stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

الكنيسة الكاثوليكية بمصركنيسة السريان الكاثوليك

رسالة الميلاد 2020 لبطريرك السريان الكاثوليك اغناطيوس يوسف الثالث يونان

802views

نقلا عن موقع أبونا 

نشر الخميس، ٢٤ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٠

كتب : فتحي ميلاد – المكتب الأعلامي الكاثوليكي بمصر .

بعنوان : « رجاءُ الكونِ وافانا »

أبونا :

1. مقدّمة

مع بداية رسالتنا الميلادية، يطيب لنا أن نتقدّم بأحرّ التهاني مع الأدعية الأبوية، بمناسبة عيد ميلاد ربّنا يسوع المسيح بالجسد وحلول العام الجديد 2021، إلى جميع إخوتنا رؤساء الأساقفة والأساقفة الأجلاء آباء السينودس المقدس لكنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية، وأولادنا الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات، وأبنائنا وبناتنا المؤمنين، في لبنان وسوريا والعراق والأراضي المقدّسة والأردن ومصر وتركيا وأوروبا والأميركتين وأستراليا.

وإلى الطفل الإلهي الذي منحنا الرجاء بميلاده العجيب من البتول في مذود بيت لحم، نبتهل كي يفيض علينا وعلى العالم بأسره غنى مواهبه وعطاياه وبركاته، ويخلّصنا من الأمراض والأوبئة والأخطار. فينعم الجميع بعامٍ جديدٍ ملؤه العافية نفساً وجسداً، والسلام والأمان والطمأنينة والاستقرار، ونعيش بالفرح الروحي والوحدة والمحبّة والألفة.

2. تأنُّس كلمة الله يهبنا الحياة الجديدة

“إلهُنا الذي انتظرناه وافانا وهو يخلّصنا. الربُّ الذي انتظرناه قد أتانا، فلنبتهج ونفرح بخلاصه” (أش 25: 9).

إنَّ الله لا ينسى شعبه، وهذا التأكيد تحقّق بتأنُّس المسيح بيننا. فبينما تُدمَّر الحياة تحت وطأة الخطيئة، يحافظ الله على وعده بالخلاص حيّاً، ويرسل لنا ابنه الكلمة الأزلي يسوع، لأنه “هو الذي يخلّص شعبه من خطاياهم” (مت 1: 21). فيأتي للقائنا، ويبقى معنا، فهو “عمانوئيل أي الله معنا” (مت 1: 23). لقد أصبح الله إنساناً ليصير الإنسان إلهاً، بتبادُلٍ عجيبٍ لا يدركه عقلنا البشري، بل نلمسه من خلال إيماننا. وها هو مار أفرام السرياني، ملفان الكنيسة الجامعة، يشير إلى هذا التبادل، فيقول: “المجد لذلك الذي أخذ منّا لكي يهبَنا، حتّى بواسطة الذي لنا نأخذ ممّا له بوفرة” (مار أفرام السرياني، ميمر عن الرب، 10).

في سرّ التجسُّد يُظهِر الله أمانته ويفتتح ملكوتاً جديداً يمنح رجاءً جديداً للبشرية، وما هذا الرجاء إلا حياة جديدة مع الله. فعلى يده الأبوية نجد حياتنا مجدَّدةً ومنطلقةً نحو المستقبل، ومُفعمَةً بالحبّ الذي وحده يمكنه أن يحقّقه. لقد “نَقَشَنا على كفَّيه” (را. أش 49: 16)، وهو يسمع صلواتنا ويستجيب طلبات شعبه، لذلك “لمّا تمَّ ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً لامرأة” (غلا 4: 4)، وهو المخلّص، المسيح الربّ الذي وُلِدَ في مدينة داود (را. لو 2: 11).

