stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

عقائدية

الإيمان بأمور لا ُترى- القديس أوغسطينُس

2.8kviews

1god

مقدمة :

كتب القديس أغسطينوس ثلاثة كتب تدور موضوعاتها كلها حول “الإيمان” في خلال فترة عشرين سنة:

1. الكتاب الأول بعنوان “الإيمان والاعتراف” كُتِب عام ٣٩٣ بعد سنتين من سيامته كاهنًا.

2. الكتاب الثاني بعنوان “الإيمان بأمور لا ُترى” كتِب عام ٣٩٩ بعد مرور أربع سنوات من سيامته أسقفًا على مدينة هيبو.

3. أما الكتاب الثالث فبعنوان “الإيمان والأعمال” وقد تزامنت كتابته مع البدء في كتاب”مدينة الله” عام ٤١٣ م.

بالنسبة للكتاب الثاني “الإيمان بأمور لا ُترى” والذي يحمل العنوان الآتي باللاتينية:

DE FIDE RERUM QUAE NON VIDENTUR

فقد انتشر في بداية القرن الثاني عشر على هيئة مخطوطين:

Jumieges No ٣٢ Codex Vaticanus No ٤٦٩

وكانت الطبعة الأولى له عام ١٥١٧ م والثانية في عام ١٥٢٩. وقد أُحصي هذا الكتاب تحت أعمال أغسطينوس في رسالته رقم ٢٢٤ الموجهة إلى كودفولتيوس (Quodvulteus) وقد أكَّد ذلك العالِم (BernardusVindingus) في عام 1621 عندما نشر أعمال أغسطينوس تحت عنوان Criticus) Augustinus) حيث يوجد منها اليوم نسخة في مكتبة المتحف البريطاني بلندن تحت رقم 428654 NO.

السبب الذي كتب من أجله القديس أغسطينوس كتاب “الإيمان بأمور لا ُترى” غير معروف ولكن من سياق الحديث نجد أنه موجه إلى جماعات مختلفة من الهراطقة وغير المؤمنين ممن يسخرون من التعاليم المسيحية وفي مقدمتهم أصحاب بدعة ماني، بالإضافة إلى بعض الجماعات أصحاب فلسفة ما وراء الطبيعة أو ما يُطَلق عليهم (Metaphysics) وربما انضم إلى هذه الجماعات التي وُجِّه إليها هذا الكتاب:الوثنيون، و بعض من أصحاب البدع المختلفة.

وهؤلاء جميعًا كانوا يرون أن المسيحية كديانة لا يجب أن ُتؤخذ بمأخذ الجد لأنها توصي المؤمنين بأن يؤمنوا بأمور لا ُترى. لذلك بدأ القديس أغسطينوس في إقناع هؤلاء المعارضين للتعاليم المسيحية بأن جوهر الإيمان يتعلَّق بسلوكيات الإنسان، وبدون أن يخوض في الإيمان المسيحي، أثبت أولاً أنه من خلال المجتمع البشري فإن الإنسان يؤمن بأمور غير ملموسة، وهناك ثقة في الآخرين غير ظاهرة يراها في جاره، قريبه، صديقه حيث يقول في الفقرة الثانية: “أنت يامن لا تصدق إلا ما تراه، هوذا الماديات التي حولك تراها بعيون الجسد، أما نياتك وأفكارك الخاصة فإنك تراها بعيون عقلك إذ هي حاضرة في عقلك. ولكن أخبرني، نية صديقك نحوك… بأي عيون تراها؟ فلا يمكن أن ترى النيات بعيون الجسد.” بعد ذلك يتحول القديس أغسطينوس إلى الحديث عن الأمور الإلهية، فيقول أنه إذا كنا لا نؤمن بما نراه فإن هذا يؤدي إلى انهيار السلام بين الناس وعدم تماسك المجتمع الإنساني، فكم بالحري يجب علينا أن ننظر بعين الإيمان إلى الأمور الإلهية التي لا ُترى؟

تطرَّق القديس أغسطينوس بعد ذلك إلى سرد بعض الأدلة على صدق الإيمان المسيحي؛ مستخدمًا آيات العهد القديم التي تشير إلى مجيء المسيح وميلاده من العذراء مريم، والنبوات التي أشارت إلى الكنيسة، وكيف انتشر الإيمان المسيحي في العالم.

في ختام الكتاب يتَّجه أغسطينوس إلى سامعيه ويتكلَّم بوضوح إلى رعيته من المؤمنين حيث يوصي قارئيه والمؤمنين بكلمات الرب “من له أذنان للسمع فليسمع” ضد الأعداء الخارجيين والداخليين للاهتمام بالبشارة التي تحمل اليقين بنصيب الملكوت السماوي.

لذلك فهذا الكتاب يصلح لكي يكون بحق “مدخلاً للإيمان المسيحي” إذ نجد فيه كما سبق وذكرنا إثباتات للإيمان المسيحي من خلال المجتمع البشري وأيضًا من خلال نبوات العهد القديم.

تمت الترجمة عن الترجمة الإنجليزية المنشورة في:

Nicene & Post Nicene Fathers,

Series I, Volume III

St. Augustine, Doctrinal Treatises

الرب يجعل كلمات هذا الكتيب تعمل في نفوسنا مستمعين إلى قول الرب يسوع بعد قيامته المقدسة لتوما:

“طوبى للذين آمنوا ولم يروا”،

الإيمان بأمور لا ُترى

أدلة منطقية تثبت إمكانية الإيمان بأمور لا تُرى بالعيون المادية:

١.هناك أناسُ يَعتقدون أن الديانة المسيحية يلزم السخرية منها، وليس التمسُّك بها، وذلك لأنه لا يمكن إثباتها بأمور مرئية، بل أن الناس فيها مطالبون بالإيمان بأمور لا ُترى. ونحن إذًا لكيما َندْحض فكر هؤلاء الحكماء في أعين أنفسهم الذين لا يريدون أن يصدقوا ما لا يستطيعون أن يروه بعيونهم، فإننا لا نستطيع بالطبع أن ُنظهر للعيون البشرية هذه الأمور الإلهية التي نؤمن بها لكننا نستطيع أن ُنظهر للفكر البشري أنه يمكننا تصديق حتى الأشياءِ التي لا ُترى.

