stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

روحية ورعوية

حالتنا الإيمانيّة في مصرنا المسيحيّة – إلهنا المُتواضع في سِرِّي التجسُّد والفداء

917views

tajassodzfida2-00

بقلم الأب فاضل سيداروس اليسوعيّ

المقدِّمة

في سياق ما سبق من مقالات حول “حالتنا الإيمانيّة في مصرنا المسيحيّة”، ولا سيّما نظرتنا المسيحيّة إلى الله المختلفة عن غيرنا، بل والمختلفة عن نظرتنا الشعبيّة أحيانًا، أبغي، في هذا المقال، إلقاء الضوء على سِمة رئيسة من سمات إلهنا، ألا وهي تواضعه تعالى كما يتجلّى في السِّرّين المسيحيّين، التجسُّد من جهة، والفداء من جهة أخرى.

tajassodzfida2-00فنظرتنا العاديّة إلى الله تعرف فخّين: إمّا أنّها تستهين بصفة تواضع الله هذه، مُعتبرةً إيّاها عرَضيّة لا جوهريّة؛ وإمّا أن تعتبرها تحقيقًا لنُبوءات العهد القديم، مُتجاهلةً أنّها اختيارٌ وقرار إلهيّان، بل ومن صميم جوهر الله.

أتوخّى، في هذا المقال، إظهار الصلة الوثيقة بين تواضع الإله الذي تجسّد والذي ذهب إلى الموت على الصليب، ذلك أنّ منطقًا واحدًا يُوجِّه هذين السِّرّين، وهو منطق التواضع الإلهيّ، وذلك إلى جانب كونه ضابط الكلّ (باليونانيّة: Pantokrator )، والقادر على كلِّ شيء (باللاتينيّة: Omnipotens )، والمُتسامي (بالفرنسيّة: Transcendant). فإنّما قصدي أن أُبيِّن كيف أنّ عظمته وجلاله يتجسّدان ويظهران في تواضعه.

ولقد تكلّم آباء الكنيسة، ولا سيّما الشرقيّون منهم، على “إفراغ الذات” الإلهيّ، اعتمادًا منهم على نشيد فيلبّي: “هو الذي في صورة الله، لم يُعِدّ مُساواته لله غنيمة، بل أفرغ ذاته (ékénosen)، مُتَّخذًا صورة العبد…” (فل 2: 6). وما قصدوه هو أنّ إفراغ الذات والتجرُّد والتخلِّي لا يتعلّق بالابن المُتجسِّد فحسب، بل بالآب أيضًا، ويُمكننا القول بالروح كذلك. فما قام به يسوع المسيح في سرِّ تجسُّده واكتمل في سرِّ فدائه (ما يُسمّيه اللاهوتيّون البُعد الإيقونوميّ، أي المُختصّ بالتدبير الإلهيِّ وعلاقته بالبشر)، يُعبِّر خير تعبير عن ماهيّة الله (ما يُسمّيه اللاهوتيّون البُعد الثِّيولوجيّ، أي الإلهيّ الخاصّ بالله في جوهره وكينونته). فما عاشه الله الكلمة المُتجسِّد مُدّة ثلاث وثلاثين سنة كشف لنا حقيقة الله في ذاته، وهو أنّ الأقانيم الثلاثة هم مُتواضعون مُتجرِّدون مُتخلُّون مُفرَغون في حدِّ ذاتهم. وبالتالي، فهُم يتعاملون مع البشر بهذه السِّمات الإلهيّة[1].

ولمّا كان يسوع المسيح هو الذي كشف لنا سرّ الله و”أخبر عنه” (يو 1: 18)، فسنبدأ تأمُّلنا به، ومن هذا المُنطلق سنتأمّل في تواضع الآب والروح من زاويتَي التجسُّد والفداء.

أوّلًا– تواضع الابن

لقد صرّح يسوع نفسه أنّه “وديع ومُتواضع القلب” (متّى 11: 29). فكيف يظهر تواضعه من زاويتَي التجسُّد والفداء؟

نشيد فيلبّي 2: 5-11

ننطلق من هذا النشيد لأنّه من أقدم الأناشيد التي تصف سِرَّ المسيح، من تجسُّد وموت على الصليب وقيامة وتمجيد في السماء. نورده كاملًا لأنّه يخدم مسيرتنا تمامًا:

“ليكن في ما بينكم الشُّعور الذي هو في المسيح يسوع: هو الذي في صورة الله لم يَعُدّ مُساواته لله غنيمة بل أفرع ذاته مُتّخذًا صورة العبد وصار على مثال البشر وظهر في هيئة إنسان فوضع نفسه وأطاع حتّى الموت، موت الصليب. لذلك رفعه الله إلى العُلى ووهب له الاسم الذي يفوق جميع الأسماء كيما تجثو لاسم يسوع كلُّ رُكبة في السموات وفي الأرض وتحت الأرض ويشهد كلُّ لسان أنّ يسوع المسيح هو الربّ تمجيدًا لله الآب”.

إنّ الكلمة المِحوريّة هي إفراغ الذات (ékénosen – kénosis)، أي إخلاء وإنكار وتجرُّد الذات؛ وذلك يظهر فعلًا في سرِّ التجسُّد – بكلمات صورة العبد، هيئة الإنسان، عدم اختلاس المُساواة والمُميِّزات الإلهيّة[2] -، وكذلك في سرِّ الفداء– بكلمات طاعته حتّى الموت مصلوبًا، رفعُه، اسمه، رُبوبيّته[3] -.

