stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

روحية ورعويةموضوعات

شهداء ليون ( القرن الثاني الميلادي 177م )‏

911views

الشهيدة بلاندينا النبيلة _ يوسابيوس القيصري

 

شهداء ليون (القرن الثاني الميلادي 177م)‏

 

كانت بلاد الغال هي الملكة التي أعِدَّ لهم فيها مسرح المصارعات. وأهمّ بلادها ليون وفينا، ‏اللتان يخترقهما نهر الرون، وهو نهر متّسع يخترق كلّ تلك المنطقة. وقد أرسَلَت أشهر كنائس تلك ‏المملكة إلى كنائس آسيا وفريجيّة وَصفًا للشهود ودوّنت ما كان يجري بينها في الكلمات التالية. وهاك ‏كلماتها:‏

‏”خدّام المسيح المقيمون في فينا وليون ببلاد الغال إلى الإخوة في آسيا وفريجيّة، الذين يعتنقون ‏نفس الإيمان ورجاء الفداء، سلام ونعمة ومجد من الله الآب ويسوع المسيح ربّنا”. ‏

وبعد التحدّث عن بعض المواضيع الأخرى تبدأ روايتها بهذه الكيفيّة:‏

‏”إنّ شدّة الضيق في هذه البلاد، وهياج الوثنيّين على القدّيسين، وآلام الشهود المبارَكين – هذه ‏لا نستطيع وَصفها بدقّة، كما لا يمكن تدوينها. فالخصم هجم علينا بكلّ قوّته، مقدّمًا إلينا عيّنة من ‏نشاطه الذي لا يُحَدّ، الذي سيظهره عند هجومه علينا مستقبلاً، وقد بذل كلّ ما في وسعه ‏لاستخدام أعوانه ضدّ خدّام الله. ولم يكتفِ بإبعادنا عن البيوت والحمّامات والأسواق، بل حرَّم ‏عليهنا الظهور في أيّ مكان. ولكن نعمة الله حوّلَت الصراع ضدّه، وخلّصَت الضعفاء، وجعلَتهم ‏كأعمدة ثابتة، قادرين بالصبر على تحمّل كلّ غضب الشرّير. واشتبكوا في الحرب معه، متحمّلين كلّ ‏صنوف العار والأذى. وإذ استهانوا بآلامهم أسرعوا إلى المسيح، مظهِرين حقًّا: أنّ آلام الزمان ‏الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا. وأوّل كلّ شيء تحمّلوا ببسالة كلّ الأضرار التي ‏كدّسها الغوغاء فوق رؤوسهم كالضجيج، واللطم، والجرّ على الأرض، والنهب، والرجم، والسجن، ‏وكلّ ما يُسِرّ الغوغاء الثائرون أن يوقعوه على الأعداء والخصوم. وبعد ذلك اخذَهم فائد الألف، ‏ورؤساء المدينة، إلى الساحة الخارجيّة، وحقّق معهم بحضور كلّ الجمهور. ولمّا اعترفوا، سُجنوا لِحين ‏وصول الوالي. وعندما مَثلوا أمامه فيما بعد، وعاملنا بمنتهى القسوة، تدخّل في الأمر فيتيوس ‏أباجاثوس، وهو أحد الإخوة، وكان ممتلئًا محبّة لله وللإنسان. وقد كانت حياته طيّبة جدًّا لدرجة أنّه ‏رغم حداثة سنّه نال شهرة كشهرة زكريّا الشيخ، لأنّه كان سالكًا في جميع وصايا الربّ وأحكامه بلا ‏لوم، وكان لا يَكَلُّ في جميع أعمال الخير من نحم الإخوة، غيورًا لله، حارًّا في الروح. وإذ كانت هذه ‏هي صفاته لم يحتمل المحاكمة الظالمة التي كنّا نحاكم بها، با امتلأ غضبًا، وطلي أن يسمح بالشهادة في ‏مصلحة إخوته بأنّه لا يوجد بيننا أيّ قبح أو شرّ. ولكن المحيطين بكرسيّ القضاء حرّضوا ضدّه، ‏لأنّه كان ذا شخصيّة بارزة، ورفَض الوالي طلبه العادل، إنّما سأله عمّا إذا كان هو أيضًا مسيحيًّا. ولمّا ‏شهد بهذا بصوت عالٍ أخِذَ هو نفسه إلى عداد الشهود، ودعا شفيع المسيحيّين، إذ كان في داخله ‏شفيع، أي الروح الذي امتلأ به أكثر من زكريّا وقد أظهر هذا بملء محبّته، لأنّه كان يسرّه جدًّا أن ‏يضع حياته دفاعًا عن الإخوة. لأنّه كان ولا يزال تلميذًا حقيقيًّا للمسيح، متّبعًا الخروف حيثما ‏ذهب. حينئذٍ انقسم الباقون. فالشهود الأصليّون كانوا مستعدّين، وأكملوا اعترافهم بكلّ شجاعة. ‏ولكن ظهر أنّ البعض لم يكونوا مستعدّين ولا متدرّبين، بل وُجدوا ضعفاء وعاجزين عن احتمال ‏صراع شديد كهذا. وفشل نحو عشرة من هؤلاء، مسبّبين لنا حزنًا شديدًا وألَمًا لا يوصَف، ومثبطين ‏عزيمة الآخرين الذين لم يكونوا قد ألقِيَ القبض عليهم بعد، والذين رغم تحمّلهم كلّ صنوف الآلام ‏ظلّوا ملازمين الشهود، ولم يفارقوهم. عندئذٍ خفنا كلّنا جدًّا بسبب عدم تأكّدنا من اعترافهم، لا ‏فَزَعًا من الآلام التي يجب تحمّلها، بل لأنّنا تطلّعنا إلى النهاية وخشينا لئلاّ يفشل البعض منهم. على ‏أنّ المستأهلين كان يُلقى القبض عليهم يومًا بعد يوم مكملين عددهم، حتّى أنّ جميع الغيورين، الذين ‏بُنيَت عليهم مصالحنا بصفة خاصّة، جُمعوا من الكنيستَين.‏

