الأمير الآتي من البئر- الأب متى عابدين
الأمير الآتي من البئر- الأب متى عابدين
ضرب البوق وصمت الجميع، ينتظرون ظهور الملك على العرش الملكي، يأتي ليعلن أميراً ومدبراً جديداً للمملكة، وجاءت اللحظة التي من أجلها اجتمعنا نحن شعب المملكة لنشاهد هذا الأمير المدبر، الذي ذاع صيته بيننا بالحكمة والتقوى، خرج الملك وبدأ الإعلان وعند ذكر اسمه خرج هذا الشاب، وكان اسمه يوسف وما صمتنا أمامه أكثر من صوت البوق، عندما علمنا أن هذا الشاب عبراني الأصل. كيف استطاع أن يغزو كل هذه الموانع المتأصلة في قانون بلادنا ويصل إلى هذا المنصب الفريد… هذا ما جعل موجة من الفضول تجتاح فكري ونظري لأعرف عن قرب من هو هذا الرجل.
انتهى وقت إعلان الملك للمرسوم الملكي، وذهب الجميع كلٌ على حاله، وبعد ظهور الرؤية نحو مكان العرش، نظرت رأيت هذا الشاب الأمير الذي يرتدي ثيابه الملكية جالساً، أصابني القلق من الاقتراب منه، ولكن رأيته ينظر إليَّ كأنه جلس هنا من أجلي، وكأنه علم بما يدور في ذهني من أسئلة. وعندما رآني هو مازلت واقفاً وحدي شعر أيضا أني واقف من أجله، أشار لي بالاقتراب وفرحت كثيرا جداً بهذه الدعوة الصريحة، بالحوار والتحدث معه.
اقتربت منه ورأيت في عينيه أنساناً يحمل ألماً وفي الوقت ذاته رجاءً لا يُوصف، وهذا ما جعلني أكثر اشتياقاً لمعرفة من هو هذا الأمير؟؟؟ سمح لي ببداية الحوار، الذي بدأته بأول سؤال خطر على بالي بعد التعرف على اسمه، وقلت له من أين أتيت أيها الأمير؟ كيف وصلت إلى هذا الامتياز، أجابني بجواب ما أغربه من جواب، وقال أتيت من البئر… ضحكت وأنا أظن أن جوابه نوع من المزاح، فأكد لي جوابه وقال نعم أتيت من البئر… وبدأ يشرح لي قصته وكيف حقد عليه أخوته، وكيف ألقوه في البئر بهدف الانتقام منه، كملت حديثي معه وقلت نعم أتيت من البئر صدقت في جوابك، ولكن كيف أتيت إلى هنا بعد ذلك؟؟؟ قال لي الرب الذي كان معي، حتى وأن ظن العالم أنه صنع بي شراً، كانت هناك الكلمة الأخيرة الباقية لألهي فصنع بي هذا الخير العظيم، حرمني إخوتي من كل شيء فمنحني هو كل شيء. وبدأ يخاطبني وكأنه علم بما أفكر فيه وقال قد تتعجب من أن إخوتي هم الذي صنعوا بي هذا، ولم يكن عدو ولا غريب. قد يكون وجودك في البئر أي الألم والمشقة بسبب أقرب الناس لك، وهذا بالطبع ألم لا يُقارن ولكن بالثقة القوية بوجود الله معك، لا يتغلب عليك ظلام وهلاك هذا البئر. وهنا رأيت في عينيه مع الدموع فرحة الرجاء الذي لا يُحد بالرب إلهه.
قام الأمير ودخل إلى استراحته وأنا أنظر له دون أن أنسى حرفاً واحداً من كلماته، وأخذت اسأل نفسي كم من المرات طُرحت في البئر، قد يكون من غريب أو قريب، وقد يكون من صديق أو حبيب، لكن مازال البئر باق حتى الآن وكثيرون يُطرحون فيه، ولكن هناك من طُرح وله ذراع قوية أخرجته إلى التتويج والنصرة، وهناك من طُرح وهو لا وجود لإله يوسف في حياته، ومازال في البئر حتى الآن وقد يؤدي به إلى الهلاك،
أحبائي بئر الألم مهما أختلف في نوعه باقِ حتى الآن، تعالوا نتعلم المثل من هذا الأمير الذي حول بئره إلى عرش ملكي، نتعلم من كل هؤلاء الذين جلسوا الآن على يمين ملك الملوك ورب الأرباب، والذين جميعهم طُرحوا في البئر، وجاهدوا من أجل النصرة والمجد.
من هنا يأتي معنى قبول الألم في حياتنا، قد نقبله كهزيمة فيجذبنا إلى أسفل ويُهلكنا وقد نقبله كمشاركة في آلام الرب وتطهير لذواتنا فيرفعنا من جوف البئر إلى سلم العرش. وهذا بالإيمان والثقة في عون الرب وخلاصه، وهنا أتذكر السر الخامس من أسرار المجد من المسبحة الوردية لمريم العذراء، وفيه نتأمل تكليل مريم سلطانه على السموات والأرض، أليست هذه مريم التي شك فيها حبيبها وخطيبها يوسف وأرد تخليتها سراً بعد ما علم بالحبل الإلهي…أليست هذه مريم التي قال لها سمعان الشيخ ” سيف الأحزان يجوز في نفسك ” بئر رهيب جازت فيه أمنا مريم العذراء ولكن بثقتها وحبها لله، رُفعت من أعماقه وهي جالسة الآن على العرش سلطانه وملكة.
الأب/ متى عابدين – سوهاج