الأســـرار الكنسـيّة-الإكليريكي جوزيف منير
الأســـرار الكنسـيّة-الإكليريكي جوزيف منير
مقدمة قانون الرّسل لا يذكر الأسرار، بالرّغم من كوّنها كلِّها موضوعات إيمان، وقد حدّدتها الكنيسة، وممارستها هي الّتي تخلق المسيحيين وتخلق الكنيسة. وهناك اليوم حاجةٌ ماسّةٌ لشرح الأسرار وتفعليها في حياتنا الإيمانيّة، فنحن نعيش أزمة أسرار وذلك لبعض الدّوافع منها:
1- كثيرون من مسيحييّ اليوم يهملون الأسرار، بل ويرفضونها. فالأسرار قد توارت، وابتعد المسيحيون عن الاحتفالات الطقسيّة إلاَّ في المناسبات والأعياد، وقد فقدوا ثقتهم في الكنيسة المنظورة، وغالبًا ما يدّعون أنَّهم لا يزالون لا يفهمون شيئًا من الأسرار ولا من يسوع المسيح، وذلك بسبب الانشغال بالمادة وروح العصر الّتي تكتسح كلَّ بذرة إيمان.
2- نحن نعرف الكثير عن الأسرار، وقد نعرف أكثر من اللّزوم… أشياءً وأشياءً قد لا تكون هي الجوهريّة، فنحن غارقون في روتينيّة ممارسة الأسرار بحيث لم نعد نطرح أسئلةً، ولذلك يجب أن ننسى ما نعرفه لكي نكتشف من جديدٍ ماهيّة الأسرار ومفعولها في حياتنا، فنحن نحتاج لتجديد نظرتنا الإيمانيّة.
3- يحثُّ المجمع الفاتيكاني الثّاني على التحرر من روتينيّة ممارسة الأسرار، فيؤكد على غاية الأسرار قائلاً: « إنَّ غاية الأسرار هي تقديس البشر وبنيان جسد المسيح وأخيرًا تأدية العبادة لله. ولكن بصفتها علامات، لها أيضًا دورٌ تعليميٌّ. هي لا تفترض الإيمان وحسب، ولكنّها تغذّيه أيضًا بالكلمات والأشياء وتقوّيه وتعبرّ عنه، لهذا سُميت أسرار الإيمان” ( دستور في اللّيتورجيا المقدسة، 59).الأسرار علامات عهد بين الله والإنسان، فالمسيح سرّ الآب والكنيسة سرّ المسيح: هذان هما السّرّان الأوّلان للقاء بالله الّذي نعيشه عمليًّا في العماد و الإفخارستيا المصالحة… الخ. وسوف نلقي الضوء على أسرار الكنيسة السّبعة بصورةٍ وجيزةٍ :
1- سر المعموديّة
كلمة ” العماد” توحي بفكرة البَدء أو التنشئة، فالعماد هو باب الدّخول في الكنيسة، باب الخلاص، باب سائر الأسرار.
” هناك جسد المسيح الواحد – الكنيسة – وروحٌ واحدٌ ورجاءٌ واحدٌ للجميع وربٌّ واحدٌ وإيمانٌ واحدٌ ومعموديّةٌ واحدةٌ” (أف4:4)، معمودية واحدة لها ثلاث صيغ:
v معموديّة الدّم: أي الاستشهاد، وهذا ما عاشه المسيح في ألآمه ” عليّ أن أقبل معمودية الآلام وما أضيق صدري حتى تتمَّ” (لو12: 50)
v معموديّة الشّوق: هو عماد الرّوح وحده الّذي يهبُّ حيث يشاء، ويُوحي لكلِّ أحدٍ بدء إرادة طيبة، وهذا العماد لا يتطلب أيّة معرفة واضحة بيسوع المسيح أو بالكنيسة.
v معموديّة الماء: وهو العماد الطقسيّ الرّسمي.
