البابا فرنسيس: لتنل لنا العذراء فيض الروح لنكون خدامًا صالحين وأمناء
ترأس قداسة البابا فرنسيس عند الساعة العاشرة والنصف من صباح اليوم الخميس القداس الإلهي في مزار ياسنا غورا بمناسبة مرور 1050 عامًا على معموديّة بولندا شارك فيه الآلاف من الأساقفة والكهنة والمؤمنين البولنديين والقادمين من مختلف أنحاء العالم وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة استهلّها بالقول يظهر من خلال قراءات هذه الليتورجيّة خيط إلهيّ يمر عبر التاريخ البشري وينسج تاريخ الخلاص. يحدثنا بولس الرسول عن مخطّط الله الكبير: “فلَمَّا تَمَّ الزَّمان، أَرسَلَ اللهُ ابنَه مَولودًا لامرَأَة” (غل 4، 4). ومع ذلك يخبرنا التاريخ أنه لما “تمّ الزمان”، أي عندما صار الله إنسانًا، لم تكن البشريّة مستعدة بعد ولم يكن هناك مرحلة ثبات وسلام: لم يكن هناك “عصر ذهبي” ولم يكن هذا العالم قد استحقّ مجيء الله، لا بل “ما قَبِلَه أَهلُ بَيتِه” (يوحنا 1، 11). وبالتالي شكّل ملء الزمان عطيّة نعمة: ملأ الله زمننا بوفرة رحمته، وبدافع محبّة صرفة افتتح ملء الزمان.
تابع البابا فرنسيس يقول يؤثر فينا بشكل خاص كيف يتحقق مجيء الله في التاريخ: “مَولودًا لامرَأَة”. ما من دخول منتصر وما من ظهور جليل لضابط الكل: هو لا يُظهر نفسه كشمس بهيٍّ، بل يدخل إلى العالم بأبسط الأشكال، كطفل من أم، بذلك الأسلوب الذي يحدّثنا عنه الكتاب المقدّس: كما ينزل المطر على الأرض (راجع أشعيا 55، 10)، كأصغر سائر البذور التي تنبت وتنمو (راجع مرقس 4، 31- 32). تمامًا بعكس ما ننتظره ونريده، لأن ملكوت الله “لا يأتي على وَجهٍ يُراقَب” (لوقا 17، 20) وإنما في الصغر والتواضع. يستعيد إنجيل اليوم هذا الخيط الإلهي الذي يعبر التاريخ بشكل مُرهف: ومن ملء الزمان نعبر إلى “اليوم الثالث” لخدمة يسوع وإعلان “ساعة” الخلاص. الزمن يتقلّص وظهور الله يتمّ على الدوام في الصغر. هكذا تمّت “أُولى آياتِ يسوع” في قانا الجليل. ما من تصرُّف مثير أو جذّاب تمّ أمام الجمع، ولا حتى تدخُّل يحل مسألة سياسيّة ملحّة، كخضوع الشعب للحكم الروماني. وإنما وفي قرية صغيرة، تتمّ آية بسيطة تُفرح عرس عائلة شابّة وغير معروفة. ومع ذلك فالماء الذي تحوّل إلى خمر في حفلة العرس يشكّل علامة عظيمة لأنّه يُظهر لنا وجه الله العريس، إله يجلس معنا إلى المائدة ويحلم بالشركة معنا ويحققها. يقول لنا إن الرب ليس بعيدًا وإنما قريب وملموس، هو في وسطنا ويعتني بنا، بدون أن يتّخذ القرارات عنا وبدون أن يهتمّ بمسائل السلطة. في الواقع، هو يفضّل أن يُحتوى فيما هو صغير، بعكس الإنسان الذي يتوق لأن يمتلك على الدوام ما هو أكبر. إن الانجذاب للسلطة والعظمة وحب الظهور هو بشريّ بشكل مأساوي، وهو تجربة كبيرة تسعى للاندساس في كل مكان؛ أما بذل الذات في سبيل الآخرين وإلغاء المسافات، والمكوث في الصغر والأمور اليوميّة الملموسة فهذه أمور إلهيّة بامتياز.