3. الله يتمّم وعده بالخلاص

يزخر الكتاب المقدس بعرض تاريخ الخلاص من خلال سلسلةٍ من “الانتظارات”، يَعِدُ الربُّ بها شعبه أو أحد المختارين. فالله أخذ المبادرة بالعهد، وهو يظلّ حاضراً خلال اعتلان قصده، إلا أنّه كثيراً ما يتدخّل في حياة شعبه، بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة، ليخلّصه. إنّ نظرة الربّ هذه، وتلك التدخّلات الشخصية الظاهرة، هي علاماتٌ فاعلةٌ لحضوره في العالم لتحقيق تدبيره الخلاصي وغاياته.

“الله يتذكّر” دائماً، ولا ينسى أحداً مِنَ الذين خلقهم، هو دوماً معنا، لدرجة أنّه غالباً ما يقرع باب قلبنا. فهو أبٌ، كثير الرحمة والرأفة، وهو القائل: “لن أترككَ أبداً” (عب 13: 5).

مثل الأمّ، حَمَلَ الله البشرية، وخاصّةً الشعب المختار، في حنايا قلبه وحضنه وسريرته الحميمة. لقد ولدَها في الألم، وغذّاها وعزَّاها (را. أش 42: 14، 46: 3-4). وكما أنّ هناك علاقة خاصّة بين الأمّ وطفلها، كذلك هناك حبّ خاص ومجاني يربط بين الله وشعبه. في هذه العلاقة لا يطلب الله سوى القلب: “يا بُنَيّ، أعطِني قلبك” (أمثال 23: 26)، ولا تكُن كَمَن “يتقرَّب إليه بفمه ويكرمه بشفتيه، أمَّا قلبه فبعيد منه” (را. أش 29: 13).

إنّ “الله سيفتقدكم ويُصعدكم من هذه الأرض إلى الأرض التي أقسَمَ عليها لإبراهيم وإسحق ويعقوب” (تك 50: 24). فالله الذي دعا إبراهيم ليجعل منه أباً لأممٍ كثيرةٍ، والذي لهذا الغرض “افتقد” سارة وأعطاها أن تكون خصبةً (تك 21: 1-2)، كما “افتقد” راحيل، فحملت وولدت يوسف (تك 30: 22-24)، يتدخّل بطريقةٍ مميّزةٍ، مع موسى، ليخلّص شعبه من مصر. فكلّ شخصٍ هو موضع رعايةٍ خاصّةٍ وشخصيةٍ من الله. وعلى هذا الرجاء سيعيش الشعب: “في وقت افتقادهم يتلألأ الصدّيقون… ويملك ربّهم إلى الأبد” (حك 3: 7-8، سيراخ 2: 14). وسوف يحقّق مجيءُ يسوع وبشارتُه بالملكوت هذا الإفتقادَ الإلهي الموعود والمنتظَر.

4. انتظار زكريا واستعداد مريم

في العهد الجديد، تابَعَ الله تحقيق وعوده الخلاصية، إذ يخبرنا لوقا البشير في إنجيله كيف افتقد الله زكريا وأليصابات أولاً، إذ بشّر الملاك زكريا الكاهن معلناً له إنَّ الله سَمِعَ دعاءه، لذلك ستلد له امرأته ابناً يُدعى يوحنّا (را. لو 1: 13). لقد أحيا الله الواقع الذي يعيش فيه زكريا وامرأته، ودعاه ليدخل معه بعلاقة شخصية متينة مبنيّة على الإيمان والثقة به بأنّه لا يمكن أن ينكث بالوعد مهما طال الزمن. فالله يحوّل واقعنا من واقع يأسٍ وموتٍ إلى واقع حياةٍ ورجاءٍ، وبالرغم من الظروف الحالكة التي تحيط بنا من الأمراض والأوبئة والأوضاع الصعبة، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، إلا أنّ “الله قادرٌ على إعطاء رَحمِنا الروحي جنين قداسة، وعلى تحويل شيخوختنا من حالة تعبٍ تسبق الموت إلى حالة رجاءٍ لنا وللآخرين”، كما يقول أحد الآباء القدّيسين. الدعوة لنا اليوم لنثق بالله وبعمله في حياتنا، فيعلم الجميع من خلال شهادة حياتنا وأمانتنا أنّ الله حاضرٌ ولا يزال يعمل وسيبقى يعمل إلى منتهى الدهر بقوّة نعمته.