– من خصائص العماد المسيحيّ:
§ التوبة في يسوع بحياةٍ جديدةٍ (رو6: 1-14).
§ دعوة اسم يسوع.
§ يتم العماد بالرّوح القدس ( عطية المسيح المائت والقائم من الموت).
§ ينضم المعمَّد للشّعب الجديد الّذي بدأ يوم العنصرة.
– “… والآن، ياربُّ، أُنظر بحبِّ إلى كنيستك وفجّر فيها نبع العماد. وبهذه المياه، فليعطِ الرّوح القدس نعمة المسيح لكي يغتسل الإنسان… من الأدناس… وليُولد من الماء والرّوح لحياة أبناء الله الجديدة” (صلاة تبريك ماء العماد).
2- سرّ التثبيت
س ما معنى سرّ التثبيت ؟
ج – التثبيت هو سرّ البالغين، فهو بالنّسبة للعماد كالنّمو بالنّسبة إلى الولادة (القديس توما الأكويني).
– هو سرّ الرّسالة والعمل الكاثوليكيّ، فالمثَّبت هو جندي المسيح.
– هو سرّ القوّة والشّجاعة والاستشهاد.
– هو سرّ الرّوح القدس، عنصرة جديدة، فهذا الرّوح يجعلنا نحيا حياة الله.
– هو سرّ الشّراكة الكنسيّة، فحضور الأسقف هو تعبيرٌ عن وحدة جميع المسيحيين.
نجد في صلاة الأسقف عند سرّ التثبيت يقول: « أيُّها الإله الكلّي الصلاح، أنظر إلى هؤلاء المعمَّدين الّذين نضع عليهم أيدينا: في العماد، حرّرتهم من الخطيئة، وولدتهم من الماء والرّوح، كما وعدتَ، أحلَّ الآن عليهم روحك القدوس، أعطهم ملء الرّوح الّذي حلّ على ابنك يسوع: روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوّة، روح المعرفة والمحبَّة البنويّة، أملأهم من روح العبادة…».
3- سرّ الإفخارستيا
في الإفخارستيا؛ الخبز والخمر المُكرّسان يعنيان فعليًّا جسد المسيح ودمه كينبوع حياةٍ إلهيّةٍ للّذي يأكل ويشرب بإيمانٍ، لأنَّهما قبل كلّ شيءٍ مأكل ومشرب. وكما يذكر جون وسلي: « كما أنَّه من دون الخبز والخمر أو ما يشبههما، أقوى الأجساد تتلف بعد قليل، كذلك ربّنا يسوع بقوّته ونعمته الدّائمتين والممثلتين في الخبز والخمر يسند هذه الحياة الرّوحيّة الّتي منحنا إيّاها بصليبه».
في ذهنيّة اليهود معاصري المسيح، لم يكن الفصح ذكرى ليلة الخروج من مصر فحسب. فالتقليد كان قد أضاف ثلاث ليالٍ أخرى، ولذلك فهناك قصيدةٌ اللّيالي الأربعة، وهي خلاصةٌ رائعةٌ لما كانت تعلّمه كتابات يهوديّة أُخرى معاصرة، ترجمها الأب روجه لوديو قائلاً:
-
اللّيل الأول: ليل تجلّي الله في الكون، كان الكون خاويًا والظّلمة تلفّ وجه اللّجج، وكانت كلمة الله نورًا يشعّ.
-
اللّيل الثّاني: ليل ظهور الله لإبرام البالغ مئة سنة، بينما كانت زوجته سارة ابنة تسعين سنة، لتتم الكتب: هل سيكون لإبرام نسلٌ ولسارة ولدٌ ؟… وكان لإسحق سبع وثلاثون سنةً حينما قُدِّم إلى المذبح. فنزلت السّموات منحدرةً رأى إسحق كمالاتها، فأظلمت عيناه أمام هذه الكمالات.
-
اللّيل الثّالث: ليل ظهور الله للمصريين في نصف اللّيل فيمينه حمت أبكار إسرائيل، وبيساره قتل أبكار المصريين.
