله يسوع الجديد نبشّر بصورة الله جامدة قاسية حرفية صورة رسمها البشر له ورسموها على شاكلتهم هم.
المشهد الثالث: تحقيق العدل
ينقلب موقف وتصرّف السيد، في المشهد الثالث، رأساً على عقب: تحل الصرامة والقسوة محل الرحمة. يرجع سبب هذا التحوّل إلى العبد الذي لم يتصرّف مثل سيده: «أفما كان يجب عليك أنت أيضاً أن ترحم صاحبك كما رحمتك أنا؟» (مت 33:18). لم يغير كرم السيد شيئاً في عقل ومنطق وتصرّف العبد. وكأن كرم السيد كرم مهدور. تنتهي القصة (مت 34:18) كما بدأت (مت 25:18): «غضب مولاه فدفعه إلى الجلادين حتى يؤدي كل دينه». إذا كانت هذه هي نهاية المثل لأمكنّا أن نسميه: »قصة فشل، يعكس فشل كرم السيد فشل كرم الله. لا يترك الإنسان ذاته لله ليجدده. لا تنتهي الأمور عند هذا الحد، إذ يصدر القديس متى في نهاية المثل تأكيداً يبدو وكأنه تراجع للخلف، «فهكذا يفعل بكم أبي السماوي، إن لم يغفر كل واحد منكم لأخيه من صميم قلبه» (مت 35:18) يصبح صفح الإنسان عن أخيه الإنسان شرطاً لحصوله على صفح الله. لم يقدّر إن رحمة الله اللامتناهية هي التي تسيّر الأمور، إنما صفح الإنسان بذلك تصبح المقدمة المشهد الأول) مشروطة وموجهة من الحدث (المشهد الثاني) لقد انقلبت الآية. قد يعتقد البعض أنها تعدّلت وعاد الكلام إلى المنطق العادي والمعقول. إن المثل بصورته هذه لا يشمل أي شيء غير عادي أو متسامي عن تفكير وتقدير البشر. إن سبب غفراننا ليس هو الغفران الذي نلناه، بل الخوف ألا يُغفر لنا؟ هل هي عودة إلى «العادي»؟ إنها، بكيفية ما، فعلاً لذلك. ولا عجب في ذلك إذ أن الإنسان، حتى الإنسان المؤمن، يجد صعوبة شديدة للتغيير. ويجب التسليم بأن التغيير صعب جداً ويحتاج لوقت طويل حتى يزيح أفكاراً وعادات قديمة ويحل محلها. ويصدق هذا بنوع خاص إذا كان »الجديد« هو تعليم لاهوتي عميق وجوهري ويتطلب قلب موازين الإنسان عن الله وعن الكون والآخرين رأساً على عقب. وهذا هو بالفعل ما يهدف إليه هذا المثل.
يجب أن نسلّم أن الجديد الذي يحمله الإنجيل، مثل المجانية ولا نهائية رحمة الله كما يقدمها هذا المثل، قد لا تغطي أحياناً كل المتطلبات المشروعة غير المحددة وإن كانت بديهية. إن محاولة إنكار هذه المتطلبات أو حتى تجاهلها يعني تعريض مصداقية الإنجيل وجدّته للشكوك. يشعر راوي أو كاتب مثل كرم السيد وقساوة العبد بهذا الخطر ولذلك يضيف وخاصة في نهاية المثل العلاج الذي يراه مناسباً. لا نقصد أنه يصحح أو يحد جدة الإنجيل ولكنه يحيطها باعتبارات أخرى لا يجب أن تغيب. ونذكر أنه لا يشرح مثل- سواء المثل الذي نتناوله أو أي مثل آخر- انطلاقاً من خاتمة، بل العكس.يكون تعليم المثل الأساسي أن صفح الله المجاني يسبق كل شيء وهو بلا حدود أو مقاييس. يوضّح هذا المثل هذه الحقيقة: الصفح الأخوي هو نتيجة الصفح الإلهي لأن الأخير هو الدافع والمعيار للأول: «كما رحمتك أنا». بعدما ثبّت الإنجيلي هذه الجدّة يُفسح المجال لبعض التوضيحات والتجديدات ولكن ما هي هذه التوضيحات والتجديدات؟ نذكر بعضها على سبيل المثال. أن رحمة الله، لأنها رحمة الله، لا يمكن أن تفهم على أنها «لامبالاة» لا يمكن اعتبار احتفاظ الإنسان بصفح الله له لذاته أو مده على الآخرين كأنه نفس الشيء. إن كان كذلك فإنه يصبح لا مبالاة تجاه مسؤولية الإنسان وحريته، لا بل يتحوّل الأمر إلى استهتار وعدم احترام.
لا يتوقف فكر الإنجيلي، الذي ختم المثل بتوضيح أهمية الصفح الأخوي القصوى، لا يتوقف عند هذا الحد. إن الصفح الأخوي ليس هو سبب علاقة الله بالإنسان وفي المكانة الثانية علاقة الإنسان بأخيه الإنسان: ولا يتعرّض بأية كلمة عن علاقة الإنسان بالله. إن سبب هذا الصمت هو اعتبار أن علاقة الإنسان بالله جزء لا يتجزأ من علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وبالتالي لا حاجة لحديث مخصص للعلاقة بالله. تنطبق هذه الحقيقة على الإنسان أكثر من انطباقها على الله. إن صفح الله حقيقة واقعية وحبه للإنسان يسبق حب الإنسان له. الخلاصة أن الله لا يغيّر تصرفه ولا موقفه (يدين أولاً ثم يعاقب) حتى وإن بدا هذا الأمر لأول وهلة في المثل. كيف يمكن الكلام عن الله؟ إن الصفح الأخوي ليس هو شرط حقيقة صفح الله، كما لو كان صفح الله مثل تحقيق هذا الشرط، مشروطاً، أي أنه وعد أكثر منه حقيقة. تكمن الحقيقة كلها أو عدمها في الإنسان: إنها حرية الإنسان هي التي تتقبل أو ترفض، تقدم أو تمنع تحقيق صفح الله.
لا يهدف المثل إلى تحديد قاعدة عامة. إنه يوضّح كيف يتعامل الله مع الإنسان ولا يوضّح كيف يتعامل الإنسان مع الله. حب الله ممتد ومنطقه، أي منطق حب الله، هو منطق المجانية وليس التبادلية. هذا هو جوهر الأمر. لا يؤكد المثل أن الصفح اللامتناهي يجب أن يكون قانون الحياة مع الآخرين. ولكنه يؤكد أن الله على استعداد أن يغفر ويصفح دائماً وبلا حدود. وبالتالي يجب على التلميذ أن يعطي الأولوية وأن يبشر بالصفح لا بالعدل الجامد. أولاً وبطريقة مباشرة في الجماعة الكنسية ثم في العالم أجمع.
عن مجلة صديق الكاهن