لم يتوقّف عمل الله في العهد الجديد عند زكريا وأليصابات، لأنّ الوعد بالخلاص لم يتحقّق بعد. فالعطيّة الأكمل، “الكلمة الأزلي” قد حان موعد سكناه بين شعبه. وهنا تمّت أعظم أعجوبة في التاريخ: “الله صار بشراً وحلَّ بيننا” (يو 1: 14). ففي “الشهر السادس أرسل الله الـملاك جبرائيل إلى مدينةٍ في الجليل اسمها الناصرة، إلى عذراء اسمها مريم” (لو 1: 26-27). لقد نالت مريم “حظوةً عند الله” (لو 1: 30) بأن تحمل وتلد “ابن الله” يسوع المخلّص. فبيسوع “نصر الله عبده إسرائيل ذاكراً، كما قال لآبائنا، رحمته لإبراهيم ونسله للأبد” (لو 1: 54-55). وفي يسوع تحقَّق وعدُ الحبّ والخلاص الذي أرسله الله كي لا نهلك، بل نعيش في حضرته دائماً. صار الله جسداً في يسوع الذي وُلِدَ من مريم. وعلى مثال مريم، علينا دوماً أن نضع أنفسنا في موقف المستعدّ والقلب المنفتح على الله قائلين: “يا ربّ، ما تريد، ومتى تريد، وكيفما تريد”. فالقلب يبقى منفتحاً على مشيئة الله، والله يجيب دائماً.

5. زمن الميلاد، دعوة متواصلة إلى الرجاء

“إنّ إلهنا هو الإله الآتي، وقد يجعلنا ننتظر بعض الوقت حتى يُنضِجَ رجاءَنا، لكنّه لا يخيّب انتظارنا ولا يخذلنا. لقد جاء في وقتٍ محدَّدٍ من التاريخ وصار إنساناً آخذاً صورة عبد. فعيد الميلاد يحتفل بذكرى أوّل مجيء ليسوع في اللحظة التاريخية” (من كلمة قداسة البابا فرنسيس خلال صلاة التبشير الملائكي، الأحد 29/11/2020).

إنّ هذا الزمن الذي نعيشه هو دعوة متواصلة إلى الرجاء: فهو يذكّرنا بأنّ الله حاضرٌ في التاريخ كي يسير به إلى ملئه، الذي هو الربّ يسوع المسيح. إنَّ ميلاد يسوع هو تذكير برجائنا. هذه هي الرسالة التي أُعطِيَت للرعاة على لسان الملاك: “وُلِدَ لكم اليوم مخلّصٌ في مدينة داود، وهو الـمسيح الرب” (لو 2: 11). هؤلاء الرعاة يمثّلون المتواضعين والفقراء الذين كانوا ينتظرون المسيح، “الفرج لإسرائيل” (لو 2: 25) و”افتداء أورشليم” (لو 2: 38).

رأى الرعاة في ذاك الطفل الإلهي الذي ولدَتْه البتول عجباً تحقيقَ الوعود، ورَجَوْا أن يبلغ خلاص الله كلّ واحد منهم. فلنتذكّر دوماً أنّ الضمانة الوحيدة التي ستخلّصنا هي الرجاء بالله وليست ضماناتنا البشرية. فبالرجاء نسير في الحياة بفرح. “أمّا الصغار، كالرعاة، فيثقون بالله ويرجونه ويفرحون عندما يرون في ذاك الطفل العلامة التي أشار إليها الملائكة” (من المقابلة العامّة لقداسة البابا فرنسيس، الأربعاء 21/12/2016). هذه رسالة الرجاء والخلاص لنا نحن البشر، يمنحنا إيّاه مولود بيت لحم. “تأمّلوا، أيّة أمّةٍ لها آلهة قريبة منها كما أنا قريبٌ منكم؟” (را. تث 4: 7). الله قريبٌ منّا، وهذه نعمةٌ نمتلكها، إذ يمنحنا الشجاعة في المحن والآلام، ويمدّ يده إلينا لينتشلنا في خضمّ عواصف الحياة، ويحرّرنا من الأخطار.

