stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

روحية ورعوية

حدثني عن الصلاة (النص الكامل)

1.2kviews

30051118902_c1f236ea47_b1-740x493

زار مرة شابًا راهبًا ناسكًا لكي يطرح عليه بعض مشاكله طالبًا الإرشاد والنصح. وقبل أن يخاطب الراهب مباشرة، أراد الشاب أن يراقبه عن بُعد. جلس الشاب على تلة غير بعيدة عم المنسكة وبات ينظر إلى أسلوب حياة الراهب. فرأى فيها من الرتابة ما حيّره كثيرًا. فحياة الراهب كانت تتألف من أوقات مكرسة للصلاة وأوقات مكرسة لصناعة سلال القصب في صمت بدا خانقًا للشاب.

وعندها جاء الشاب إلى الراب واعترف له بحيرته: “أيها الأنبا الجليل، لقد راقبت ما تقوم به وإني أجده – وأعتذر مسبقًا عن الصراحة – مملاً للغاية. كيف يمكنك أن تعيش بهذا الصمت؟ ما الغاية من كل هذا؟”.

لم يفتح الراهب فاه، بل أمسك بيد الشاب ومضى معه نحو البئر الذي يستمد منه الراهب الماء وأخذ بضعة حجارة ورماها في الماء وقال للشاب: “ماذا ترى؟”. نظر الشاب في الماء وقال: “أرى مياهً مضطربة”.

بعد دقيقة، قال الراهب من جديد: “انظر الآن، ماذا ترى؟”.

ألقى الشاب نظرة وقال: “أرى وجهي على صفحة المياه”.

“أنظر جيدًا. ماذا ترى أيضًا؟”.

أمعن الشاب النظر وقال بتأثر لأنه فهم درس الراهب: “أرى السماء فوقي”.

كان ذلك الدرس كافيًا للشاب. ولعله يكفينا أيضًا. عندما نبحث عن الصمت والخلوة، نشعر أولاً بضياع لأن ضجيج حياتنا وعاداتنا يشتتونا. ولكن بعد أن نسمح لمياه نفسنا أن تهدأ، نبدأ أن نرى أن الصمت ليس خاليًا، بل هو فسحة لقاء مع ذواتنا ومع الله.

الصمت يخيفنا لأنه يضعنا أمام “غريبين”. الغريب الأول هو ذاتنا. الغريب الثاني هو الله. بسبب عدم اعتيادنا على هذا اللقاء نشعر بفراغ رهيب. إلا أن أكثر الناس سعادةً هم الأشخاص الذين تعلموا أن يدجنوا هذا الصمت وأن يجعلوا منه فسحة لقاء.

الصمت أحيانًا فراغ. ولكنه أيضًا فسحة وفصاحة الأحبة.

قد يكون الصمت أحيانًا رمزًا للموت وللخصام، ولكنه أحيانًا أخرى أبلغ كلمة بين المحبين، عندما لا تعود الكلمات كافية للتلفظ بالحب، فيبقى الصمت. صمت مملوء من الحضور.

لكي نعيش الصمت نحن بحاجة لفضيلتين: الشجاعة والحب.

شجاعة عدم الهروب. فغالبًا ما يسعى المرء للهرب من صمت اللحظة الحاضرة. خصوصًا في عصرنا التكنولوجي حيث باتت الهواتف الذكية فرصة سهلة لعيش وهم التواصل حتى في الصحراء. الشجاعة المطلوبة هي شجاعة عيش الحاضر. شجاعة أن نلتقي بهذا الغريب الذي هو ذاتنا لذواتنا.

الفضيلة الثانية هي الحب. فمن دون الحب يبقى الصمت مجرد مرادف للموت وللخواء. فقط من يعيش الصمت حبًا يعرف معناه الحق. يضحي الصمت فسحة لقاء مع الآخر. فسحة اصغاء. يضحي الصمت اكتشافًا. يكتب بهذا الشأن الأديب جورج برنانوس: “أدركت فجأة أن الصمت هو حضور. في قلب الصمت كان هو (الرب) حاضرًا وكان صمتًا بكليته، سلامًا بكليته، تناغمًا بكليته”.