إفراغ الذات في التجسُّد

-إنّ يسوع المسيح، منذ أن تجسّد، قد اختار طريق الإفراغ المتواضع في حياته البشريّة بعامّة، والخلاصيّة بخاصّة. ذاك الذي “هو صورة الله غير المرئيّ” (قول 1: 15)، ذاك الذي “هو شُعاع مجده وصورة جوهره” (عب 1: 3)، ذاك الذي خاطب الآب قائلًا: “المجد الذي كان لي عندك قبل أن يكون العالم” (يو 17: 5)، قد قرّر، منذ أن “أصبح بشرًا” (يو 1: 14)، أن “لا يستحي أن يدعو [البشر] إخوة […] يشاركهم في اللحم والدم مُشاركة تامّة” (عب 2: 10-14)، بل أن يجد بينهم فرحه وملاذه؛ ألاّ يتحسّر على ما كان له من امتيازات إلهيّة، بل أن يعيش مِلء الوضع البشريّ الذي تبنّاه.

ذاك “الابن الوحيد الذي في حِضن (eis ton kolpon) الآب” (يو 1: 18)، ذاك الذي أعلن: “أنّا والآب واحد” (يو 10: 30، 17: 11، 22)، “الآب فيّ وأنا فيه” (يو 10: 38، 14: 11، 20، 17: 3)، وذلك في علاقة حميمة رابطُها المحبّة التي يُقيم فيها هو والآب (يو 15/10)، ومنبعُها الروح القدس (روم 5: 5)، منذ الأزل وقبل إنشاء العالم، هذا بعينه قد “خرج (exelten) من الآب” (يو 13: 1، 16: 27-30، 17: 8)، “ونصب خيمته بين [البشر]” (يو 1: 14) و”أتى إلى العالم” (يو 16: 28). أهناك تضحية وبذل، وإفراغ وإخلاء، وتجرُّد وتواضع أعظم من أن يترك الحضن الأبويّ والمجد الإلهيّ اللامحدود ليُشارك الإنسان في وضعه البشريّ؟ ولقد قال القدّيس إيريناوس إنّه “تعوّد”، أو “تكيّف”، أو “تطبّع” (باللاتينيّة: Accomodatio– بالفرنسيّة:Accoutumance) والوضع البشريّ، أي، بتعبيرنا المُعاصر، “نأنْسَن” (s’humaniser – humanisation)، مايؤكِّد أنّ حدثَ فعلِ التجسًّد تطلَّب منه جُهدًا مُستديمًا ليُصبح إنسانًا حقيقةً. ويُضيف إيريناوس أنّه “تكيّف” مع الوضع البشريّ لكي “يتكيّف” الإنسان مع الوضع الإلهيّ. وجدير بالتذكير أنّ إيريناوس صاحب هذه المقولة الشهيرة: “أصبح الله إنسانًا لكي يُصبح الإنسان إلهًا”. إن كانت هذه المقولة تُركِّز على حدث التجسُّد نفسه، فإنّ المقولة الأُولى تُركِّز على عمليّة التجسُّد المًستمرّة في محكِّ الزمن، من الحبل به في أحشاء مريم إلى وضعه في القبر، مُتبنِّيًا جميع الأُمور والأوضاع والمواقف البشريّة التي يعيشها الإنسان ما عدا الخطيئة، تجسُّدًا منه في واقع حياة كلِّ إنسان.

لم ينته الأمر عند هذا الحدّ، بل إنّ دخوله العالم– لا خُروجه من حضن الآب فحسب – قد تطلّب منه تجرُّدًا وإخلاء إذ “جاء إلى بيته فما قبله أهلُ بيته” (يو 1: 11): في بيت لحم لم يستضفه أحد (لو 2: 7)؛ ثمّ اضطرّ أن يهرب إلى مصر (متّى 2: 13-23)؛ ولمّا قُدِّم لله في الهيكل، تنبّأ سمعان الشيخ أنّه “جُعل لسُقوط كثير من الناس وقيام كثير منهم في إسرائيل، وآيةً مُعرَّضة للرفض” (لو 2: 34)؛ وعندما بلغ اثنتي عشرة سنة، أخذ مسافة تجاه والديه ليكون “عند أبيه”، “ولم يفهما ما قال لهما” (لو 2: 43-50)… كلّ ذلك كان تحت شارة التخلّي والتجرُّد والإخلاء، لا مجد الامتيازات الإلهيّة. ونخطو الآن خطوة أُخرى، خطوة الفداء، في أثناء حياته العلنيّة.

[1]لقد عنْون الأب فرَنْسوا فارِيون اليسوعيُّ كتابًا من كُتبه: تواضُع الله

.(François VARILLON SJ, L’Humilité de Dieu)

وهو مؤلِّف الكتابين المعروفين في ترجمتيهما العربيّة: إلهُنا يتألّم(أصلًا حرفيًّا: ألمُ الله)، وكذلك فرح الإيمان، بهجة الحياة، الصادرين عن دار المشرق، بيروت.

[2]هذه قراءة آباء الكنيسة، لا سيّما الشرقيّين منهم، فيتعلّق إفراغ الذات بالتجسُّد.

[3]هذه قراءة مُعظم المُفسِّرين المُعاصرين، اعتمادًا منهم على قراءة دقيقة للنشيد، لا سيّما على بِنيته وشكله، فيتعلّق إفراغ الذات بالفداء.

يسوعيون