6. يسوع المسيح رجاؤنا الأزلي

إنّ يسوع المسيح هو “رجاؤنا” (1تيم 1: 1) وهو “الرجاء المبارك” (تيطس 2: 13)، والذي لا يخيّب البتّة. لم يأتِ يسوع ليجلب الرجاء فقط، بل وهبنا ذاته بكلّيتها. دعونا لا ننسى تسبحة الملائكة الذين هتفوا “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر” (لو 2: 14). بميلاده، أنعمَ الربّ يسوع علينا بسلامه ورجائه (رو 5: 1). إنّه يدعونا الآن كي نكون قدّيسين أمام الله، ليس لأيّ عملٍ فعلناه، ولكن بمقتضى رحمته وما حقّقه لنا من خلاص. غدَوْنا “جيلاً مختاراً، كهنوتاً ملوكياً، وأمّةً مقدّسة” (1بط 2: 9).

يتغنّى مار أفرام السرياني بهذا الرجاء إذ يقول: “إذ كان رجاء البشر قد اضمحلّ، فاض الرجاء بميلادك، فقد بشّر العلويون بني البشر بالرجاء الصالح. إنّ الشرير الذي حوّل رجاءنا إلى يأسٍ وقُنوطٍ، كان قد قطع رجاءه بيده، إذ عاين أنّ الرجاء قد عمّ. أضحى ميلادك ينبوعاً يفيض رجاءً لمن لا رجاء له، فمباركٌ رجاؤك الذي جلب البشارة” (من باعوث أي طلبة مار أفرام في صلاة الصباح للأيّام البسيطة في أسبوع ما بعد الميلاد في كتاب الفنقيث، أي المجلّد، وهو كتاب الصلوات لأيّام الآحاد والأعياد، الجزء الثاني، صفحة 577).

7. صدى العيد في عالمنا اليوم

نستقبل ميلاد المخلّص في هذا العام، كما في عيد الفصح وقيامة الرب في شهر نيسان المنصرم، وقد فُرِضَ علينا الحَجْرُ والتباعد الاجتماعي، والحذر الشديد مع القلق والخوف، بسبب الوباء الكوني المعروف بفيروس “كورونا”! ممّا يُلزِمُ المؤمنين على البقاء في منازلهم، وعدم التجمّعات، حتّى في إقامة الصلوات في الكنائس! إنّها دون شكّ نكبة لم يعرفها التاريخ منذ زمنٍ طويلٍ، وباءٌ كونيٌّ سبّب الأوجاع ونشر الموت والرعب، وضاعفَ الأزمات في العائلات والمجتمعات، وأطاح بالأمن الاقتصادي، في بلدانٍ عديدةٍ عبرَ القارات.

وما يؤلمنا بشكلٍ خاص أن تأتي الإجراءات غير المعهودة في أكثر من بلدٍ في الغرب المعروف بقيمه الأخلاقية والثقافية التي تأسّست على كرازة إنجيل الخلاص والسلام، تلك البلاد المدّعية بتطبيق الأنظمة الديمقراطية وباحترام الحرّيات الدينية. لقد فرَضتْ هذه الإجراءات، وبتساهُلٍ مستَغرَبٍ من قِبَلِ منظّمات المجتمع المدني والأحزاب، وحتّى بعض المسؤولين الكنسيين، قيوداً أشبه بتلك الصادرة عن أنظمةٍ استبداديةٍ، كإغلاق دور العبادة من كنائس وأديرة، أو أقلّه تحديد أعدادٍ ضئيلةٍ من المؤمنين، مع أنّ قواعد التباعد والتعقيم في الكنائس تُطبَّق بأفضل ما يكون!. إنّنا نشارك أبناءنا وبناتنا الذين أُرغِموا على الهجرة والإقامة في تلك البلاد، تأسُّفهم بل ألمهم بأن يُحرَموا من الذهاب للمشاركة في قداس عيد الميلاد، وهو من أهمّ الأزمنة المسيحية التي تجمع المسيحيين لتمجيد المولود الإلهي، ناشدين العزاء في غربتهم، والرجاء في معاناتهم، والبهجة الروحية والسلام.