الغرفة الباطنية

الحفاظ على الصمت يتم في القلب، في غرفتنا الباطنية. والغرفة الباطنية هي بعد ركز عليه الكثير من المعلمين الروحيين في تاريخ التصوف واللاهوت الروحي. فعلى سبيل المثال، يشرح القديس يوحنا الصليب لبناته الروحيات الكرمليات أن اللغة الوحيدة التي يتكلمها الله هي “الحب الصامت”. ويذكر “الملفان الصوفي” أن حياة الحب الإلهي مغمورة بالصمت وأنه، لكي نلج في الجو الإلهي، لا بد لنا أن نتنفس هذا الصمت: “لقد قال الآب كلمة واحدة: الابن. كلمةً قالها في صمت أزلي وفي هذا الصمت يجب على النفس أن تتلقاها”.

كابنة مستحقة للمعلم الصوفي، تشرح القديسة تريز الطفل يسوع بتولية النفس لإختها سيلين بهذا الشكل: “البتولية هي صمت عميق لكل اهتمامات النفس، ليس فقط الاهتمامات السطحية، بل كل الاهتمامات… لكي نكون عذارى، يجب ألا نفكر بشيء آخر إلا بعريس نفوسنا”.

الإشارة إلى العريس هي ذات دلالة كبرى. فهي تبيّن أن الصمت والحياة الباطنية ليسا نوعًا من الانطواء على الذات، بل هما لقاء وتوق دائم إلى اللقاء بالحبيب. نحن في صدد وحدة وليس وحشة. هي وحدة خصبة. غرفتنا الباطنية تنفتح على السماء. توقنا ينفتح على توق الله إلينا. عطشنا هو صدى عطش الله.

الصمت هو في آن جو بتولي وموضع لقاء حب. هو واقع يعيشه من التقى بالحبيب، بالكلمة الإلهي الذي يردد صداه في صمت النفس. إتّي هيلسوم هي شاهدة كبيرة لهذا اللقاء. هيلسوم تشرح اكتشافها للغرفة الباطنية حيث تخبر عن انتقالها من القلق والاضطراب اللذين كانت تعيشهما عندما كانت تجلس وحدها وعن التطور الذي عاشته عندما بدأت الحديث عن “وحدة كبيرة وخصبة” تحملها معها في كل مكان، وحدة يملأها حضور الله.

وتعترف إتي هيلسوم: “الآن أحمل معي هذه ’الغرفة الداخلية‘ وألجأ إليها في كل آن، عندما أكون في الباص أو عندما أسير في ضجيج المدينة”. يمكننا أن نلخص موهبة إتي هيلسوم الروحية باكتشاف “الملكوت الداخلي”، هذا الملكوت حيث يقيم الحبيب.

فتات الوقت

عندما يبدأ الإنسان بالانتباه للغرفة الباطنية، يبدأ بالانتباه أيضًا إلى الوقت. فكم من الوقت نهدر يوميًا ظانين أن لدينا الكثير منه. بالواقع، كل يوم لدينا فقط 86400 ثانية. وعندما نهدرها لا تعود أبدًا. الزمن هو حياتنا بالذات، هو “العملة” التي نشتري بها خلاصنا وتقديسنا. في روكابورينا، موضع رأس القديسة ريتا العجائبية، هناك ساعة شمسية تحمل كتابة تدفع إلى التفكير: “يا بني احفظ الوقت. فما من شيء أثمن من الوقت. قيمة الوقت هي من قيمة الله!”.

قد نتشكك من هذا القول، فما معنى أن نقول أن قيمة الوقت هي قيمة الله؟ أليس هذا تجديفًا؟ ولكن إذا فتحنا الكتاب نقرأ أمرًا مماثلاً في سفر ابن سيراخ بحسب ترجمة الفولغاتا اللاتينية (راجع سير 4، 23). ما يقوله المؤلف الملهم هو أ الزمان هو الفسحة التي يمكننا من خلالها أن نلتقي بالله أن نرضي الله وبالتالي أن “نربح” الله.

الله لا يتباخل بذاته على الإنسان، ولكن الحياة مع الله ليست أمرًا يُعطى وحسب، بل هو أمر يتطلب من الإنسان تحولاً وتقديسًا، لا بل يتحدث الآباء الشرقيون عن “تأليه” (theosis). فالحياة الإلهية ليست رداءً خارجيًا بل هي تحول باطني في أعمق أعماقنا ولا تتم إلا بمساهمتها وبقبولنا لولوج الأبدي في زمننا.