وألقِيَ القبض على بعض خدمنا الوثنيّين، لأنّ الوالي أمر بأن نفحص كلّنا جهارًا. وهؤلاء إذ ‏أغراهم الشيطان، وخافوا على أنفسهم من التعذيب الذي رأوا أنّ القدّيسين يعانونه، وإذ حرّضهم ‏الجند أيضًا، فقد اتّهمونا زورًا بأكل لحوم البشر، والفسق بالأهل المحرّم الزواج بهنّ، وأمور لا يليق بنا ‏عدم التحدّث عنها أو التفكير فيها فحسب بل لا نعتقد أنّ أيّ إنسان بشريّ اقترَفها على ‏الإطلاق. وعندما قدّمت هذه التهم هاج ضدّنا كلّ الناس كالوحوش المفترسة، لدرجة أنّه إن وُجد ‏بينهم مَن كان في غاية الاعتدال معنا بسبب الصداقة فقد ثاروا ضدّنا جدًّا وأصرّوا بأسنانهم علينا. ‏وتمَّ ما قاله الربّ: تأتي ساعة فيها يظنّ كلّ مَن يقتلكم أنّه يقدّم خدمة لله. وأخيرًا تحمَّل الشهود ‏الأطهار آلامًا لا توصَف، وكان الشيطان يحاول بأقصى جهده أن تخرج من شفاههم كلمات ‏التجديف. ‏

