stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

إنسانية وتربوية

العلاقة بين الدين والسياسة في الإيمان المسيحيّ

1kviews

religion-politics-02jpg

بقلم مها سركي

عندما تختلط الأمور بعضها ببعض يفقد كلٌّ منها دوره ومكانته. هكذا هي الحال عندما يختلط المضمار السياسيّ بالمضمار الدينيّ، فتظهر نتائجه على وقائع حياتنا اليوميّة بشكلٍ سلبيّ. وتكفي نظرة سريعة أوّليّة إلى مصادر الأخبار لندرك فداحة الأمر.

أمّا النظرة الثانية فأودّ أن تكون إلى مقالة الأب كريستوف رافانيل اليسوعيّ التي يناقش فيها إشكاليّة العلاقة بين الدين والسياسة من وجهة النظر المسيحيّة لأجل الخروج من هذا الخلط. فالمحاضرة ألقيَت في الجزائر العاصمة شهر فبراير (شباط) 2015، ونالت صدًى طيّبًا في الأوساط الجزائريّة.

يطرح الأب رافانيل بمقالته سؤالًا ملحًّا يتبادر إلى ذهن كلّ منّا اليوم وهو: هل تُعتبر الأديان في ظروفنا الحاليّة خطرًا أم فائدة؟ وللإجابة عنه بحث الأب رافانيل في أربعة نصوصٍ مسيحيّة أساسيّة وسردها في سياقها، وعلّق عليها تعليقًا وجيزًا، وفسّرها، واستخلص منها بعض القواعد لأيّامنا هذه.

بدايةً فسّر مقطعًا من إنجيل مرقس: «أدوا إذًا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله». ثمّ عرض مقطعًا من الرسالة إلى ديوجينوس الشاهد على طريقة عيش المسيحيّين، وآخر من كتاب مدينة الله، الشاهد على مصدر إلهام المحبّة المجّانيّة، وأخيرًا ختم بمقطع من وثيقة نور الأمم (المجمع الفاتيكاني الثاني) وهو نصٌّ من القرن العشرين يقدّم نموذجًا للعمل من أجل وحدة البشريّة.

في النصّ الأوّل، مقطع من إنجيل مرقس، أعطى يسوع لسائليه جوابًا شافيًا ووافيًا بيّن فيه أساس علاقة المسيحيين بالسياسة. وألحّ على ضرورة التمييز بين المضمارين السياسيّ والدينيّ لضمان حرّيّة المواطنين الدينيّة، وضمان مسؤوليّة الدولة تجاههم، وأكّد أنّه لا غنى عن دور الدين لتكوين الضمير الشخصيّ الذي يستند إلى الشريعة الإلهيّة. ولخلق توافق أخلاقي أساسيّ في المجتمع.

وقدّم الأب رافانيل قواعد مفيدة لأيّامنا هذه: ضمان الحرّيّة الدينيّة لكلّ فرد هي مسؤوليّة الدولة. فعلى المسيحيّين أن يتعلّموا كيف يبرّروا اختيارهم بجعل أنفسهم في المستوى الأخلاقي للقيم، دون المرجعيّة المباشرة إلى تقليدهم الدينيّ، لكي يتمكّنوا من المساهمة في بناء المجتمع البشريّ، وللتوصّل إلى مزيدٍ من الحقيقة ومزيدٍ من العدالة والسلام والمحبّة.

يعرض النصّ الثاني الرسالة إلى ديوجينوس، التي يستخلص منها الأب رافانيل طريقة عيش ملهمة ويلحّ على اهتمام المسيحيّين بإعطاء العالم روحًا. إنّهم يعيشون خارجيًّا مثل الآخرين، ولكن كأشخاصٍ تقيم فيهم عقيدة ليست بشريّة صرفة. إنّهم في الجسد ولا يعيشون بحسب الجسد. يقضون حياتهم على الأرض ولكنّهم مواطنو السماء. تسيطر على فكر المسيحيّين فكرة واحدة: مسؤوليّتهم تجاه منح العالم روحًا. وينال هذا التفسير شرعيّتة من مواقف واقعيّة كمحبّة الأعداء، أو الردّ على الشرّ بالخير، وهما موقفان غير شائعَين في عالمنا. فالمسيحيّون يريدون العمل وتلاحم العالم ووحدته. كما يعطي الأب رافانيل قواعد لأياّمنا هذه: بحرّيّة الضمير يتخطّى المسيحيّون حرفيّة الشريعة ليجدوا روحها. إنّهم مواطنو المكان لكنّهم أوّلًا مواطنو السماء، مدينتهم الأصليّة. فهناك تمييز بين الثقافة والدين، والمسيحيّون يدعون إلى منح الأولويّة لما يعطي الإنسان مزيدًا من المعنى.