هذا ويحذر الأسقف الأرثوذكسي أنطوني بلوم من مشكلة هدر الوقت التي نعيشها في زمننا فيقول أنه لو جمعنا شذرات الوقت التي نهدرها يوميًا لتفاجأنا بكمية الوقت الذي بحوزتنا دون أن نعي ذلك. ويحثنا بلوم على استعمال هذا الوقت للصلاة: “لو فكرتم بعدد الدقائق الفارغة التي نسعى كل يوم لملئها بأي شيء خوفًا من الفراغ، سنفهم أن هذه الدقائق – التي هي كثيرة – يمكن أن تكون في آن  وقتًا لنا ووقتًا لله”.

الوقت هام وقد نظن أن لدينا المتسع منه ولكن في كل ثانية لدينا ثانية واحدة وإذا أضعنا هذه الثانية فقد أضعناها للآبد. كل ثانية تموت ثانية إلا إذا ملأناها بالأبدية.

حياتي لحظة عابرة

في رواية “الأحمق” لدوستويفسكي هناك صفحة جميلة جدًا بشأن قيمة الزمان. ففي الجزء الأول من الرواية يتحدث الأمير ميشكن عن رجل حُكم عليه بالإعدام بسبب تهمة سياسية. وبعد أن اقتيد إلى موضع تنفيذ الحكم، تُلي أمام نص الحكم وبعد نحو 20 دقيقة، قبل أن يتم تنفيذ الحكم بثوانٍ قليلة، وصل الصفح وتم إلغاء الحكم. يُخبر دوستويفسكي ما مر في ذهن السجين في تلك الدقائق القليلة. يجدر الذكر أن القصة التي يتلوها دوستويفسكي هي بالواقع قصة حقيقية والشخص الذي عاشها هو دوستويفسكي عينه عندما كان شابًا وتلقى حكمًا بالاعدام ولكنه نال العفو العام، مع من شارك معه بالمغامرة السياسية، قبل ثوانٍ من تنفيذ الحكم. يكتب دوستويفسكي:

“بقي لديه خمس دقائق فقط ليعيش. وقال أن هذه الدقائق الخمس بدت له لامتناهية، بدت لها وكأنها كنز لا يفنى؛ شعر وكأنه كان سيعيش في تلك الدقائق الخمس حيوات كثيرة، وأنه لم يكن لائقًا أن يفكر باللحظة الأخيرة، لهذا أخذ القرارات التالية: قدّر الوقت اللازم لكي يودع كل أصدقائه، وكرس لهذا الأمر دقيقتين؛ ثم خصص دقيقتين لذاته، وفي الدقيقة الأخيرة قرر أن ينظر حوله للمرة الأخيرة… وصرح أن ما من فكرة كانت أثقل عليه من هذه: ’لو لم أكن مزمعًا لأن أموت! لو كان بإمكاني أن أعود أدراجي في حياتي، يا للوقت اللامتناهي! وكل ذلك الوقت كان خاصتي. لكنت حولت كل دقيقة إلى قرنٍ كامل، ولم أكن لأضيع ولا حتى ثانية واحدة، لكنت حافظت على كل دقيقة دون أن أضيّع واحدة منها!”.

اليوم لديك أكثر من خمس دقائق. لديك بالتحديد، مثلك مثلي ومثل كل إنسان 1440 دقيقة، بمعنى آخر لدي ولديك 288 مرة الوقت الذي كان متثنيًا لذلك المعدوم إلى الإعدام، لا تعدم وقتك، بل  اجمع فتات الوقت ولا تضيع منه شيئًا فقيمة الوقت من قيمة الله!

لا أعرف كيف أصلي!

أن يقول المرء: “لا أعرف كيف أصلي” أو “لا قرابة بيني وبين الصلاة”، لهي مقولة غير مقبولةٍ لاهوتيًا. فالمجمع الفاتيكاني الثاني يلخص مفهوم الإنسان بحسب الإيمان المسيحي بهذا الشكل: “إن الدعوة الأخيرة للإنسان إنها هي واحدة: الدعوة للحياة الإلهية”. هذا يعني أن كل إنسانٍ خُلق لكي يتحد بالله. وهذا الاتحاد يبدأ على هذه الأرض من خلال المحبة الأصيلة والفاعلة.