وفي شرقنا المعذَّب الذي يرجو في زمن الميلاد أن يُنعِم عليه مولودُ بيتَ لحمَ الإلهي، بنعمةِ النجاة من النزاعات والأزمات المتكرّرة الدامية، وبإحلال العدالة والأمن لجميع المواطنين، نحن مدعوون جميعاً أن نجدّد ثقتنا اللامحدودة بالمولود من العذراء مريم ميلاداً عجائبياً: “البتول وَلَدتْ عَجَباً”، هو المخلِّص المنتظَر، أمير السلام، القادر وحده على تنقية القلوب من الأنانية والتسلّط، فيجمع قلوب الأفراد والجماعات لما فيه خير أوطانهم.

لبنان، هذا البلد الفريد الذي كان يُحسَد لجماله وإشعاعه الثقافي ورسالته، يمرّ منذ عامين بأحلك مراحله، ممّا يهدّد وجوده وكيانه: خلافات سياسية مُغرِضة، وأزمات معيشية خانقة، وباء كورونا، والتفجير المروِّع في مرفأ بيروت في الرابع من آب المنصرم، والذي أدّى إلى سقوط مئات الضحايا وآلاف الجرحى وعشرات الآلاف من المشرَّدين، فضلاً عن الخسائر المادّية الفادحة. أمّا الطبقة السياسية فهي متلهّية عن كلّ هموم الناس بالدفاع عن مصالحها والتشبّث بمواقعها، وترفض الاستماع إلى صرخات الشعب الذي يطالب بمحاسبة الفاسدين من المسؤولين، بل يصل إلى حدّ المطالبة برحيل الطبقة الحاكمة برمّتها.

تميّز لبنان بتعدّد عائلاته الروحية ومكوّناته المذهبية التي سعت إلى بناء وطنٍ حضاري ينادي بالعيش الواحد المشترَك ويؤمّن خير المواطنين. لكنّه تحوّل، وللأسف الشديد، إلى تجمُّعٍ لطبقةٍ احتكرت مواقع المسؤولية في الدولة والإدارة، تحت ستار طوائف تُسمَّى “كبيرة” تحتكر مراكز القوّة، وتحمي أتباعها مستقويةً بالخارج، كلّ ذلك على حساب المصلحة الوطنية، واستهتاراً بحقوق الشعب الذي لا حول له ولا قوّة بسبب النظام السائد.

نصلّي، في هذا الزمن الميلادي، كي يهدي الربّ جميع المسؤولين للعودة إلى ضمائرهم، فلا يكتفي المنادون بالإصلاح، وبينهم المدني والديني والإعلامي، بتعميم تُهَمِ الفساد والإخلال بالواجبات وخيانة الشعب على جميع مَن حملوا المسؤولية، بل بتسمية مَوَاطن الفساد، والكشف عن الأشخاص الفاسدين، والمطالبة برفع “الحصانة” الطائفية عن كلّ مَن استغلّ مركز السلطة. عندئذ يستعيد الشعب ثقته بمصداقية الداعين إلى الإصلاح، ويعود الرجاء إلى لبنان بميلادٍ جديد.