بدايةً يجب أن نقول لهؤلاء الذين بحماقتهم قد أعطوا لعيونهم الجسدية أهمية جعلتهم لا يصدقون كل ما لا يرون بهذه العيون: كم من أمور يصدقونها بل ويعرفونها ولكنها لا ُترى بعيونهم تلك؟ هذه الأمور غير المحصاة توجد في عقولنا نفسها -مع العلم أن طبيعة هذا العقل ذاته أيضًا أنه غير مفحوص- كالإيمان الذي به نصدق أمرًا ما والفكر الذي به نحكم بأن نصدق الشيء أو لا نصدِّقه، بالإضافة إلى أمور أخرى كثيرة، هذه الأمور جميعها غريبة عن أنظار العيون الجسدية. وبرغم من ذلك كم هي مكشوفة وواضحة ومؤكدة لعيون فكرنا الداخلية؟ إذا كنا بدون شك ندرك وجود الإيمان والأفكار رغم أنه لا يمكن رؤيتهما بالأعين الجسدية فكيف لا نؤمن بالمسيح إذًا؟

٢.لكن قد يَُقولون أن الأمورَ التي في العقلِ، نستطيع بواسطة العقل نفسه أن نميزها فَليْسَ لنا حاجُة أَنْ نراها بعيون الجسد؛ لكن تلك الأمور التي تطالبنا بأن نؤمن بها ليست هي أشياء خارجة عنا حتى نراها بعيون الجسد، ولا هي داخل عقولنا حتى أنه بتمرينات مُعَيٌنة للفكر قد نراها.. زاعمين أن تلك الأشياء التي يصدقونها هي فقط الأشياء يرونها أمامهم (1). لذلك أقول أنه يجب علينا بالتأكيد أَنْ نؤمن ببعض الأمور الحاضرة، وإن كنا لا نراها، لكيما نَستحقُّ أيضا أَنْ َنرى الأشياء الأبدية، التي نؤمن بها.

لكن أنت يا مَنْ لا تصدق إلا ما تراه، هوذا الماديات التي حولك تراها بعيونِ الجسد، ونيَّاتك وأفكارك الخاصة تراها بعيون عقلك إذ هي حاضرة في عقلك. ولكن أخبرني، نية صديقك نحوك… بأي عيونٍ تراها؟ فلا يمكن أَنْ ُترى النيات بعيون الجسد. فهل ترى في عقلكَ أيضًا ما يدور في عقلٍ آخر؟ ولكن إن كنت لا تراها، فكيف ُتبادل نية صديقك الصادقة نحوك إن كنت لا تؤمن بما لا تراه؟

هَلْ ستقول جدلاً بأّنك ترى نية الآخر من خلال أعماله؟ إذن أنت سََترى أَفْعالاً، وستَسْمعُ َ كلِمات، ولكن نية صديقكَ التي لا يُمكنُ أَنْ ُترى أو ُتسمع فأنت ستصدقها. فهذه النية ليس لها لون أو شكل حتى تراها العينان؛ و ليس لها صوت أو نغم، حتى تسمعها الأذنان، وهي ليست نيتك، لكي ما تَُكونَ محسوسة في قلبك.وعلى الرغم من أنها لا ُترى، ولا ُتسْمَع، ولا هي منظورة بداخلك فيجب عليك أن تصدٌق هذه النية، وإلا ستشعر بالوحدة في حياتك، بدون صداقةِ، و لن تستطيع أن تبادل من يحبك نفس الشعور.

فأين هذا الذي تقوله إذن أنك لا تستطيع أن تصدق شيئًا إلا لو رأيته بعين الجسد أو رأيته داخل قلبك؟ هوذا من كل قلبك تصدِّق ما في قلب غيرك وتؤمن حيث لا تستطيع أن ترى بعينيك أو بقلبك. فوجه صديقك تستطيع أن تميزه بعين الجسد وموقفك نحوه يمكنك أن تميزه بعقلك، لكنك لن تستطيع أن ُتَقدِّر محبة الآخر لك مالم تبادله هذا الحب، إذ تصدق أن فيه هذا الحب الذي لا تراه. فمن الممكن أن يخدع الرجل غيره باختلاق النية الحسنةِ، وإخفاء الحقد. وحتى إن لم يكن يفكرُ في إيذائك ولكن لأنه قد ينتظر أن ينتفع منك بشيء، فمن الممكن أن يختلق المحبة على الرغم من أنها ليست فيه.

٣.لكنك َتُقولُ، إنك تصدق صديقك، الذي لا يُمكن أَنْ َترى قلبه، لأنك اختبرته في تجاربك، إذ لم يتركك في وقت الشدة.. فقد عرفت حقيقة شعوره نحوك. فهل هذا معناه انه يَجِبُ أَنْ نتمنى أن تصيبنا الشدائد لكيما نتيقن من صدق حب الصديق لنا؟ فهذا يعني أنه لن يوجد رجل سعيد مع الأصدقاء الأوفياء، مالم يحزن الصديق في المصائب التي تصيب صديقه!. ولن يَتمتّعُ أحد إذن بحب الآخر مالم يتألم بآحزان ومخاوف! وكيف نتمنى السعادة مع الأصدقاء المخلصين ولا نخشاها، ان كنا لا نستطيع ان ُنْثبِت صدق حبهم إلا من خلال الأحزان؟ ولكن من الممكن أن يكون لك صديُُق في وقت السعة، وإن كنت تستطيع أن ُتْثبِت صداقته بالأكثر في وقت الشدة.لكنك بالتأكيد لن تعرِّض نفسك للخطرِ لكيما تتيقن من صداقته ما لم تكن متأكدًا أنه سيُْثبِت حسن ظنك (2)؛ وهكذا فأنت فيما تعرض نفسك للخطر فأنت تصدٌق صديقك من قبل أن تجربه.