-
اللّيل الرّابع: ليل وصول العالم إلى نهايته لكي يغيب بعدها حيثُ ستتكسّر أنياب الحديد، ويخرج موسى الجديد من الصحراء… إنَّه ليل الفصح لأجل اسم الله، ليل مُعدّ ومحفوظ لخلاص كلِّ أجيال إسرائيل.
4- سرّ الكهنوت
يسوع المسيح هو الكاهن الأعظم، الّذي حقق لنا:
v وساطة رسوليّة: حيث أصبح يسوع إنسانًا بتجسده، فأعاد الوحدة بين الله والنّاس.
v وساطة رعاية: حيث صار يسوع وسيطًا بين المتخاصمين ” أن يجمع إلى واحد أبناء الله المشَّتتين” (يو11: 52)
v وساطة ذبيحة: عودة يسوع إلى الآب بصحبة البشريّة جمعاء، عبر الصليب والموت والقيامة (ذبيحة يسوع).
لا تستطيع أيّة مجموعة أن تصنع من ذاتها ” جماعة مسيحيّة” إلاَّ بيسوع المسيح به وحده. لا تستطيع أن تقبل صفتها المسيحيّة إلاَّ من المسيح. لا تستطيع أن تتحدَ بالآب إلاَّ عن طريق الوسيط (يسوع المسيح). وهكذا ينبغي أن يكون المسيح الرّأس هو ذاته رأس كنيسته. وهو هكذا بواسطة كاهنه.
«… اليوم، ياربُّ، أعطنا معاونين نحن بحاجةٍ إليهم لكي يمارسوا الكهنوت الرّسولي. نسألك أيُّها الآب القادر على كلِّ شيء، أن تعطي عبدك هذا كرامة الكهنوت. أملأه في عمق أعماقه من روح القداسة. وليقبل منك، يا الله، وظيفة معاونة الأسقف، وليحثَّ النّاس على قداسة السّيرة بمثله وسلوكه…» (صلاة التكريس).
5- سرّ المصالحة
في سرِّ التوبة؛ يستقبل الله الآب ولده التائب العائد إليه، ويحمل المسيح النّعجة الضالة على كتفيه ويعود بها إلى الحظيرة، والرّوح القدس يعيد تقديس هيكل الله ويسكن فيه بغناه.
يدعونا بولُس الرّسول إلى أن نصفح بعضنا لبعض قائلين: « احتملوا بعضكم بعضًا، وليصفح بعضكم عن بعض إذا كانت لأحد شكوى من الآخر. فكما صفح عنكم الرّبُّ، اصفحوا أنتم أيضًا. والبسوا فوق ذلك كلّه ثوب المحبَّة: إنَّها رباط الكمال، وليُسد قلوبكم سلامُ المسيح، ذاك السّلام الّذي إليه دُعيتم لتصيروا جسدًا واحدًا، كونوا شاكرين »(كولوسي3: 13-15).
عطية المسيح الفصحيّة للكنيسة وللعالم هي مغفرة الخطايا، فيسوع يؤسَّس سرَّ التوبة وسلطان الحلّ الإلهي، ويؤسَّس الكنيسة كمكانٍ وسلطةٍ ووسيلةٍ لمغفرة الخطايا. الاحتفال الجماعي يشدّد على أنَّ غفران خطايانا يتضمّن المصالحة مع الكنيسة بكاملها، وعلى أنَّ الكنيسة كلَّها تمنح الغفران للتائبين بواسطة خدمة الكهنة.
6- سرّ مسحة المرضى
كانت كنائس الشّرق القديمة تدعو هذا السّرَّ بـ” الزّيت” أو ” الزّيت المقدّس” أو ” زيت الصلاة” من دون أيّ ذكر للموت. وكنائس الغرب تدعوه بـ” زيت المسحة” أو ” المسحة المقدّسة” أو ” مسحة المرضى”. وقد أعاد المجمع الفاتيكاني الثّاني تسميّة ” مسحة المرضى”، وذلك لنعود إلى التقليد ونتوّجه نحو استعمالٍ سليمٍ للسّرِّ.
