stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

كتابية

أمثال إنجيل القديس متى- مثلا حبة الخردل والخميرة (مت 13: 31-33)- د.الأب / كميل وليم

1.4kviews

download (2)

حبة الخردل

استوحى إنجيل القديس متى مثل حبة الخردل من تقليد القديس مرقس (مر30:4-32). وواضح أن هناك نقاط تشابه عديدة تجمع الإنجيليين. ومع ذلك فهناك أيضاً بعض الاختلافات في الأسلوب والتفاصيل أكثر منها في التوجيه والمضمون. يختلف أسلوب إنجيل القديس متى عن أسلوب إنجيل القديس مرقس، إذ يتميّز الأول بالإيجاز والاتساق المنطقي. ويجري إنجيل القديس متى تعديلين:

حبة الخردل تزرع في الأرض (مر30:4)، بينما تزرع في حقله (مت 31:13).

طيور السماء تعشش في ظلها (مر32:4)، حينما تعشش طيور السماء في أغصانها (مت 32:13).

كما يجري القديس متى تعديلاً في المقدمة، إذ يربط بين هذا المثل وتشبيه الخمير. إننا أمام لوحة من خبرة الحياة اليومية لذلك يمكن الحديث عن تشبيه، أكثر من الحديث عن مثل. ومما يدعو إلى عدم اتخاذ هذا الموقف هو زمن الأفعال التي ترد في Aorsit وهو الزمن الذي لا يستخدم لحدوث الشيء مرة واحدة وحيدة وبالتالي يقود إلى اعتبار هذه اللوحة لوحة فريدة وخاصة جداً: يبدو وكأن الكاتب أراد أن يجعل من خبرة عادية حدثاً فريداً. وليس هذا الأمر بغريب لأن الأمثال، وهي متخذة من أحداث عادية، تهدف إلى توضيح حدثاً فريداً وغير عادي: تاريخ وحقيقة ملكوت الله “إن أحد خصائص المثل الجوهرية، هي للتعبير عن الطبيعة كأنها تاريخ وأن تروي الأمور المعتادة كأنها أحداثاً فريدة خاصة.

تظهر، في القصة القصيرة، ثلاث شخصيات: الزارع، الحبة والطيور. ولكن الاهتمام كله موجه إلى “الحبة”. وجدير بالملاحظة أنه لا يتم مقارنة الملكوت بحبة الخردل بل بتاريخ حبة الخردل. ويدور تاريخ حبة الخردل في مراحل ثلاثة: مرحلة زرعها، ثم مرحلة نموها وأخيراً مرحلة حالتها كشجرة. ويذكر المثل هذه المراحل الثلاثة وإن كان يتوقف بنوع خاص على المرحلتين الأولى والأخيرة: مرحلة صغر حبة الخردل ومرحلة حجم الشجرة غير العادي. تقوم الفكرة الأساسية في التضاد: أصغر البذور/ أكبر البقول. ولا يشير المثل بأية كلمة إلى مسيرة نمو البقلة أو الشجرة. 

وإذا استندنا على هذا المثل فيجب القول إنه لا توجد أية آثار تطور في مسيرة نمو الملكوت. إن المثل هو كلام عن اللحظة، لا يهدف إلى تعزية المؤمنين الذين يعيشون حاضراً بلا معنى، مخيباً للآمال ومحبطاً؛ واعداً إياهم بمستقبل مزهر عظيم يعوضهم عن كل تعب يتعرضون له الآن. إن التوجه نحو المستقبل يهدف إلى شرح معنى الحاضر الإيجابي. ولا يمكن فهم الحاضر دون النظر إلى المستقبل، كما لا يمكن فهم نوعية الحبة بدون معرفة الشجرة الناتجة منها، ومع ذلك ليست الشجرة هي التي تعطي المعنى للحبة، بل العكس. ببساطة تكشف الشجرة عن القدرة التي تتملكها الحبة في ذاتها. ينطبق هذا الأمر على بداية، حياة ورسالة يسوع المسيح، تدبير الله في الملكوت. ليست عظمة الملكوت في المستقبل هي رد الاعتبار لفشل يسوع الذريع، ولكنها طريقة ظهور وتجلي قوته وعظمته الكامنين في تاريخه. ويجب تطبيق نفس الشيء على حاضر التاريخ. هناك علاقة وثيقة بين كبر المستقبل وصغر الحاضر. لا يعني التضاد الذي يبرزه المثل فصلاً أو استبدالاً، ولكنه يشرح ويفسر طبيعة العلاقة وعمقها غير المدرك تقوم القراءة الذكية الواعية لهذا المثل في الجمع في آن واحد بين التضاد والعلاقة. إذا تمت قراءة المثل من هذا المنظور يمكن للقارئ أن يدرك أن المثل لا يهدف إلى شد الانتباه وتركيزه على المستقبل ليعزي عن فقدان معنى الحاضر، بل إلى كشف معنى الحاضر.

لهذا المثل، مثل كل الأمثال، بعده اللاهوتي: إنه كشف قبل أن يكون تحذيراً. وهو أيضاً تحذير. لا تفيد، في إطار ملكوت الله، معايير الكبر والمظاهر للحكم على أهمية شيء أو شخص أو عدم أهمية، على ما له وما ليس له ثمر. لا يجب أن يتبنى التلاميذ معايير العالم، لاهثين وراء أحلام العظمة، مخضعين قوة الملكوت وعظمته لمعايير السلطة والمجد والوجاهة! إن المثل، بالعكس، هو دعوة ملّحة إلى العودة إلى القيمة الحاسمة للفرص اليومية المعتادة، التي تشكّل وتكوّن نسيج الحياة المعتاد: إن كونه “عادياً” لا يجب أن يقود إلى إهماله: فملكوت هو هنا، في هذا الواقع.