بالتأكيد، إن كان لا يَجِب علينا أَنْ نصدق الأمور التي لا ُترى، لكننا حقًا نصدُق قلوبَ أصدقائنا وإن كنا لم نبرهن على صدق شعورهم، وحتى بعد أن نتأكد من صداقتهم من خلال ضيقاتنا فنحن نصدق نيتهم الصادقة نحونا دون أن نراها. إذًا عظيمِ جدا الإيمانُ الذي به نَحْكمُ بشكل ملائم إننا َنرى – بعيونٍ ما – الذي نؤمن به، فإننا يجب أَنْ نؤمن إذن، لأننا لا َنرى.

خطورة عدم الإيمان بالأمور التي لا ترُى بعيون الجسد:

٤.إن لم يكن هذا الإيمان موجودًا في المعاملات بين الناس، فانظر كيف تكون الفوضى فيها؟ وكيف يترتب على ذلك تشويش مخيف؟ فمَن الذي سَيُبادِل الآخر بالمحبة، -حيث أن المحبة نفسها غير مرئية- إن كان لا يجب أن أؤمن بما لا أراه؟ إذن فالصّداقة بمجملها ستحتضر، لأنها تقوم على الحب المتبادل. كيف يُقبل الحب إن كان غير ظاهر؟ وعندما لا توجد الصداقة فإن رباطات الزّيجة والقرابة والنسب لن تظل محفوظة في النفس لأن في هذه أيضا يجب أن يكون هناك بالتأكيد اتفاق بروح الصداقة. فالزوج والزوجة َلنْ يتبادلا الحب إذ لن يصدق كل منهما حب الآخر، لأن الحبَّ نفسه لا يُمكنُ أَنْ يُرى. ولن يَشتاقوا أَنْ يَُكونَ لهم أبناءُ، إذا لم يَعتقدوا أنهم سيبادلونهم حبهم . وإن وُلد أبناء وكبروا، فلن يحبهم والدوهم إذ أنهم لا يرون محبة أولادهم التي في قلوب هؤلاء الأولاد إذ هي غير مرئية. وبُناءً على ذلك لن يصبح تصديق هذه الأشياء التي لا ُترى جديرًا بالثناء، بل يكون طيشًا جديرًا باللوم، إذا كنا نؤمن بأمور لا ُترى. فكيف أتكلم أيضًا الآن عن الإرتباطاتِ الأخرىِ التي بين الأخ والأخت، والصهر والحمى، وجميع من هم مرتبطينَ سويًا بواسطة أي قرابة أو صلة؟ إذا كان هذا الحب غير أكيد والنية مشكوكٌ في أمرها، سواء كانت نية الأبناء تجاه الوالدينِ أو نية الوالدين تجاه الأبناء. فأعمال المحبة لن ُترد بالمثل لأن ذاك الذي أُحسن إليه لا يعتقد أنه يجب أن يَرُدٌ بالمثل، إذ هو لا يؤمن بوجود ما لا يراه في الآخر. بالتالي فهذا الشك لن يَُكون ملائمًا، بل سيَُكونُ مكروهًا إذ لا نصدق اننا محبوبين لأننا لا نرى هذا الحب ولا نتبادل هذا الحب، إذ َنعتقدُ أننا لا ندينُ لهم بالحب. إِلى تلك الدّرجةِ تكون العلاقاُت الإنسانية قدُ آلت إلى الفوضى إن كنا لا نصدق ما لا نراه، وتسقط تمامًا وجملةً إن كنا لا نصدق نيات الناس التي بالتأكيد لا نستطيع أن نراها. كذلك، فلن أذْكرَ لهؤلاء الذين يلوموننا لأننا نؤمن بما لا نراه، الأمور الكثيرة التي يؤمنون بها في الأقاويل والتاريخ أو بخصوص الأماكن التي لم يروها بأنفسهم. فلن يقولوا :”إننا لا نصدق إن لم نرى بعيوننا”، لأنهم إن قالوا هكذا، سيضطرون أَنْ يَعترفوا بأنهم لا يعرفون بالحقيقة من هم والديهم؛ لأنهم في هذا الموضوع صدقوا أقوال الآخرين الذين لا يستطيعون أن يُظهروا أمام عيونهم ما يقولون لأنها أشياء مضت؛ فإذ لا يذكرون شيئًا من الماضي البعيد يصدقون أقوال الآخرين الذين كلموهم عن الذي مضى بدون شك؛ فإن لم يكن الأمر هكذا، فسنجد من الضّرورة أن علاقة الابن بوالديه سيشوبها عدم الاحترام، إذ يتجنب التسرع في تصديق تلك الأمور التي لا ُترى. فإن كان عدم إيماننا بما لا نراه يؤدي إلى انهيار السلام بين الناس وعدم تماسك المجتمع الإنساني، فكم بالحري وبالأكثر يجب أن ننظر بعين الإيمانُ إلى الأمور الإلهية التي لا ُترى؟ فإن لم نؤمن فليست مجرد صداقة الناس لبعضهم هي التي ستتأثر، لكن جوهر الإيمان بالدين سوف يتلاشى بما يترتب على ذلك من بؤس عظيم.

أدلة صدق الإيمان المسيحي:

٥.لكن قد تقول : “النيّة الحسنة لصديق نحوي، وإن كنت لا أراها، لكنني أستطيع أَنْ أتيقن منها بالعديد من البراهين؛ لكن وأنَت تطالبنا بالإيمان بالأمور غير المنظورة، لا تعطينا براهين ُتظهر بها صدق اعتقادك ؟”.