وسوريا، التي شارفتْ مأساتها على عامها العاشر، لا تزال تعاني من أعمال العنف والقتل والتدمير والتهجير. هجماتٌ لجماعاتٍ إرهابيةٍ ادّعت بالمعارضة السلمية، وهي تعتمد بالسلاح والمال على دولٍ طامعةٍ، وعلى حملاتٍ إعلاميةٍ مضلِّلةٍ تنادي بديمقراطية صناديق الاقتراع، حيث تفرض أغلبيةٌ راديكاليةٌ دينَها في شؤون الدولة! ألمْ يحن الوقت لتستيقظ الضمائر للكفّ عن التدخُّل في شؤون دولةٍ عضوةٍ في منظّمة الأمم المتّحدة؟ هل من العدل والمنطق أن يستمرّ الشعب السوري في معاناته، والعالم يتفرّج؟ أين مصداقية الدول المستقوية، عندما تعاقب شعباً بكامله، وتمنع عنه مقوّمات العيش، بحجّة إدانة حكومته؟

نصلّي كي يكتشف السوريون بأنفسهم سُبُلَ المصالحة الصادقة والمستنيرة، فيتعافى وطنهم ويزدهر، وليدركوا بأنّ عليهم أن يصيغوا لهم دستوراً وطنياً يجمع ولا يميّز بين المواطنين، أكثريةً كانوا أم أقلّياتٍ، بل يحترم حرّيتهم الدينية، ويثمّن تراثهم الثقافي الذي أغنى وطنهم على مرّ العصور. وإنّنا نطالب، مع ذوي الضمائر الحيّة، برفع العقوبات الاقتصادية، واللجوء إلى الحوار، والعودة غير المشروطة للنازحين، فيُبنى وطنهم على أسس الحقّ والعدالة.

والعراق اليوم بعد سنوات من الحروب والنزاعات، يسعى مع حكومته والنزيهين من شعبه لإحلال السلام والعدل، والإنطلاق في مشاريع الإعمار في مختلف مناطقه المدمَّرة. ندعو إليه تعالى أن يتضامن المواطنون الشرفاء في هذا البلد الجريح، فيبادروا إلى توحيد القلوب وتكثيف الجهود والتقيّد بدستورٍ يفرض احترام جميع المكوّنات الدينية والثقافية والإتنية التي أغنت بلادهم منذ الماضي البعيد.

يستعدّ هذا البلد الجريح الذي نُكِبَ فيه الملايين من المواطنين، لا سيّما المسيحيون الذين تعرّضوا لنزيفٍ خطيرٍ، لزيارةٍ تاريخيةٍ سيقوم بها قداسة البابا فرنسيس في شهر آذار القادم، كما أُعلِن عنها في الفاتيكان، زيارة سيكون لها وقعٌ خاص على بلاد الرافدين بكاملها. وإنّنا نُسَرُّ بشكلٍ خاص أن يقوم قداسته في اليوم الأول بزيارة كاتدرائية “سيّدة النجاة” للسريان الكاثوليك (أمّ الشهداء) في بغداد، ويتفقّد أضرحة شهدائنا الأبرار الذين سُفِكَت دماؤهم على يد الإرهابيين التكفيريين مساء الأحد 31 تشرين الأول 2010. كما أنّ قداسته سيبارك بزيارة خاصة بلدة قره قوش- بغديدا السريانية البطلة، التي اقتلع الإرهاب الداعشي سكّانها بأجمعهم في شهر آب 2014، فتشرّدوا في أقطار المعمورة الأربعة، إلى أن تمَّ تحريرُها بعد أن نُهِبَت ممتلكاتهم ودُمِّرَت كنائسهم ومنازلهم أو أُحرِقَت. وبعودة العدد الأكبر من العائلات، عادت الحياة إلى البلدة المنكوبة، ولا تزال ورشات الإصلاح والإعمار ترمّم ما هُدِمَ وأُحرِق، بهمّة المسؤولين من إكليروس وعلمانيين.

