الانبا بطرس فهيم مطران ايبارشية المنيا — ما بين الشك والإيمان؟ —
إن قضية الشك هي قضية إنسانية بالدرجة الأولى. واعتبرها الفيلسوف ديكارت علامة على الوجود حين قال: “إني أشك إذا أنا موجود”. والشك غالبا ما يساور المؤمن في إيمانه، وهو مرحلة مهمة على طريق نضج هذا الإيمان، لينتقل من إيمان التسليم الموروث، إلى إيمان الاختيار والاختبار الشخصي. وكثيرا ما أخافت مرحلة الشك المؤمنين، لأنها تهز الثوابت التي بنوا عليها قناعاتهم، وأحيانا أسس حياتهم كلها. وكما للإيمان أنواع ومراحل ودرجات، كذلك للشك أنواع ومراحل ودرجات.
ولكن هل الشك مرتبط فقط بقضايا الإيمان بالله؟ أم إنه موقف يرتبط بالحياة والقناعات والعلاقات؟ فكثيرا ما يشك العلماء في فرضياتهم بل وأحيانا في نظرياتهم العلمية، أو نظريات غيرهم، وإلا لما تقدم العلم وتطور. وكثيرا ما نسمع عن علاقات زمالة أو صداقة أو حب أو زواج اهتزت، أو دخلت في أزمة، وأحيانا انتهت بسبب الشك. وكم من فيلسوف أو باحث أو مؤمن ساورته الشكوك فيما يؤمن به من نظريات وقضايا وثوابت، بل في الله نفسه، في وجوده وفي صلاحه وفي قدرته وفي محبته … الخ.
ولكن هل تساءلنا عن شك الشكاكين والملحدين ومن لا يؤمنون بشيء ولا بأحد، من لا أدريين وممن يعلنون الإلحاد علانية؟ هل تساءلنا عن الموقف الوجداني أو العقلي لهم حين تساورهم الشكوك في قناعاتهم المبنية على الشك وعدم الإيمان، حين تساورهم الشكوك فيما يؤمنون به على عكس إيمان المؤمنين؟ وفي موقفهم وتساؤلهم إن كان ما يكفرون به حقيقة وواقع موجود؟ لأنه ليس كل المؤمنين أغبياء، كما ليس كل الملحدين أغبياء، بل منهم في الطرفين أذكياء وأفذاذ وعباقرة. فكيف يتفق هذا الذكاء العقلي مع ما يختاره هؤلاء وأولئك من موقف من الله ومن الإيمان؟ أو من الشك وعدم الإيمان. فالله ليس موضوع بداهة عقلية ولا هو موضوع بداهة حسية. بل هو كائن يفوق الحس والعقل معا، ولا يناقضهم، بل يتخطى حدودهم وإمكانياتهم.
إن الشك أمر مرتبط بالإنسان وليس بالإيمان. فالمؤمن يشك في إيمانه، والملحد يشك في إلحاده أحيانا كثيرة. وهذا إشارة ودليل على قلق الإنسان وبحثه الدائم عن الحقيقة، وإنه كائن قلق لا يركن إلى شيء، ولا يرتاح لموقف، ولا يستكين لقرار طالما هو على الأرض. ولهذا قال القديس أوغسطينوس “خلقتنا لك يا الله وقلوبنا ستظل حائرة إلى أن تستريح فيك”. فالخبرة الحياتية تظهر لنا أن الإنسان فعلا لا يشبع ولا يكتفي من شيء، لا من المال، ولا من السلطة، ولا من الحب البشري، ولا من العلاقات الاجتماعية … فهو دائما يطلب المزيد، ويسعى إلى الأفضل. وهذا إشارة إلى أن الإنسان مخلوق للخلود، ولا تستطيع الدنيا بكل ما فيها أن تشبع جوع قلبه، ولا أن تسد فراغ وجدانه وكيانه. وهذا ما يقوله السيد المسيح في إنجيل القديس يوحنا للمرأة السامرية: “من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا، أما من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلا يعطش إلى الأبد، فالماء الذي أعطيه يصير فيه نبعا يفيض بالحياة الأبدية” (يوحنا 4 : 14)، وهو يقصد بهذا الماء كل ما تقدمه الدنيا للإنسان، ويقصد بالماء الذي يعطيه هو، الإيمان بالله وسكنى الروح القدس في قلب الإنسان، فالله وحده هو من يستطيع أن يسد فراغ الإنسان، ويشبع جوعه للمطلق وللأبدية.
ولا يستطيع الإنسان أن يصل إلى الله فقط عن طريق العقل وحده، صحيح “أن الله عرفوه بالعقل”. ولكن كثير من العقلاء رفضوا الله بالعقل أيضا، وهم ليسوا مجانين. فلابد من الوحي الإلهي ولابد من الخبرة والاختبار الروحي إلى جانب العقل والوجدان، لاكتشاف ولمعرفة الله والإيمان به. فمن عرف الله والتقى به واختبره حقيقة، لا يستطيع كائنا من كان أن يسلبه اليقين والإيمان بوجوده. ومن لم يعرف الله ولم يلتق به، إن لم يقده عقله ووجدانه وخبرته الباطنية إلى الله، فلا تستطيع أن تقنعه بوجوده ببساطة، إن هو أصر على عدم الإيمان. فالله خلق الإنسان حرا وهو يريده هكذا، ولا يحرمه حريته مهما كانت الأسباب، حتى ولو قادته حريته إلى أن يتنكر لوجود الله ذاته. فالله لا يريد أن يفرض نفسه على الإنسان، ولا أن يقهره من خلال المعجزات، التي تبهر الإنسان وتُخضِع العقل وتجبره على الإيمان. فالإيمان قهرا والاتباع جبرا ليس إيمانا ولا طاعة ولا محبة، ولا يليق بالله المحبة ولا بالإنسان المخلوق على صورة الله. فالإيمان يولد في جو من القلق الوجودي والبحث المستمر عن طريق العقل والوجدان والروح، ليصل بنعمة الله والوحي الإلهي إلى الاختبار والاختيار، الذي ينمو ويتجدد كل يوم في ظلال العقل والقلب والروح والوجدان، في واقع الحياة ليقود إلى ملء الحياة وما بعد الحياة. فالإنسان كائن قدميه على الأرض وقلبه وروحه مشرعة على الأبدية في آفاق ما بعد الكون والوجود، وإن انطلقت من الكون والوجود.
++ جوزيف مكرم … المنسق الأعلامى لأيبارشية المنيا ++