مبدئيًا، أقول إنه ليس بأمرٍ بسيط، أن َتعترَف بأن بعض الأمور، وإن كانت لا ُترى يَجِبُ أَنْ ُتصَدَّق لسبب وضوح بعض البراهين، وحتى لو ُقبِلَ هذا، أنه ليس كل الأشياء التي لا ُترى لا يمكن التصديق بها، فهذا يعنى أن القول “هكذا نحن لا ينبغي أن نصدق ما لا نراه بأعيننا” يسقط على الأرض، و يُقَذف بعيدًا، بل و يُنَقض تمامًا.

أ – بركة المسيح للأمم بالكنيسة (3):

لكنهم مخدوعون كثيرًا، أولئك الذين يَعتقدونَ بأّننا نؤمن بالمسيحِ بدون أي أدلة بخصوصه.فهل هناك برهان أوضح من هذا، أن الأمور التي قد أُنبئ عنها نراها الآن قد تحققت؟ فأنتم الذين تعتقدون أنه لا توجد براهين تؤمنون من خلالها بالأمور التي لم ترونها عن المسيح، انظروا إلى الأشياء التي تروها الآن، انظروا فالكنيسة نفسها تخاطبكم كأم تحبكم قائلة: “أنا التي تنظرون إليها بإعجاب في العالم كله، آتية بثمر وأزداد نموًا، لم أكن في الماضي هكذا كما تنظروني الآن، لكن عندما بَارك الله إبراهيم قائًلا: “يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض” (تك 22: 18)، أعطى الوعد بوجودي، فبركُة المسيحِ قد انْسَكبَْت على كل الأممِ من خلال المسيح .

هذا هو نسل إبراهيم، فتسجيل الأجيال يَشْهدُ بذلك، باختصار: إبراهيم ولد إسحق، وإسحق ولد يعقوب، ويعقوب ولد اثنا عشر ابنًَا، ومنهم كان شعب إسرائيل، فيعقوب نفسه كان يُدعى إسرائيل. ومن بين هؤلاء الإثنى عشر ابنًا كان قد وُلد يهوذا – منه أخذ اليهود إسمهم- الذي منه كانت مريم العذراء، التي ولدت المسيح. وفي المسيحِ أي في نسل ابراهيم، تنظرون بإعجاب كيف تباركت الأمم. فهل لا تزالون خائفين من أن تؤمنوا به، ذاك الذي كان يجب بالأحرى أن تخشوا عدم الإيمان به؟”

ب- الميلاد من عذراء :

إن كان يجب عليكم بالأحرى الإيمان بأنه كان يليق بالله أن يولد إنسانًا هكذا، فهل تشّكون أو ترفضون أن تصدقوا ميلاده من عذراء؟!! فاعلموا أن إشعياء الّنبي َقدْ تنبّأَ عن ميلاده من عذراء أيضًا قائًلا: “ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل (الذي تفسيره الله معنا)” (اش 4: 14) فلا تَشٌكوا إذًا أن العذراء تلد، إذا كنتم تريدون أَن تؤمنوا بإله يولد، دون أن يترك تدبير العالم، ويأتي إلى الناس متجسدًا .. إذ أعطى لأمه أن تلد وتبقى أيضًا عذراء. هكذا صار لائقًا بذاك أن يولد كإنسان، إلا أنه هو ذاته الله دائمًا، ومِن قِبل ولادته قد صار إلها لنا. ومن ثم يقول عنه أيضًا الّنبي: “كرسيك يالله إلى دهر الدخور قضيب الإستقامة هو قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الإثم. من أجل هذا مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك” (مز 45: 6، 7) (4) مَسَحَ الله الآب الله الابن.. لذلك فلقد أخذ لقبه من “المسحة” أي أننا من خلال مَسْحِهِ عرفنا أنه المسيح.

ج- نبوات عن الكنيسة:

وفي نفس المزمور قيل له – أي المسيح-عني أنا الكنيسة، وكأن ما سيحدث في المستقبل قد حدث بالفعل: “قامت الملكة عن يمينك. بثوبٍ موشى بالذهب. مزينة بأنواع كثيرة”.. فبسر الحكمة قد قيل لها”اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي أذنك وانسي شعبك وبيت أبيتكِ، فإن الملك قد اشتهى حسنكِ لأنه هو ربك وله تسجدين، وله تسجد بنات صور بالهداية. ويتلقى وجهكِ أغنياء شعب الأرض. كل مجد ابنة الملك من داخل مشتملة بأطراف موشاة بالذهب متزينة بأشكال كثيرة. تدخل إلى الملك عذارى في إثرها، جميع قريباتها إليه يُقَدّمنَ.يبلفن بفرح وابتهاجٍ، يُدخلنَ إلى هيكل الملك ويكون لكِ أبناء عوضاً عن آبائِك، تقيميهم رؤساء على سائر الأرض. يذكرون إسمك جيلاً بعد جيل. من أجل ذلك تعترف لكِ الشعوب إلى الدهر وإلى دهر الدهور.” (مز 44: 10- 18).

· إن كنتم لا ترون اليوم هذه الملكة(الكنيسة) غنية بالنسل الملوكي.

· إن كانت تلك التي قيل لها: “إسمعي يا ابنتي وانظري” لا َترى ان الوعد الذي سمعته هي قد تم بالفعل.

· إن كانت تلك التي قيل لها: “إني شعبك وبيت أبيك” لم تترك العادات القديمة التي للعالمِ.

· إن كانت تلك التي قيل لها: “الملك قد اشتهى حسنك لأنه هو ربك” لا تَعترُف بالمسيح الرب في كل مكان.