الخميرة

للخميرة، والقليل منها يخمر العجين كله، في العهد الجديد معنى سلبي، إذ: “قليل من الخمير يخمر العجين كله” (غل 9:5) ثم يصدر الوحي الإلهي في رسالة القديس بولس إلى كنيسة كورنثوس حكمه على الخمير: “طهروا أنفسكم من الخميرة القديمة لتكونوا عجيناً جديداً لأنكم فطير. فقد ذبح حمل فصحنا، وهو المسيح”. “فلنعيّد إذاً، ولكن لا بالخميرة القديمة ولا بخميرة الخبث والفساد، بل بفطير الصفاء والحق” (1كو 7:5-8). لذلك يحذر يسوع تلاميذه قائلاً: “تبصروا واحذروا خمير الفريسيين والصدوقيين” (مت 6:16). ومن المثير للدهشة أن يقلب المثل المفهوم السائد رأساً على عقب. ومن المعروف أن قلب الأمور رأساً على عقب هو من خصائص العبقرية والإبداع. لأن ذلك يساعد على المباغتة وعلى جذب الانتباه ويساعد على إظهار المعنى الخفي للأشياء. إن المغزى السري لهذا المثل هو: حتى الخير معدي، وليس الشر فقط. وربما ليس من قبيل الصدفة أن يستخدم الكاتب فعل “خبأت” ليدل إلى فعل المرأة التي تضع الخميرة في الدقيق. وتشير هنا إلى أن ترجمتنا الطقسية أدق من ترجمة دار المشرق 1989. وجود الملكوت هو وجود خفي، محجوب مثل وجود الخميرة في الدقيق.

يروي إنجيل القديس متى المثل كله في آية واحدة، بذلك تكتسب الرواية رشاقة وخفة وتوجه الأنظار إلى النقطة الأساسية المركزية. لا يسمح الراوي بأي تشتت. ويقوم المركز في التناقض بين صغر حجم قطعة الخميرة وكبر حجم الدقيق “ثلاثة مكاييل من الدقيق”. يثير الدهشة أن واقعاً هكذا صغيراً يوّلد واقعاً عظيماً ضخماً. وجدير بالتقدير قوة وقدرة عمل الخميرة. إنها قدرة وقوة لا يتطرق إليهما أي شك. هذا هو الأمر الجوهري، ولا يتعرّض المثل بكلمة واحدة إلى أي شيء آخر مثل مسيرة الاختمار أو الزمن الذي يقتضيه. يكفي هذا ليحذرنا من أن اختمار قدر كبير من الدقيق لا يجب أن يطبق بهرولة واستعجال على تنصير مستمر وشامل للعالم. تحوّل الخميرة العجين بقدرة فائقة، إلا أنه لا يمكن أن يدّعي أحد أنه يلاحظ ويرصد لحظة بلحظة عملها المستمر. من يستمع بصبر الانتظار حتى الصباح هو الذي يستطيع أن يلاحظ أنه، أثناء الليل، خمّرت الخميرة العجين.

هناك مبالغة في قصة هذا المثل. الشيء الوحيد الذي يخضع للمبالغة هو عمل المرأة التي تدس الخميرة في العجين. أما باقي الأمور فهي مبالغ فيها. “ثلاثة مكاييل” إنها كمية ضخمة جداً وهي توازي أربعين كيلو جراماً من الدقيق. لا تقوم أية امرأة، ربة بيت، بعجن أربعين كيلو جراماً من الدقيق. كما أنه لا يكفي لكي يختمر هذه الكمية جزء صغير من الخميرة. لا يجب أن تدهشنا هذه المبالغة. ويجب أن نؤكد أن المبالغة تدخل في إطار الأهداف التعليمية، أي لإثارة دهشة القارئ وبالتالي اهتمامه. ليست هناك وسائل تعليمية إنما وسائل لاهوتية. وهو أمر منتشر في أمثال الملكوت الأخرى. صحيح أن الأمثال تنطلق من خبرات الحياة الواقعية ولكن لا ننسى أنها تتخطى هذه الخبرات، إذ أنها تحمل جدّة الملكوت.

تلعب كمية العجين الهائلة نفس الدور الذي تلعبه الشجرة في مثل حبة الخردل. لا يهدف أي من المثلين إلى إبعاد انتباهنا عن صغر حجم البداية أو تعزيتنا عنها، إنما يهدف إلى إظهار قدرته العالية. لذلك نقول إن لهذا المثل أيضاً تعليم لاهوتي وليس مجرد تحذير. تشمل البداية القوة المحوِّلة التي تظهر في النهاية: هذا هو الإعلان. قد يبدو حتى الآن أن حدث يسوع المسيح، وكذلك الإنجيل في العالم، ضئيلاً متواضعاً، ولكنهما في الواقع ليسا كذلك. ومن هنا التحذير: لا يجب أن تغرينا العظمة والكبر ولا يجب أن يحبطنا الصغر والتواضع. إن قوة الإنجيل مختلفة عن قوة العالم: مختلفة لأنها خفيّة بينما قوة العالم ظاهرة براقة، مختلفة لأنها غير عادية، وأعلى وأسمى من كل ما قد يفتخر به العالم.

عن مجلة صديق الكاهن