هذا ويعلّم الآباء الروحيون أن كل إنسانٍ بلا استثناء تلقى من الله “عضوًا” هو موضع الصلاة في كيانه. هذا العضو هو القلب (في مفهومه الروحي وليس البيولوجي). وجُلّ ما يجب أن نفعله هو أن ندوزن واقعنا وحياتنا ومشاعرنا مع هذا العضو الغارق في كيان الله.

الصلاة ليست أولاً مجموعة من الأفكار الجميلة والعميقة، بل هي – بحسب ما يعلّم توماس مرتون – “رجوعٌ إلى القلب، وإيجادٌ للمحور الروحي الأعمق، وإيقاظ لكياننا القائم دومًا في حضرة الله الذي هو منبع حياتنا الحقيقي”. إن الأفكار والمشاعر وما رافقها ما هي إلا وسائل لكي نصل إلى قلبنا حيث يقطن الله، إلى قلبنا الغارق دومًا في صلاةٍ تبدأ صلاتنا عندما نتيقن لها!

كيف يمكنني أن أكتشف حالة الصلاة هذه؟

يكفي أن أتيقظ للتوق المطلق والذي لا يتعب الكامن في قلبي نحو معنى لحياتي، أو نحو سعادة متنامية، أو نحو ما لا أعرف بعد أن أعطيه اسمًا ولكنه حاضر وحيّ فيّ.

يعلمنا الإيمان أن هذا المعنى وهذا الفرح المجهول هما وجه الرب الذي يعرفني قبل أن أعرفه، والذي يحبني قبل أن أعرف ما هو الحب، والذي يبحث عني قبل أن أبدأ بالبحث عنه.

الحج نحو القلب هو الحج الأطول والأصعب. ولكنه أيضًا الحج الوحيد الضروري. منه لا نعود فقط بتذكارات وصور وعِبر، بل نعود منه وقد طُبع في كياننا ذكر الله، صورة المسيح والعبور الفصحي.

إن أي حجٍ ومسيرة في حياتنا تأخذ معناها إذا ما أدت إلى هذا الحج وإلى هذا اللقاء، اللقاء بين الحبيب وخليقته. فما يضفي على الحج الخارجي معناه، ليس تشقق الأرجل وانتفاخها، بل تشقق سجن الأنا وانفتاحه على الامتلاء بالرب.

إن مفارقة كياننا البشري هي أننا “نحمل دومًا في باطننا حالة الصلاة هذه، ككنز خفي لا نعيه ولا ندركه. نعاني من الصمم تجاه قلبنا الكائن في حالة صلاة، ونعاني من العمى لأننا لا نرى النور الذي نقطن فيه” (أندريه لوف).

أن نتعلم الصلاة يعني أن نسمح للروح القدس أن يضحي نشيد صمتنا ونَفَس نفسنا.

إن خيارات حياتنا تحملنا إلى نوع من انشقاق بين رغباتنا السطحية ورغبتنا الأعمق. هذه الأخيرة إلى التوق إلى الله والاقتداء به. في هذا الإطار يدعونا الكتاب المقدس إلى “ختان القلب” (راجع تث 10، 16) أي إلى محبة الرب من كل القلب، من كل النفس وبكل قوانا.

القلب هو الغرفة الباطنية التي ينظم فيها الرب الحب في كياننا (راجع نش 2، 4). قلبنا الأعمق يتحدث لغة الله ومسيرة الصلاة تتألف من تعلم لغة القلب. إن مختلف وسائل الصلاة لها غاية واحدة: الوصول إلى النقطة حيث تغوص النفس في كيان الله. ووسائل الصلاة الأصيلة لا تتيه في بحث خارجي عن طرق اصطناعية، بل غايتها هي واحدة، الانفتاح على صلاة الروح القدس فينا، التيقظ للروح الذي يصلي فينا بأنّات لا توصف (راجع روم 8).

الحضور للحاضر

“الله لا يصغي لمن لا يُصغي لذاته في الصلاة”. تعليم القديس غريغوريوس الكبير هذا يلقي الضوء على شرط أساسي للصلاة الحقة. لا بد لمن أراد أن يكون حاضرًا أمام الله أن يكون حاضرًا أمام نفسه. فما من شيء يخنق حياة الصلاة فينا أكثر من نفس تهرب من ذاتها.