يقول القديس ايزيدورس أسقف إشبيليه: « نزولاً عند أمر الرّبِّ، ركّب موسى مسحة من الميرون دهن به هارون وأبناءه، علامةً لكهنوتهم المقدّس. ثمّ مُسح الملوك بالدّهن ذاته، لذلك دُعوا مسحاء. لكنّ مسحة الملوك والكهنة هذه كانت رمزًا للمسيح بعد أن تكرس ربّنا ملكًا وكاهنًا إلى الأبد من قبل أبيه السّماوي بمسحةٍ سرّيّةٍ، عندئذٍ تكرّس، ليس فقط الكهنة والملوك، بل الكنيسة جمعاء، بمسحة الميرون المقدّس لأنَّهم جميعهم أصبحوا أعضاء للملك وللكاهن الأبدي. فيما إنَّنا ذرّية كهنوتيّة، بعد العماد نُمسح بالميرون ونحمل اسم المسيح».
7- سرّ الزّواج
ينص المجمع المسكوني الفاتيكاني الثّاني على: « لقد أسّس الخالق وجهّز بشرائعٍ خاصّة تلك الشّركة العميقة في الحبِّ والحياة الّتي يؤلْفها الزّوجان. إنَّها تقوم على اتّفاق القرينين أي على رضاهما الشّخصيّ الّذي لا يُنقض. إنَّها لمؤسّسة تثبتها الشّريعة الإلهيّة وتنبثق، في نظر المجتمع، عن العمل البشري الّذي به يعطي كلَّ من الزّوجين ذاته للآخر ويقبل الأخر. ولا يخضع هذا الرّباط المقدّس لهوى الإنسان، بغية خير الزّوجين والمجتمع أيضًا».
في سرِّ الزّواج؛ الثّالوث يخلق زوجين بشرييّن خالقين: منهما ينبثق ثالوث حب – أب وأمّ وطفل – يكشف لنا أنَّ الله حبٌّ وحبٌّ خلاّقٌ. والرّبُّ يطلب بواسطة كنيسته أن يعطي الرّجل والمرأة ذاتيهما الواحد للآخر في الحبِّ، مدى الحياة، إذ يقبلان هذا الشّرف وهذه النّعمة فيعيشانِ عهد المسيح وكنيسته ويشهدانِ له، يحملانه “سرًّا” أي علامة حسيّة يراها المجتمع.
الزّواج سرٌّ لا ينفصم، فهو بالنّسبة للأزواج المسيحيين، اتّحاد المسيح بكنيسته. فلا يُسمح للرّجل بأنْ ينفصلَ عن زوجته تمامًا كما لا يُسمج للمسيح بأنْ يتحررَ من تجسّده وينفصل عن البشريّة ” مَنْ يفصلنا عن محبَّة يسوع ؟… لا موت ولا حياة… ولا حاضر ولا مستقبل ولا قوّات… ولا خليقة أخرى تستطيع أن تفصلنا عن محبَّة الله الّتي بيسوع المسيح ربّنا” (رو8: 35-39).
· خاتمة
الأسرار أسرار إيمان، ولا تعود تُفهم إذًا بـ” صدىء الإيمان”… يقولون: أنا مؤمن لكنَّني لستُ ممارسًا للأسرار. بماذا تؤمن ؟ وأيُّ إيمانٍ هو إيمانك ؟ هذا البحث هو محاولة لتجديد نظرتنا الإيمانيّة بواسطة الأسرار، فحقيقة الأسرار هي رهن نور إيمان مَنْ يتقرّب منها.
· المرجع
تيودول ري- مرميه، الأسرار حياة الإيمان، مؤسَّسة كومبوليث، بيروت، 1986.