الكاهن والغيرة على مجد الله وخير النفوس
إذا حرّر الكاهن من الربط التي تقيّده بالأمور الأرضية تقييدًا يفوق الحد المعقول، أي من صلات عائلية ومصالح شخصية تختص به، يضحي أحسن استعدادًا للاتقاد بذاك اللهيب السماوي الذي يندلع من أعماق قلب يسوع، أبيا إلا أن يمتد ليضرم الأرض كلها (لوقا 49:12) عنينا بهذا اللهيب الغيرة الرسولية. فإن هذه الغيرة على مجد الله وخلاص النفوس يجب على ما جاء في الكتاب المقدس (مزمور 10:68- يوحنا 17:2) أن تلتهم الكاهن، وأن تنسيه نفسه وجميع الأشياء الأرضية، دافعة إياه إلى أن يكرّس ذاته لمهمته السامية، متذرّعًا دائمًا بأنجع الوسائل لتتميم واجبات هذه المهمة على نوع أفضل إتقانًا وأوسع نطاقًا.
وكيف يسع الكاهن أن يتأمل في الإنجيل، فيسمع الراعي الصالح يشكو قائلاً: “لي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة، فينبغي أن آتي بها أيضًا” (يو16:10) وأن يرى “المزارع قد ابيضت للحصاد” (يو35:4) فلا يشعر بقلبه يحتدم شوقًا إلى اقتياد هذه النفوس إلى الراعي الصالح وتقديم نفسه لرب الحصاد، عاملاً لا يعرف الكلال؟ كيف يسع الكاهن أن يرى العدد العديد من البائسين التعساء لا في بلاد الرسالات وحدها بل لسوء الطالع في البلاد المسيحية نفسها. وذلك منذ قرون “منطرحين مثل الخراف التي لا راعي لها” (مت36:9) ولا يسمع في أعماق روحه صدى لتلك الشفقة الإلهية التي طالما أثارت الحنان في قلب ابن الله؟ (مت36:9و 14:14 و 32:15 مر 34:6 و 2:8 إلخ) وإنما يدور كلامنا على الكاهن الذي يعلم أن في حوزته كلمة الحياة وبين يديه الذرائع الإلهية التي تمكن من إنعاش النفوس وخلاصها.
فيجب أن يكون لهيب الغيرة الرسولية هذه من أسطع الأشعة التي يتلألأ بها جبين كل كاهن وأن يكون على أهبة دائمة للانطلاق لدى نداء القائد الأعلى إلى شتى الجبهات في ساحة القتال الفسيحة الأرجاء وفيها تدور رحى المعارك السلمية بين الحقيقة والضلال، بين النور والظلام، بين مملكة الله ومملكة الشيطان.
“حيثما يمتنع الناس عن إخضاع الحقوق البشرية للحقوق الإلهية، حيثما لا يلجأون إلا إلى صورة زائفة غير راهنة للسلطة الأرضية الحقيقية، ويطالبون بحقوق لا يبررها سوى أسباب لا تمت بصلة إلى الاستقامة، بل إلى الانتفاعية، فثمّة يمسى الشرع البشري بعينه، إذ يصيرونه إلى تطبيقه على شئون الحياة العملية وما يكتنفها من الاضطرابات، مجردًا من أيما سيطرة باطنية على الضمائر، مما يتعذر معه اعتراف الرعية به اعترافًا قانونيًا، والطلب إليها أن تضحى في سبيله بمصالحها الخاصة”.
بيوس الثاني عشر (من رسالته العامة الأولى)
عن مجلة صديق الكاهن 1950