عرض الأب رافانيل في النصّ الثالث أفكارٍا من كتاب مدينة الله. هذه المدينة واقع روحيّ لامرئي، وهي ثمرة محبّة الناس لله. ففيها يستحيل التمييز عمليًّا بين الدينيّ والسياسيّ. فقدر المدينتين (مدينة الله ومدينة البشر) أن توجدا معًا حتّى النهاية، وعلينا أن نفتّش عن الارتباط بينهما لا عن التمييز. كما أكّد بطلان الرغبة بإقامة مدينة الله على الأرض. فقد استمرّت هذه المحاولة منذ القديم وإلى يومنا هذا وأخذت في بعض الأحيان أشكالًا علمانيّة. لا شكّ في أنّ الإيتوبيا تتوافق مع توق عميق في الكائن البشريّ، ولكنّ مصيرها الفشل. لذلك من العبث أن نسعى لتأسيس مؤسّسات دينيّة أو مدنيّة تشيّد اليوم والآن مدينة الله على الأرض. ويعطي الأب رافانيل قواعد لأيّامنا هذه: أمام قوى الخراب التي تجتاح البشريّة جمعاء وقوّة حركة داعش التخريبيّة، على إنسانيّة اليوم أن تفتّش، وأن تجد الموقف الفرديّ والجماعيّ الذي يمكّن الكائن البشريّ من الربط بين المواطنتين غير المنفصلتين؛ مواطنة الأرض ومواطنة السماء. وكما هو حال النفس والجسد، لا ينبغي أن نفتّش عن الوحدة وأن نجدها في إخفاء الاختلافات بل في إمكانيّة تواجد الاختلافات معًا. ثمّ إمكانيّة تجميعها لخدمة إنسانيّة أعظم.

النصّ الرابع هو وثيقة نور الأمم، التي انبثقت من انعقاد المجمع الفاتيكاني الذي كانت غايته تأوين الكنيسة، أي تحديث عقيدتها لكي تتناسب مع القرن العشرين.

تدعونا وثيقة نور الأمم لتحقيق حرّيّة دينيّة وحرّيّة ضمير أوسع. وتدعونا لدعم اتّحادٍ أشدّ للبشر بالله، ووحدة أعمق بين الكائنات البشريّة. وعلى كنيسة اليوم أن تخدم رسالة الله مختصرة كلّ ذلك بنقطتين: الاتّحاد الحميم بالله، ووحدة كلّ الجنس البشريّ.

فرجاء الكنيسة ينبع من ثقتها بأنّ روح الله هو الذي يوحّد علاقة الإنسان بالله والبشر، وهذا الروح قادر على فعل ذلك. أمّا القواعد لأيّامنا فهي: تنمية القدرة على الحوار، وأن نجد وسائل وأماكن لتحقيق هذه الوحدة، وأن نطوّر القدرة على التعاون بين الديانات، وأن نجد شكلًا أكثر ديمومة.

ويختم الأب رافانيل بخلاصة: علينا أن نتبنّى رؤيةً للعالم لا تكون فيها تعدّديّة الثقافات والأديان مرحلة يجب تجاوزها، بل معطىً من عالمنا، وأن نتوجّه إلى وحدة أشمل، وأن نتعلّم الحوار الأخلاقيّ لنميّز بشكلٍ أفضل ما هو ثقافيّ وما هو دينيّ وما هو سياسيّ، لنلتقي في توقٍ مشترك إلى الوحدة.

الأب كريستوف رافانيل اليسوعيّ

                         يسوعيون