· إن كنتم لا َترون شعوب الأممِ ُتصعد الصلوات و تقدم التقدمات للمسيح الذي قيل لها (للكنيسة) عنه: “له تسجد بنات وصور بالهدايا”

· إذا كان الأغنياء لا يطرحون كبرياءهم جانبًا ولا يترجُّون مساعدة الكنيسة، تلك التي قيل لها: “يتلقى وجهك أغنياء شعب الأرض”

· إن كان لا يَسمعُ الله لبنت الملك(الكنيسة)، التي أوصِيَتْ أن تقول “أبانا الذي في السموات”(مت 7: 11)

· إن كان قديسوها لا يتجدٌد فيهم الإنسان الداخلي يومًا فيومًا ((أنظر ( 2كو 4: 16)) والذين قيل بخصوصهم: “كل مجد ابنة الملك من الداخل”

· بالرغم من أنها تسطع كالشمس في عيونِ الذين هم من الخارج بشهرة كارزيها المتأججة، من خلال الألسنة المختلفة التي كرزوا بها كما قيل: “مشتملة بأطراف موشاة بالذهب متزينة بأشكال كثيرة.”

· إن لم يكن هناك عذارى يحضرن ليكرَّسن للمسيح، إذ ذاع صيته في كل مكان برائحته الذكية، اللاتي قيل عنهن ولهن: “تدخل إلى الملك عذارى في إثرها جميع قريباتها إليه يُقدَّمن” .. ولكي لا يبدو أنهن يُجْلَبنَ مثل الأسرى إلى السجن فيَقُولُ: “يبلغن بفرح وابتهاج، يدخلن إلى هيكل الملك”

· إن كانت لا تأتي الكنيسة بأبناء، لكي يكون لها منهم، آباء (أساقفة وكهنة)، كما حدث، وتقيمهم في كل مكان كرؤساء وقادة، تلك التي قيل لها: “ويكون لك أبناء عوضاً عن آبائك، تقيميهم رؤساء على سائر الأرض” الذين بصلواتهم أصبحت الكنيسة أمهم مُفضّلة ومقبولة وأيضًا من رعية الله، فتمدح نفسها (5) بالقول “يذكرون اسمك جيلاً بعد جيل”

· إن لم يكن بسبب كرازة أولئك الآباءِ أنفسهم، الذين ذكروا اسمها بلا فتور، قد امتلأت من داخلها بأعداد عظيمة من الناس مجتمعين معًا، معترفين لها بألسنتهم بدون توقف بمدح الّنعمةِ تلك التي قيل لها: “من أجل ذلك تعترف لكِ الشعوب إلى الدهر وإلى دهر الدهور؛”

إذا كانت هذه الأمور لا تبدو واضحَة، إلى الدرجة التي لا يجد فيها الأعداء مفرًّا من الاعتراف بالحق جهارًا. إذن، قد تكون على حق إن قلت أنه لا توجد براهين لتثبت صدق الأمور التي لا ُترى حتى تصدقها!لكن إذا كانت تلك الأمور، التي َتراها، قد تنبّأ عنها الأنبياء من زمن بعيد، وقد تمت بكل وضوح.

إذا كان الحق يوضِّح نفسه لديكم، بأمور مضت، وأمور ستأتي فيما بعد.. فيا بقية الذين لم يؤمنوا بعد، يا مَنْ تصدقون بعضًا مما لا ترونه ا ْ خجَُلوا بسبب تلك الأمور التي ترونها!

(د) انتشار الإيمان المسيحي في العالم كله (6)

٧. تقول لكم الكنيسة “انصتوا لي، انصتوا لي أنتم الذين ترون ولكن لا تبصرون. فالمؤمنون الذين كانوا في اليهودية في تلك الأيام حضروا وعرفوا بميلاد المسيح العجيب من عذراء، وبآلامه، وبقيامته وبصعوده؛ وكل كلامه وأعماله الإلهية، كأمورٍ رأوها بعيونهم. أنتم لم تروا هذه الأمور ولذلك ترفضون أن تؤمنوا. إذًا فانظروا هذه الأمور، وانتبهوا لها، وَتَفكَّروا فيها. فهذه الأشياء لا ُتروَى لكم كأمورٍ مضت أو أمورٍ ستحدث في المستقبل لكنها أمور حاضرة.”

هل تبدو لكم كأمورٍ باطلة أو بلا معنى؟ وهل تعتبرونه قليل أو كلا شيء هذه المعجزة الإلهية، انه بإسمِ مَصُْلوبٍ تجري كل أمور الجنس البشري؟

فإن لم تروا ما قد تنبّأ عنه الأنبياء وتم، عن ميلاد المسيح كإنسان “ها العذراء تحبل وتلد ابنا” (اش 7: 14) لكنكم ترون الآن كلمة اللهِ التي سبق وقيلت لإبراهيم وتمت: “تتبارك في نسلك جميع أمم الأرض” (تك 26 : 4)

وإن لم تروا ما َقدْ تنبأ عنه الأنبياء عن عجائب المسيح: “هلم فانظروا أعمال الرب التي جعلها آيات على الأرض”(مز 45: 8)، لكنكم ترون الآن ما تنبأ عنه الأنبياء: “الرب قال لي أنت ابني وأنا اليوم ولدتك. اسألي فأعطيك الأمم ميراثك وسلطانك إلى أقطار الأرض” (مز 2: 7، 8)

وإن لم تروا ما َقدْ تنبأ عنه الأنبياء وتم عن آلام المسيح: “ثقبوا يداي ورجلي، أحصوا كل عظامي؛ وهم ينظرون ويتفرسون فيّ، قسموا بينهم ثيابي، وعلى لباسي يقترعون” (مز 22: 16 – 18) لكنكم ترون الآن تلك الأمور التي تنبأ عنهم نفس هذا المزمور إذ قد تمت الآن بكل وضوح “تذكر وترجع إلى الرب كل أقاصي الأرض وتسجد قدامك كل قبائل الأمم. لان للرب الملك وهو المتسلط على الأمم” (مز 22: 27، 29)