على أنّ كلّ غضب الغوغاء والوالي والجند انصبّ فوق هامة سانكتوس، وهو شمّاس من فينا، ‏وماتوروس، وهو متنصّر حديث ولكنّه مجاهد شجاع، وأتالوس وهو من أهالي برغامس حيث كان ‏بصفة مستمرّة عمودًا حيًّا وأساسًا متينًا، وبلاندينا التي أظهر المسيح فيها أنّ ما يبدو في نظر البشر ‏حقيرًا ودنيئًا ووضيعًا هو في نظر الله مجيد بسبب المحبّة التي نكنها له التي تظهر في قوّة الافتخار ‏بالمظاهر. لأنّنا إذ كنّا كلّنا مرتعبين، وكانت سيدتها الأرضيّة -وهي نفسها أيضًا كانت ضمن ‏الشهود- خائفة لئلاّ يعوقها ضعف جسدها عن الاعتراف بجسارة، امتلأَت بلاندينا قوّة لدرجة أنّها ‏صمدَت أمام معذّبيها الذين كانوا يتناوبون تعذيبها من الصباح حتّى المساء بكلّ أنواع التعذيب، حتّى ‏اضطرَّتهم إلى الاعتراف بأنّهم قد غُلب على أمرهم ولم يستطيعوا أن يفعلوا لها شيئًا أكثر. وذهلوا من ‏قوّة احتمالها إذ كان كلّ جسدها قد تهرّأ، واعترفوا بأنّه كان يكفي نوع واحد من هذه الآلام لإرهاق ‏الروح، فكَم بالأوْلى كلّ هذه الآلام المتنوّعة العنيفة. على أنّ المرأة المبارَكة جدّدَت قوّتها في اعترافها ‏كمصارعة صنديدة، وقد وجدت تعزية وانتعاشًا وتخفيفًا لآلامها في أن تصرخ: أنا مسيحيّة، ونحن لم ‏نفعل شرًّا.‏