إلا أنه من الأهمية بمكان أن ندرك بأن الغاية من الصلاة ليست الوقوف بحضرة الذات، بل الوقوف بحضرة الله.

غاية الصلاة ليست نفسية بل لاهوتية.

الحياة الروحية، والصلاة بشكل خاص، ليست جهدًا لتحسين الذات النفسية، بل هي جهاد لانفتاح النفس على الله.

يوضح اللاهوتي والأسقف الأرثوذكسي أنثوني بلوم أن الحياة الروحية ليست رحلة نحو الذات، بل رحلة عبر الذات نحو الله.

نلج داخليتنا لا لكي نغرق بها، بل لكي نجد في أعماقنا من يُقيم في أعمق أعماقنا، إلهنا وربنا.

يذكرنا القديس يوحنا فم الذهب أن “من يجد باب قلبه، يجب باب ملكوت الله”.

لا يجب أن نملّ أن نُذكر بهذا التمايز الذي يضع بُعد الولوج إلى الذات في إطاره اللاهوتي، وما وراء البُعد النفسي. فالمصلي المسيحي، لا يصلي لكي يشعر بأنه أفضل. المسيحي يصلي لكي يلتقي بالمحبوب. أصلي لأني أحب، لأني أحبّ الله. أو، بالحري، لأني قبلت حب الله في قلبي من خلال الروح القدس الذي أُفيض فيّ (راجع روم 5، 5).

تصف القديسة تريز الآفيلية طبيعة حضور الله في الصلاة بأوصاف الصداقة والحب المتبادل. ففي نص شهير من سيرتها الذاتية تتحدث عن الصلاة قائلة: “بالنسبة لي الصلاة ليست إلا علاقة صداقة، هي لقاء متواتر مع من نعرف أنه يحبنا”.

الله بين الطناجر!

في حديثنا عن الصلاة كحضور للحاضر، لا بد أن نذكر شخصية مميزة من القرن السابع عشر. نحن بصدد الأخ الكرملي نيكولاس هرمان المعروف باسم الأخ لورنس للقيامة. كان هذا الأخ راهبًا بسيطًا وغير مثقف وقد قضى حياته الرهبانية في خدمة مطبخ ديره في باريس.

يشهد الذين عاشوا معه أن حتى مظهر الأخ لورنس كان مدعاة تقوى، لدرجة أن النظر إليه كان يحث على الصلاة. وكان يحافظ في كل ما يقوم به حالة حضور أمام الله كان وجهه ينضح بها.

في الرسائل القليلة التي وردتنا منه يعترف الأخ لورنس بأنه “في ضجيج وزحمة المطبخ، في وسط عدد كبير من الأشخاص يطلبون الانتباه والخدمات المختلفة، أحافظ على حضور الله بهدوء كبير، كما لو كنت راكعًا أمام القربان المقدس”.

ويوضح أن “الأوقات المحددة للصلاة لم تكن مختلفة عن الأوقات الأخرى”، بل كانت امتدادًا طبيعيًا ومكثفًا لحضور الله في الحياة العادية. بل يضيف أنه يعيش الاتحاد بالله بشكل أعمق في وسط مشاغله اليومية منه خلال أوقات الاستجماع والممارسات التقوية.

هذا ويعتبر لورنس أن هناك وهم كبير ومتفشٍ وهو أن يعتبر الأشخاص أوقات الصلاة كأوقات مختلفة عن الأوقات الأخرى. بالنسبة له، أوقات الصلاة هي أوقات تدريب يتمرس الإنسان فيها على العيش في حضرة الله بشكل مستمر. السر يكمن في أن يعيش الإنسان دومًا في حضرة الله من خلال التعرف على حضوره في مختلف الخبرات العادية واليومية. ولذا فتعريفه للصلاة هو ببساطة “حس بحضور الله”.