وإن لم تروا ما قد تنبأ عنه الأنبياء وتمّ عن قيامة المسيح، إذ تكلَّم عن نفسه في المزمور أولا ً بخصوص مسلِّمه ومضطهديه: “كان يخرج جارجاً ويتكلم علي. تدمدم على جميع أعدائي وتشاوروا علي بالسوء وكلاماً مخالفاً للناموس رتبوا عليّ” (مز 40: 7، 8) ولكي يرينا أنهم لم يجنوا شيئًا بقتله إذ كان سيقوم فقال: “إلا يعود الراقد أن يقوم؟” (مز 40: 9)، وبعد ذلك بقليل يتكلَّم عن مُسَلِّمه في نفس النبوة تلك الكلمة التي قالها أيضًا في الإنجيل: “الذي أكل خبزي، رفع على عقبه” (مز 40: 10). أي أنه داسني تحت قدمه، وأضاَف بعد ذلك وقال: “وأنت يارب ارحمني وأقمني فأجازيهم” (مز 40: 11) قد تمّ كل هذا إذ رقد المسيح وقام ويقول على فم نفس النبي في مزمور آخر: “أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت لأن الرب ناصري”

كل هذا لم ترونه لكنكم ترون كنيسته، تلك التي كُتب عنها أيضًا بنفس الطريقة وتم عنها الأقوال إذ قيل: “إليك تأتي الأمم من أطراف الأرض ويقولون إنما ورث آباؤنا كذباً وأباطيل وما لا منفعة فيه” (إر 16: 1). هذا بالتأكيد شيئًا تنظرونه، سواء شئتم أم أبيتم أن تصدقوا، حتى ولو كنتم إلى الآن تعتقدون أنه توجد أو كانت توجد منفعة في تلك الأصنامِ؛ لكن حقًا ترون شعوبًا بلا عدد من الأمم، قد تركوا أو طرحوا عن أنفسهم أو حطموا هذه الأباطيل، وسمعتموهم يقولون: “إنما ورث آباؤنا كذباً وأباطيل وما لا منفعة فيه. هل يصنع الإنسان لنفسه آلهة وهي ليست آلهة؟” (إر 16: 19، 2)

ولا تعتقدوا بأنه في القول “تأتي الأمم من أطراف الأرض” قد يعني أن كل الأمم يَجِبُ أَنْ تجتمع في مكان واحد معين للهِ. إفهموا -إن كنتم تستطيعون- أن شعوب الأمم ستأتي إلى إله المسيحيين الذي هو الإله الأعلى والحقيقي، لَيسَ سيرًا على الأقدامِ لكن من خلال الإيمان. فقد قال نبيٌ آخر نفس الشيء إذ تنبأ وقال: “الرب مخيف إليهم لأنه يهزل جميع آلهة الأرض فسيسجد له الناس كل واحد من مكانه كل جزائر الأمم” (صف 2: 11).فأحدهم قال “إليك تأتي الامم من أطراف الأرض” والآخر قال: “فسيسجد له الناس كل واحد من مكانه”.

إذ هم سيأتون إليه دون أن يغادروا أماكنهم، لأنهم إذ يؤمنون به سيجدونه في قلوبهم.

وإن لم تروا ما قد تنبأ عنه الأنبياء وتمّ عن صعود المسيح؛ “اللهم ارتفع على السموات” (مز 58: 5)لكنكم رأيتم ما يتبعه فورًا بعد هذا الكلام “وليرتفع مجدك على سائر الأرض” فلم تروا كل تلك الأمور التي حدثت وتمت في المسيح في الماضي، لكنكم لا تستطيعون أن تنكروا هذه الأمور التي ُترى في كنيسته. هذان الأمران المسيح والكنيسة نريهما لكم كأمور قد سبق و ُ كتب عنها تلك النبوات، ولكن لا نستطيع أن ُنريكم كيف تمت كل تلك الأمور كي تروها بعيونكم، لأننا لا نستطيع أن نسترجع أمورًا مضت كي ُترى..!

(هـ) شهادة الأمور الحاضرة عن الأمور المستقبلية:

٨. لكن كما أن نيَّات الأصدقاءِ، التي لا ُترى، ُتصَدَّق من خلال دلائل ُترى؛ هكذا أيضًا الكنيسة المرئية، فهي ذاكرة للأمور التي مضت ومُبَشِّرة بالأمور التي ستأتي، التي وإن كانت غير مرئية لكنها مُشار إليها في نفس تلك الكتابات التي تنبأت عن الكنيسة. لأن الأمور التي مضت التي لا نستطيع أن نراها الآن والأمور الحاضرة التي نراها الآن -ولكن لا نراها كلها- كانت كلها أمور غير مرئية حين ُ كتِبَ عنها في النبوات.

إذن، فالأمور التي سبق وقيل عنها نراها َتحْدُث سواء هذه التي تمت أو تلك التي ما زالت تحدث الآن. أي أن الأمور المختصة بالمسيح والكنيسة قد حدثت وفقًا لتدبيرٍ مُسبق. ووفقًا لهذا التدبير أيضًا ستكون الأمور التي تأتي: أي يوم الدينونَة، وقيامة الأموات والعقاب الأبدي للأشرار مع الّشيطان، والمكافأة الأبدية للأتقياء مع المسيح؛ أمور تتنبأ عنها النبوات أيضًا ولم تحدث بعد. لماذا إذًا لا نصدق الأمور الأولى والأخيرة التي لا نراها، رغم أننا نرى ما يشهد لهاتين: أي الأشياء التي بينهما ، أقصد الأمور الحاضرة، رغم أننا نقرأ ونسمع النبوات في كتبِ الأنبياءِ عن الأمور الأولى، والحاضرة، والأخيرة، من َقبل أن تحدث؟ إلا إذا كان غير المؤمنين يدَّعون مثًلا أن تلك الأشياءَ إنما كتبها المسيحيون أنفسهم لكيما يعطوا معتقداتهم قيمة وتأثيرًا أعظمُ، بدعوى أن تلك الأشياء قد وُعد بها من قبل أن تحدث.