أمّا سانكتوس فقد تحمّل أيضًا بشكل عجيب، وفوق طاقة البشر، كلّ ما عاناه من آلام. وبينما ‏حاول الأشرار -بالاستمرار في تعذيبه، والإمعان في القسوة- أن يصطادوا منه أيّة كلمة مِمّا لا يجب ‏أن يقوله، فقد سلَّح نفسه بذلك الثبات العجيب الذي جعلَه لا ينطق حتّى باسمه أو اسم شعبه أو ‏المدينة التي ينتمي إليها، ويذكر إن كان عبدًا أو حرًّا، بل أجاب باللغة الرومانيّة على كلّ أسئلتهم ‏بقوله: أنا مسيحيّ، لقد اعترف بهذا عِوضًا عن ذكر اسمه أو اسم المدينة التي ينتمي إليها أو الجنس ‏التابع له أو أيّ شيء آخر. ولم يسمع الشعب منه كلمة أخرى. لذلك تحرّكَت الرغبة في قلب الوالي ‏وقلوب معذّبيه للتغلّب عليه. ولكنّهم إذ لم يملكوا شيئًا أكثر يفعلونه له رَبطوا أخيرًا صفائح نحاسيّة ‏محمّاة إلى أجزاء جسمه الرقيقة. وهذه احترقَت فعلاً، ولكنّه ظلّ متجلّدًا لا يلين ولا يستسلم، ثابتًا ‏في اعترافه منتعشًا متقوّيًا بينبوع مياه الحياة السماويّ المتدفّق من أحشاء المسيح. وكان جسده ‏شاهدًا لآلامه، غذ كان قد تهرَّأ كلّه وتشوَّه بشكل بشع، وكان أبعد ما يكون عن شكل الإنسان. ‏وإذ تألّم المسيح فيه أظهرَ مجده، منقذًا إيّاه من خصمه، وجاعلاً إيّاه مَثلاً للآخرين، ومبيّنًا أنّه حيث ‏وُجدَت محبّة الله فلا يوجد أيّ شيء مخيف، وحيث وُجدَ مجد المسيح فلا يوجَد شيء أليم. وعندما ‏عذّبه الأشرار مرّة أخرى بعد بضعة أيّام، ظانّين أنّهم، وقد انتفخ جسده، والتهب لدرجة أنّه لم يعُد ‏يطيق لمس اليد، قد يستطيعون التغلّب عليه إن وضعوا نفس الصفائح على جسده أو -على ‏الأقلّ- أنّ الآخرين يخافون عندما يرونه تحت آلامه. وهذا أمر لم يكن ممكنًا فقط أن يحدث بل ‏بعكس كلّ انتظار بشريّ انتعش جسده وانتصب وسط التعذيبات المتوالية واستعاد شكله الطبيعيّ، ‏وتحرّكَت الأطراف، وهكذا صارت هذه الآلام الثانية، بنعمة المسيح سببًا لا في التعذيب بل وفي ‏الشفاء. ولكن إبليس إذ ظنَّ أنّه قد التُهمَ فعلاً ببلياس وهي إحدى الذين أنكروا المسيح، وأن يزيد ‏في دينونتها بتحريضها على النطق ببعض كلمات التجديف، فقد دفعَها ثانية إلى التعذيب ليضطرها، ‏بسبب ضعف جسدها، إلى الوشاية بنا. غير أنّها استعادَت قوّتها تحت الآلام، كأنّها قد استيقظَت من ‏سبات عميق، وإذ ذكرَتها الآلام الحاضرة بعذاب جهنّم الأبديّ وقفَت في وجه المجدّفين قائلة: كيف ‏يستطيع هؤلاء أن يأكلوا الأطفال وهم يُحرَمون أن يذوقوا حتّى دماء الحيوانات غير العاقلة، عندئذٍ ‏اعترفَت بأنّها مسيحيّة، فحُسبَت في عداد الشهود. ونظرًا لأنّ المسيح جعل هذه التعذيبات الظالمة ‏عديمة الجدوى بسبب صبر المباركين، اخترع إبليس تدبيرات أخرى، وهي الحبس في أظلم وأقبح ‏مكان في السجن ووضع الأقدام في الثقب الخامس من المقطرة، والتعذيبات الأخرى التي اعتاد ‏أعوانه توقيعها على المسجونين عندما تثور ثائرتهم ويتملّك عليهم إبليس. وقد اختنق الكثيرون في ‏السجن إذ اختارهم الربّ لهذا النوع من الموت ليظهر فيهم مجده.‏

ورغم أنّ البعض عُذّبوا بمنتهى القسوة، حتّى كان يظنّ أنّه من المستحيل أن يعيشوا مهما بذلت ‏معهم كلّ أنواع العلاج والتمريض، إلاّ أنّهم لبثوا في السجن بعيدين عن كلّ رعاية بشريّة، إذ تقوّوا ‏بالربّ، وانتعشَت أجسادهم وأنفسهم، فشدّدوا وشجّعوا الباقين. أمّا الذين كانوا قد ألقيَ القبض ‏عليهم حديثًا ولم يتمكّنوا من احتمال قسوة السجن لسبب حداثة سنّهم وعدم تمرّن أجسادهم على ‏التعذيب، فماتوا فيه.‏