في إطار آخر يعلمنا القديس أغسطينوس أهمية العيش في حضرة الله من خلال دعوتنا إلى العناية باستعدادنا الداخلي إذ يقول:

“صلوا بلا انقطاع، هناك من يصغي إليكم: ومن يصغي إليكم هو في باطنكم. لا يجب أن ترفعوا عيونكم إلى جبل ما، لا يجب أن ترفعوا عيونكم إلى النجوم، الشمس والقمر. لا تظنوا أن هناك من يصغي إليكم إذا ما صليتم نحو البحر. يجب أن تتجنبوا صلوات من هذا النوع. طهّر غرفتك الداخلية، فحيث تصلي هناك من يقيم في حميميتك ويسمعك… مَن يُصغي إليك هو في باطنك. لا تذهب بعيدًا، لا تترفع وكأنك ستصل إليه بيدٍ مرفوعة. بقدر ما ترتفع، أنت في خطر السقوط. حافظ على التواضع، فبالتواضع تقترب إليه”.

سر أمامي وكن كاملاً

إذا ما نظرنا إلى مسيرة إبراهيم من مُنطلق الصلاة، لوجدنا الكثير من التعاليم في موضوع الصلاة. فالحوار مع الله وبشكل خاص الإصغاء لكلام الرب والطاعة له كان محوريًا في وجود إبراهيم. ولكننا نود أن نركز انتباهنا في هذه المقالة على آية صغيرة تتضمن دعوة خاصة ومكثفة يوجهها الله إلى إبراهيم: “سر أمامي وكن كاملاً” (تك 17، 1). في هذه العبارة يمكننا أن نلخص جوهر حياة الصلاة، ليس فقط في وجود إبراهيم، بل أيضًا في وجودنا نحن.

في الدعوة توصيتان يوجههما الرب ولكنهما بالواقع تعنيان الأمر عينه، وبعكس مختلف التوصيات التي يعطيها الله للآباء في حالات معينة ومؤقتة، هذه التوصية تطال الحياة بأسرها. التوصية تعني حياةً معاشة على ضوء النعمة واتباع لله في كل خطوة.

هذا وإن التوالي بين التوصيتين له معناه العميق. فأول ما يقوله الرب لإبراهيم هو المسير أمامه. الترجمة الحرفية للنص العبراني هي: “سر أمام وجهي”. ولو كان ممكنًا أن نصوغ الأمر بالعربية لكان يجب صوغه بهذا الشكل: “سيّر نفسك أمامي!”. فالإنسان يجب أن يكون حاضرًا وجهًا لوجه أمام الله في مسيرة الكمال والصلاة هذه.

دعوة الله لإبراهيم بأن يسير أمام وجه تعني أمرًا آخر: تعني أن الله حاضر لإبراهيم وأن مسيرة إبراهيم ليست مسيرة فردانية تذهب نحو الله، بل هي قبول لمن يأتي للقائه لكي يسير معه.

يجيب الله في هذا على تذمر إبراهيم بشأن غياب الله وتناسيه لوعوده (راجع تك 15، 2). فبالرغم من غياب الله الظاهر الذي يبدو وكأنه غياب دام 13 سنة، في الواقع الله كان حاضرًا وفاعلاً في وجود إبراهيم.

يستطيع الإنسان أن يسير أمام الله لأن الله يتوجه إليه أولاً. الله حاضر، ولذا نحن نستطيع أن نكون حاضرين له ومعه. نستطيع أن نقول لله “أنت”، لأنه وهبنا “أناه” حبًا. عندما نذهب للتفتيش على الله نتفاجئ بأن الله حاضر أمامنا.

هذا القسم الأول من توصية الله لإبراهيم يبين لنا أن الحياة الروحية ليست أولاً إجابة وعيشًا لسلسلة من القواعد والوصايا، بل هي لقاء. ومن هذا اللقاء ينبع كل شيء. وسنتأمل في المرة المقبلة بالقسم الثاني من هذه التوصية.

الصلاة وتحوّل الوجود

هناك كلمات قديمة وحديثة كثيرة تُستعمل لوصف الصلاة. فالآباء اليونان كانوا يتحدثون عن الـ ” katastasis ” بينما يتحدث المعاصرون، مثل توماس مرتون عن ” centering “. أما الرسالة الكامنة فتبقى هي هي: لكي نصلي حقًا يجب أن نعيش في الحق (راجع يو 3، 21؛ 1 يو 1، 6)، أن نتخلى عن الرياء، أن نُصلح حياتنا. هناك، بكلمات أخرى، ترابط وثيق بين العيش في حضرة الله القدوس وبين عيش حياة قداسة.