تضمّ قره قوش – بغديدا اليوم أكبر تجمُّع للمسيحيين في العراق، لذلك تُعتبَر زيارة رأس الكنيسة الجامعة في العالم إلى سكّانها السريان، تعبيراً عن محبّته لمسيحيي سهل نينوى وبلداته، وتقديراً لشجاعتهم وتمسّكهم بإيمان آبائهم وأجدادهم، وبالتراث المسيحي الواحد، الذي عليه أن يجمع ولا يفرّق. هذا ما ندعو إليه، ضارعين إلى المولود الإلهي في بيتَ لحمَ، أن يحفظ أهلنا السريان متجذّرين في قره قوش وبرطلّة وسائر بلدات سهل نينوى، وينعم عليهم بحرّية المواطنة الصحيحة الكاملة التي يستحقّونها، فيعيشوا متضامنين بوحدة القلوب مع المواطنين جيرانهم، لما فيه ازدهار منطقتهم الغالية وخير وطنهم العراق.

إلى جميع أحبّائنا السريان الذين يقطنون في الأراضي المقدسة، ومصر، والأردن، والخليج العربي، وتركيا، وفي بلاد الانتشار، في أوروبا والأميركتين وأستراليا، نعبّر عن خالص تمنّياتنا بعيد ميلاد الرب يسوع، ضارعين إلى المخلّص الإلهي، كي يحفظ الجميع في الصحّة والعافية، بعيدين عن كلّ مرض ومكروه في هذه الأزمنة المقلقة بل المخيفة للوباء الكوني الذي يهدّد الجميع.

كما نجدّد مطالبتنا بالإفراج عن جميع المخطوفين، من أساقفةٍ وكهنةٍ وعلمانيين، سائلين الله أن يرحم الشهداء ويمنّ على الجرحى والمصابين بالشفاء التام. ونعرب عن مشاركتنا وتضامننا مع آلام ومعاناة المعوزين والمهمَّشين والمستضعَفين، وكلّ العائلات التي يغيب عنها فرح العيد بسبب فقدان أحد أفرادها، ضارعين إلى الله أن يفيض عليهم نِعَمَه وبركاته وتعزياته السماوية.

وككلّ عام، نقتبس من الرسالة التي وجّهها قداسة البابا فرنسيس بمناسبة اليوم العالمي الرابع والخمسين للسلام للعام 2021، بعنوان: “ثقافة العناية كمسيرة سلام”، إذ يقول قداسته: “كمسيحيين، نحدق نظرنا إلى مريم العذراء، نجمة البحر وأمّ الرجاء. ونساهم معاً جميعاً للتقدّم نحو أفقٍ جديدٍ من المحبّة والسلام والأخوّة والتضامن، فضلاً عن الدعم والقبول المتبادَلين”.

8. خاتمة

رجاء الكون وافانا، كطفلٍ بيننا دانا، فقيرٌ ما له ثوبٌ، وبالخيرات أغنانا

أيّها الربّ يسوع، بميلادك أشرق النور السماوي في ظلمات حياة عالمنا، وفاض حقيقةً ومحبّةً وسلاماً، وتحقّق الرجاء بخلاص العالم وفداء كلّ إنسان. امنحنا نعمة الإيمان بك، وإعلان سرّ تجسُّدك وفرح البشارة بميلادك في كلّ زمانٍ ومكان. هبنا أن نهرع إليك عبر دروب حياتنا اليومية، ببساطة الرعاة، حاملين فرحك إلى كلّ حزينٍ ومتألّمٍ، وسلامك إلى كلّ حالة نزاعٍ وخلافٍ، وعدالتك إلى كلّ مظلوم. وأعنّا لنحيا قدسية انتمائنا إليك بهدي أنوار روحك القدوس. آمين.

وفي الختام، نمنحكم أيّها الإخوة والأبناء والبنات الروحيون الأعزّاء، بركتنا الرسولية عربون محبّتنا الأبوية. ولتشملكم جميعاً نعمة الثالوث الأقدس وبركته: الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد، آمين. كلّ عام وأنتم بألف خير. وُلِدَ المسيح! هللويا!