أضاف الحبر الأعظم يقول إن الله يخلصنا إذًا إذ يجعل نفسه صغيرًا، قريبًا وملموسًا. فالله يجعل من نفسه صغيرًا، والرب “الوديع والمتواضع القلب” يفضّل الصغار الذين كُشف لهم ملكوت الله؛ إنهم كبار في عينيه وإليهم يوجّه نظره. يفضّلهم لأنّهم يعارضون “كبرياء الحياة” الذي يأتي من العالم. الصغار يتحدّثون لغته: المحبّة المتواضعة التي تُحرِّر. لذلك يدعو أشخاصًا بسطاء ومستعدّين ليحملوا كلمته وإليهم يكل كشف اسمه وأسرار قلبه. لنفكّر بالعديد من أبناء وبنات شعبكم: الشهداء الذين جعلوا قوّة الإنجيل المسالمة تسطع والأشخاص البسطاء الذين شهدوا لمحبّة الرب وسط المِحن الكبيرة؛ المعلنون المتواضعون والأقوياء للرحمة كالقديس يوحنا بولس الثاني والقديسة فاوستينا. من خلال “قنوات” محبّته هؤلاء، حمل الرب عطايا لا تُقدّر بثمن للكنيسة بأسرها والبشريّة جمعاء. وبالتالي فهو أمر لبالغ الأهميّة أن تصادف ذكرى معموديّة شعبكم مع يوبيل الرحمة. ومن ثمّ فالرب قريب وملكوته أيضًا: الرب لا يريدنا أن نخافه كحاكم قدير وبعيد، ولا يريد أن يبقى على عرش في السماء أو في كتب التاريخ، وإنما يحب أن ينزل في أحداث حياتنا اليوميّة ليسير معنا. وإننا وإذ نفكّر بعطيّة ألفيّة مُفعمة بالإيمان، من الجميل أولاً أن نشكر الله الذي سار مع شعبكم وأمسكه بيده ورافقه في أوضاع عديدة. وهذا ما دعينا نحن أيضًا ككنيسة لنفعله: أن نصغي ونلتزم ونقترب من الأشخاص ونشاركهم أفراحهم وأتعابهم، فيعبر الإنجيل هكذا بشكل صادق ويحمل ثمارًا أوفر: بواسطة إشعاع إيجابي ومن خلال شفافيّة الحياة.
وختامًا، تابع البابا فرنسيس يقول، الله ملموس. من خلال قراءات اليوم يظهر لنا أن كل عمل الله ملموس أيضًا: فالحكمة الإلهيّة “تصنع” و”تلعب” (راجع أمثال 8، 30)، والكلمة يصبح جسدًا تحت الشريعة، يولد من أُمّ، لديه أصدقاء ويشارك في عيد: الأزلي يتواصل من خلال تمضية الوقت مع أشخاص وفي أوضاع ملموسة. وتاريخكم أيضًا، المجبول بالإنجيل والصليب والأمانة للكنيسة، قد عرف العدوى الإيجابية لإيمان أصيل انتقل من عائلة إلى عائلة ومن أب إلى ابن ولاسيما من الأمهات والجدات اللواتي ينبغي علينا شكرهنَّ. وقد تمكنتم بشكل خاص أن تلمسوا لمس اليد حنان وعناية أم الجميع التي جئت اليوم إلى هنا لأكرّمها كحاج.
أضاف الحبر الأعظم يقول نتأمل في حياة مريم ذلك الصغر الذي أحبّه الله الذي “نظر إلى تواضع أمته” و”رفع المتواضعين” (لوقا 1، 48. 52). لقد فرح بها كثيرًا لدرجة أنه سمح لها بأن تنسج جسده، وهكذا ولدت العذراء الله كما تعلنون في نشيد قديم لكم تنشدونه منذ أجيال. لتدلّكم دائمًا على الدرب، أنتم الذين تلجئون إليها على الدوام، ولتساعدكم كي تنسجوا في حياتكم ثوب الإنجيل المتواضع والبسيط. في قانا كما في ياسنا غورا تقدّم لنا العذراء قربها وتساعدنا على اكتشاف ما ينقصنا لنبلغ ملء الحياة. كالأم في العائلة هي تريد أن تحفظنا معًا. إن مسيرة شعبكم قد تخطّت، في الوحدة، العديد من الأوقات القاسية؛ لتزرع الأم – القوية عند أقدام الصليب والمثابرة في الصلاة مع التلاميذ في انتظار الروح القدس – الرغبة بالذهاب أبعد من الأخطاء وجراح الماضي، وفي خلق شركة مع الجميع في الداخل والخارج، بدون الاستسلام أبدًا لتجربة الانعزال أو فرض الذات.
وختم الأب الأقدس عظته بالقول لقد أظهرت العذراء في قانا تصرّفًا ملموسًا جدًّا: إنها أم تهتم للمشاكل وتتدخّل، تعرف كيف تستشفُّ الأوقات الصعبة وكيف تتصرّف لحلّها بتكتُّم وفعاليّة وحزم. فهي لا تتصرّف كسيّدة وإنما كأم وخادمة. لنطلب نعمة أن نتبنّى رهافتها وإبداعها في خدمة المعوزين وجمال أن نبذل حياتنا في سبيل الآخرين بدون تفضيل وتمييز. فلتنَل لنا – هي، سبب سرورنا، والتي تحمل السلام حيث تكثر الخطيئة – فيض الروح لنكون خدامًا صالحين وأمناء.
الفاتيكان