هناك ترابط وثيق بين الحياة الروحية والحياة الأخلاقية. هذا الترابط هو العلاقة الوثيقة بين الحب والأمانة. فالحب يرفعنا ويُقربنا من الله.

هذا ولا يُمكن أن نقول أن الصلاة الحقة تُبعدنا عن الحياة والواجبات اليومية. فالصلاة الحقة تجعلنا متواصلين أكثر مع واجباتنا اليومية ومع علاقاتنا ومهماتنا. من يُصلي حقًا يُظهر ذلك في حياة متجددة وفي سعي دؤوب إلى الكمال الإنجيلي.

الصلاة تُبدّل وتجدد حياتنا، ليس فقط الحياة الداخلية، بل أيضًا الحياة الخارجية. فقيمة علاقتنا بالله ونوعيتها تتجلى في التحول النوعي في حياتنا مع البشر.

حياة الصلاة تدفعنا لكي ننظر إلى الوقائع من وجهة نظر مميزة، من العلو. ويسرني في هذا الإطار أن أنقل صورة مؤثرة من حياة متصوفة تميزت حياتها بأنها عاشت 50 سنة فقط على المناولة الافخارستية. نحن في شاتونوف، في فرنسا، وهذه تفاصيل حوار جرى بين المتصوفة مارت روبان (Marthe Robin) والأب جورج فينه، الذي جاء من باب الفضول لكي يتعرف على المتصوفة فتم اللقاء الذي بدّل حياته. إليكم الحوار كما نقله الأب فينه بعد سنوات عديدة إلى الفيلسوف جان غيتون.

مارت: أبت، قال لي الرب أن أقول لك شيئًا: يجب أن تأتي إلى شاتونوف لكي تُطلق “بيت المحبة” الأول.

الأب فينه، وقد انتابه عجب كبير: ولكني لست من هذه الأبرشية!

– وما يهمّ إذا كان الرب يريد ذلك؟

– طبعًا، أعتذر. لم أفكر بذلك. وماذا يجب أن أفعل؟

– الكثير من الأمور. بشكل خاص الرياضات الروحية.

– ولكني لا أعرف كيف أقوم بذلك.

– ستتعلم.

– رياضات من 3 أيام.

– كلا. بما أننا لا نستطيع أن النفس لا تتبدل في 3 أيام. الرب يطلب 5.

– وماذا أفعل في هذه الأيام الخمسة؟ نقاشات؟ مشاركات؟

– كلا… صمت كامل!

– صمت كامل؟! لا يمكنني أن أطلب صمتًا من هذا النوع من الفتيان والنساء.

– الرب يطلبه لا أنت!

– وكيف سنُعلن عن هذه الرياضات؟

– لا يجب أن تفعل شيئًا. الرب سيقود المريّضين!

ما يؤثر في هذا الحوار هو البعدان اللذات يبدوان متفارقان: البعد الإلهي والبعد البشري. البعد البشري ينطلق من منطق البشر، البعد الإلهي يرتكز على إرادة الرب الذي ما من مستحيل لديه (راجع لو 1، 37).

وهذا هو دور الصلاة. أن تفتح عيوننا على مستحيل الله الذي يضحي ممكنًا! سننظر في القسم التالي من المقالة إلى بعض “الإصلاحات” الوجودية الملموسة التي تساعدنا لكي نُعد قلوبنا، مثلما أعد يوحنا المعمدان الشعب، للقاء الرب الآتي.

 

الصلاة وإصلاح الحياة

كما سبق وقلنا، حياة الصلاة مرتبطة بشكل وثيق بالحياة الأخلاقية. فهناك أنواع عدة من الإلحاد، منها الإلحاد العملي، الذي هو إلحاد يصيب المؤمن أيضًا ويؤدي إلى نوع من اللامبالاة العملية بحضور الله بالرغم من الإيمان بوجوده. هذا الإلحاد هو يقين فكري بوجود الله ممزوج بتصرف وكأن الله ليس موجود. وبما أن خبرة الله ليست مجرد خبرة فكرية أو عاطفية، بل خبرة وجودة متكاملة، يجب على المؤمن أن يجهد ليكون مسلكه وليس فقط فكرة مؤمنًا.