(و) أسفار اليهود وحالهم يشهد للإيمان المسيحي:

٩. إذا كانوا يَُشكُّون في هذا، ليفحصوا بدقة نسَخ كتابات خصومنا اليهودِ. ليَْقرأوا عن تلك الأمور التي أشرنا إليها؛ أقصد النبوات الخاصة بالمسيح الذي نؤمن به، وبالكنيسة التي نراها منذ البداية الشاقة لانتشار الإيمان وحتى الدخول إلى المجد الأبدي الذي للملكوت. لكن حينما يَْقرأونَ، فلا يتعجبوا من أن اليهود-أصحاب هذه الكتب- بسبب ظلمة العداوةِ على أذهانهم لا يَْفهمونَ. فقد تنبأ نفس الأنبياء وكتبوا عن ذلك، فكان يجب أن تتم تلك النبوة كالبقية، ويأتي عليهم القصاص الواجب كأعمالهم بأمر مُخَفى وعادل من الله. فالذي صَلبوه، وأعطوه علقمًا وخًلا، قد قال للآب، من أجل هؤلاء الذين كان سيقودهم من الظلمة إلى النور، وهو معلق على الخشبة: “يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو 23: 34) ولكن بسبب هؤلاء الذين، خلال أسباب مَخفية أكثر، كان قد قرّر تركهم، قال عنهم بالنبي منذ زمن بعيد، “جعلوا في طعامي مرارة، وفي عطشي سقوني خلاً؛ لتصر مائدتهم قدامهم فخاً وللآمنين شركاً.لتظلم عيونهم عن البصر وقلقل متونهم دائماً” (مز 68: 21 – 23). هكذا فهم يَمْشون ويطوفون في كل مكان بعيون مظلمة، التي هي أصدق دليل لإيماننا. فمن خلالهم ُتبَرْهن شهادتنا، ولكن هم أنفسهم يكونون مرفوضين.

لأجل هذا قد كان، أن لا ُتمحى هذه الطائفة من الوجود، لكي لا ُتفَقد هذه البراهين، ولكنهم تشّتتوا في كل الأرض لكيما في حملهم معهم للنبوات التي تشهد للنعمة التي صارت لنا يُقنعون المتشّككين، فتكون لنا المنفعة. وما أقوله تنظرونه في النبوة إذ يقول الرب: “لا تقتلهم لئلا ينسى شعبي حقك، ولكن بعثرهم في الأنحاء وتيههم بقوتك” (مز 58: 11). ولهذا لم يُبادوا، إذ لم ينسوا تلك الأشياء التي ُقرِأت وسُمِعت بينهم. لإنهم إن نسوا الكتب المقدسة-رغم أنهم لا يفهمونها- فسيكونوا بحسب الطقس اليهودي نفسه مستوجبين الموت. لأنه إن كان اليهود لا يَعْرفون شيئًا عن الناموس والأنبياءِ، فقد صاروا غير قادرين على نفعنا بشيء. فلذلك لم يُبادوا، لكنهم تبعثروا في البلاد المختلفة حتى إذا لم يخلصوا بالإيمان؛ لكنهم يحفظون في ذاكرتهم ما يساعدنا.. ففي كتبهم ما يؤيدنا، وفي قلوبهم يعادوننا، وفي نسخ أسفارهم يشهدون لنا.

(ز) نجاح الكرازة بالمصلوب رغم الاضطهاد

١٠ . وحتى إن لم يوجد ما يشهد للمسيح والكنيسة، فمَن الذي لا يصدق أن النور الإلهي قد أشرق بغتًة على الجنس لبشري عندما نشاهد أن الإله الواحد الحق يُنادَى به من الكل، إذ قد ُتركت الآلهة الباطلة، وصورهم في كل مكان قد حطمت، ومعابدهم قد ُترِكَت أو تغيَّر استخدامها، والعادات لباطلة التي كانت راسخة في الناس قد اقُتلِعَت من الجذور..ونرى أن هذا قد حدث بسبب رجل واحد، ومن قِبل رجال، مقبوض عليهم، مقيَّدين، مُعذَّبين، مَجُْلودين، ملطومين، مَْشُتومين، مقتولين، مَصُْلوبين. أقصد بهؤلاء تلاميذه، الذين اختارهم الرب رجالاً عاميين، غير متعلمين، صيادي سمك، وعشَّارين، لكي تنتشر تعاليمه بواسطتهم، فأولئك الذين بشَّروا بقيامته وبصعوده، تلك الأحداث التي قالوا انهم رأوها. وإذ امتلأوا من الروح القدسِ، تكلموا عن هذا الإنجيل بألسنة لم يتعلموها. ومن الذين سمعوهم:البعض آمنوا، والبعض الآخر إذ لم يؤمن، َقاوم المتكلمين أي التلاميذ بشكل عنيف.