فالكتاب المقدس يذكرنا بأن فقط من يحب، يعرف الله (راجع 1 يو 4، 8)، وتطويبة يسوع تذكرنا بأن “أنقياء القلوب يرون الله” (راجع مت 5، 8).

هذا وقد لخص الأب ليهودي أبعاد الطهارة المتعلقة بالحياة الروحية في أربعة: طهارة الضمير، طهارة القلب، طهارة الفكر وطهارة الإرادة.

طهارة الضمير هي تصفية الضمير لعيش حس الله والقداسة. هي الالتزام بتحاشي الخطيئة، ليس فقط الخطيئة المميتة، ولكن أيضًا الخطايا العرضية. هي تطهير للنوايا والأفعال.

طهارة القلب هي أن يكون قلبنا طاهرًا عندما نحب الله فقط وبحسب الله.

طهارة الفكر هي تربية فكرنا من الأفكار والمخيلات السلبية غير المناسبة. هي ألا نعيش الغد كهم، رغم اهتمامنا وأن نعنى بما يخصنا بشكل مباشر وألا نسترسل في الفضول.

وأخيرًا، طهارة الإرداة نصل إليها عندما تضحي إرادتنا مطابقة لإرادة الرب، عندما نتوق إلى إرادة الرب أكثر من أي شيء، عندما نرفع إلى الرب لا ثمر شفاهنا فقط بل كل حياتنا.

ويلخص الأب فيتالي ليهودي هذه الأبعاد الأربعة بهذا الشكل: “طهارة الضمير تجذب الله إلينا. طهارة الفكر تساعدنا في التركيز واستجماع ذواتنا، طهارة القلب هي باب التقوى، طهارة الإرادة تجعلنا نقوم بخيارات صائبة”.

الصلاة المتواصلة

من يسمح لنعمة الله أن تعمل في حياته يعيش تطهيرًا متواصلاً يجعله أكثر فأكثر “كمثال” الله (راجع تك 1 ، 26 – 27). وهذا التقارب الوجودي هو المعنى الأعمق والغاية السميا للصلاة المتواصلة التي يتحدث عنها الرب يسوع والقديس بولس (راجع لو 18، 1؛ 1 تسا 5، 17).

الصلاة المتواصلة ليست تكرارًا بلا انقطاع لصلوات محفوظة غيبًا، بل هي قلب منفتح دومًا على عمل الله، قلب نبيه، صادق يجتاحه شوق الاتحاد. الصلاة المتواصلة هي قلب يناجي الله دومًا من خلال صوت الروح في القلب.

الصلاة المتواصلة هي عندما يتوصل الإنسان إلى عيش الصلاة ليس فقط كفعل، بل كحالة وجودية.

يخبرنا القديس أغسطينوس عن هذه الصلاة بالقول: “إذا كان توقك بلا انقطاعك، فبلا انقطاع أيضًا صلاتك”.

ويشرح القديس إسحق السرياني أن هذه الصلاة الجوهرية والمتواصلة هي “النقطة الأسمى في كل جهاد تقشفي”. ويوضح أنه عندما يلج الروح في قلب إنسان، هذا الإنسان لا يعود يتوقف عن الصلاة، لأن الروح يصلي فيه بلا انقطاع.

الصلاة الحقة لا تنتهي عندما ننتهي من تلاوة الصلوات. فاللقاء بالحبيب في أوقات الصلاة “الرسمية” ليس بمثابة واجب نتممه وننتهي منه، بل هو وقفة لتعميق الحضور ولإزكاء نار الشوق الإلهي.

دعوتنا لا تقتصر على الإصغاء لدعوة الله، للعيش في مكان أو حالة ما. دعوتنا الأعمق هي أن نقيم في كيان الله، أن نعيش حياة الله. دعوتنا هي “التأليه” (Theōsis) كما يردد آباء الكنيسة الشرقية. وتأليهنا يتم من خلال الحوار القلبي الصادق مع المحبوب الذي لا يتوقف فقط على الحوار بل يضحي حياةً. لذا، ومع انتهاء سلسلة “حدثني عن الصلاة”، سننظر قريبًا، بعون الرب، في البعد العملي الذي ينبع من هذا البعد، بُعد المحبة المتجسدة .

وكالة زينيت