وإذ كانوا أمناء للحق إلى الموت، لم يجاهدوا بمجازاة الشرّ بالشرّ بل بالاحتمال، ولم يَتَغّلبوا بالَقْتلِ، بل بموتهم.وهكذا َتَغيَّرَ العالم وَقبِل الإيمان وهكذا تحولت قلوب الناس إلى هذا الإنجيل؛ الرّجالُ والنِّساءُ، الصغار والكبار، المتعلمون والأمِّيُون، الحكماء والجهلاء، الأقوياء والضعفاء، الُنبَلاء والمجهولون، المرتفعون والمتواضعون. والكنيسة نمت انتشرت في كل الأممِ، ولا تقوم ضد إيمان الكنيسة الجامعة أي طائفة منحرفة أو أي نوع من الخطأ مما يتعارض مع الحق المسيحي. ولا يُسمَح لذلك الخطأ أن ينتشر في كل مكان إن كان وجود هذا الخطأ نفسه يشجع على التمسك بالحق. “لأنه لا بد أن يكون بينكم بدع أيضاً ليكون المزكون ظاهرين بينكم” (1كو 11: 19)

كيف استطاع المَصْلوب أن يعمل كل هذا إن لم يكن هو الله الذي تأنس، حتى إن لم يكن قد تكّلم من خلال الأنبياء عما سيأتي؟ لكن إذ نرى الأنبياء قد سبقوا وتنبأوا بكلماتهم الموحَى بها من الله عن هذا السر العظيم الذي للّتقوى، ونرى أن ما حدث منطبق على كلام النبوات، فمن هو عديم العقل الذي يستطيع أن يقول أن الرسل َ كذبوا في كلامهم عن المسيح، إذ قالوا عنه أنه أتى كقول الأنبياء، هؤلاء الأنبياء الذين تكلموا أيضًا عن الأحداث المستقبلية في حياة هؤلاء الرسل أنفسهم؟ لأن الأنبياء تكلموا عنهم قائلين: “لا قول ولا كلام. لا تسمع أصواتهم. في كل الأرض خرج منطقهم، وإلى أقطار المسكونة بلغت أقوالهم.” (مز 18: 4، 5). ونحن َنرى في العالم أن هذا الكلام قد تمّ حقا، وإن لم نكن قد رأينا المسيح بالجسد. فمن هو الذي لا يضع إيمانه في الكتب المقدسة، التي تنبأت عن إيمان العالم كله، إلا مَن هو أعمى بجنون شديد، أو متشدِّد ومتصلِّب بعنادٍ عجيب؟

١١ . لكن أنتم أيها الأحباء الذين عندكم هذا الإيمان، أو قد قبلتموه حديثًا، لينمو ويكثر فيكم هذا الإيمان. فكما تمت الأمور الحاضرة كأشياء قيل عنها سابقًا في النبوات، هكذا أيضًا ستأتي الأمور الأبدية، التي وُعِدَ بها. ولا يخدعكم الوثنيون الباطلون، أو اليهود الكذبة، أو الهراطقة المخادعون، أو حتى أيضا المسيحيون الأشرار الذين في الكنيسة الجامعة، الذين وهم مّنا فهم أعداء يسببون لنا آلامًا أكثر. ولكي ما لا يُعَْثر الضعفاء بسبب هذا الموضوع فالنبوات لم تكن صامتة إزاءه. فالمسيح الرب ينادي الكنيسة كما ينادي العريس عروسته في نشيد الأناشيد ويقول: “كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات” (نش 2: 2) فلم يقل “بين الذين هم من خارج” -أي غير المؤمنين- ولكن قال “بين البنات”. “ومن له أذنان للسمع فليسمع” (مت 13: 19)

ويقول لنا الإنجيل المقدس انه بينما ُتسحَب الشبكة المطروحة في البحر والجامعة لكل أنواع السمك (7) إلى الشاطئ -أي إلى نهاية العالم-فيجب أن يُفْرِزَ الإنسانُ نفسَه من الأسماكِ الشريرة. ويجب أن يَْفرز نفسه بالقلبِ، لا بالجسد؛ بخلع العاداتِ الّشرّيرة، لا بخرق الشبكة المقدّسة. لئلا يجد هؤلاء -المحسوبين بين المختارين- أنفسهم محسوبين من بين الأشرار. فلا يكون مصيرهم الحياة، بل العقاب الأبدي، عندما يُفرَزوا على الشاطئ.


 

(1) يريد القديس هنا أن يوضح أن هؤلاء الأشخاص يَدّعون أن أفكار الإنسان يمكن إدراكها لأن الإنسان يفكر فيها فهي إذن داخل عقله وصادرة عنه، أمّا الأمور المُتعلقة بالله فهي خارج عقل الإنسان وبالتالي فهي أمور لا يجب الإيمان بها حسب اعتقادهم. وهذا بالطبع فكر خاطئ.

(2) يوضح القديس هنا أنه لا يمكن أن تكون وسيلتنا لإثبات صدق محبة الآخرين لنا هو تعريض أنفسنا للمشاكل والمخاطر حتى نرى رد فعلهم تجاهنا، وفي نفس الوقت فحتى لو فعلنا ذلك فإن هذا أيضاً يدل على تصديقنا لمحبتهم لنا، لأننا لو آنا نشك فيها ما آنّا عرَّضنا أنفسنا للخطر من الأساس.

(3) العناوين الجانبية كلها من وضع المترجمين

(4) شواهد المزامير الموجودة في هذا النص مأخوذة عن الترجمة السبعينية التي كانت المرجع الأساسي للعهد القديم عند الآباء في القرون الأولى. ولقد فضّلنا وضعها آما هي حتى تساعد القاريء على فهم المقصود من النَص.

(5) تمدح نفسها أي تفتخر بإيمان أبنائها

(6)يقّسِم القديس أغسطينوس في الجزء القادم نبوات العهد القديم حسب ترتيب حدوثها إلى ثلاثة أقسام:
الأول: نبوات عن تجسد المسيح وحياته، وقد تحققت.
الثاني: نبوات عن مجد الكنيسة وانضمام الأمم إليها، وهي تتحقق الآن.
الثالث: نبوات عن المجيء الثاني والدينونة، وهي لم تتحقق بعد.
وهو يدعونا للإيمان بالنوع الأول الذي لم نشاهده بعيوننا لأننا لم نكن حاضرين في الماضي وكذلك النوع الثالث الذي لم يتحقق بعد، بما أننا نرى ونختبر تحقق النوع الثاني الآن

(7) انظر (مت13: 47 -80)

منقول عن موقع سلطانة الحبل بلا دنس