أمّا المغبوط بوثينوس، الذي كان قد أوكلَت إليه أسقفيّة ليون، فقد جرّوه إلى كرسيّ القضاء، وكان ‏عمره يزيد على تسعين سنة، وقد وهنت كلّ قواه، يكاد بالجهد أن يتنفّس بسبب ضعف جسده. ‏ولكنّه تقوّى بالغيرة الروحيّة بسبب رغبته الحارّة في الاستشهاد. ومع أنّ جسده قد فتّت في عضده ‏الشيخوخة والأمراض، فقد حُفظَت حياته لكي ينتصر المسيح فيها. وعندما أتى به الجند إلى ‏المحاكمة، يرافقه بعض الولاة المدنيّين وجمهور من الشعب يهتفون ضدّه بكلّ أنواع الهتاف كأنّه هو ‏المسيح نفسه، شهد شهادة نبيلة. ولمّا سأله الوالي: مَن هو إله المسيحيّين أجاب: إن كنتَ مستحقًّا ‏فستعرف. عندئذٍ جرّوه بفظاظة ولطموه بكلّ أنواع اللطمات. فالقريبون منه لكموه بأيديهم، وركلوه ‏بأرجلهم، غير حاسبين أيّ حساب لِسِنّه، والبعيدون منه قذفوه بكلّ ما وصلَت إليه أيديهم، والكلّ ‏ظنّوا بأنّهم يعتبَرون مجرمين إن قصّروا في إهانته بكلّ إهانة ممكنة. لأنّهم توهّموا أنّهم بذلك ينتقمون ‏لآلهتهم. من ثمّ زجّ به في أعماق السجن وهو يكاد لا يقوى على التنفّس، ثمّ مات بعد يومَين.‏

بعدئذٍ حدث افتقاد عظيم من الله، وظهرَت مراحم يسوع بشكل لا يوصَف وبكيفيّة يندر أن تُرى ‏بين الإخوة، ولكنّها مع ذلك ليسَت بعيدة عن قدرة المسيح. لأنّ الذين تراجعوا عند القبض عليهم ‏لأوّل مرّة سجنوا مع الآخرين وتحمّلوا آلامًا مرّة. وهكذا صار إنكارهم عديم الجدوى لهم، حتّى في ‏العالم الحاضر. أمّا الذين اعترفوا بحالتهم، فقد سُجنوا كمسيحيّين، ولو توجَّه إليهم أيّة اتّهامات ‏أخرى. أمّا السابقون فقد عوملوا فيما بعد، كقتلة ومجرمين، بقسوة ضعف القسوة التي عوقبَ بها ‏الآخرون. لأنّ فرح الاستشهاد، ورجاء المواعيد، ومحبّة المسيح، وروح الآب سندَت الأخيرين، أمّا ‏ضمائر الأوّلين فقد عذّبَتهم جدًّا حتّى كان يسهل تمييزهم عن الباقين بمجرّد النظر إلى وجوههم وهم ‏يُساقون. فالسابقون خرجوا فرحين، يطفح المجد والنعمة على وجوههم، حتّى كانت نفس قيودهم ‏تبدو كأنّها حليّ جميلة كعروس مزيّنة بحليّ ذهبيّة. وقد تعطّروا برائحة المسيح الذكيّة، حتّى ظنّ البعض ‏أنّهم تعطّروا بعطور أرضيّة. أمّا الآخرون فقد كانوا أذلاّء، منكسري الخاطر، مكتئبين، مملوئين بكلّ ‏أنواع الخزي، وكان الخسيسين يعيّرونهم كخسيسين وضعفاء، حاملين تهمة القتلة، وخسروا شرف ومجد ‏الاسم العظيم واهب الحياة. وإذ رأى الباقون هذا تقوّوا، وعندما عرف أمرهم اعترفوا بلا تردّد، ودون ‏أن يعيروا أيّ التفات لإغراءات إبليس”.‏

وبعد كلمات أخرى استمرّت في حديثها قائلة:‏

‏”وبعد هذا انقسمَت أخيرًا استشهاداتهم إلى كلّ الأشكال، لأنّهم إذ ضفروا إكليلاً من كلّ الألوان ‏وكلّ أنواع الزهور قدّموه إلى الآب. ولذلك كان من اللائق أن ينال هؤلاء الأبطال النبلاء الإكليل ‏العظيم غير الفاسد، بعد أن تحمّلوا آلامًا عنيفة، وغلبوا ببسالة نادرة. وهكذا أخذ إلى المسرح ‏ماتوروس وسانكتوس وبلاندينا وأتالوس، لكي يُعرّضوا للوحوش الضارية، ولكي يقدّم للشعب الوثنيّ ‏منظر من مناظر القسوة، وحدّد لشعبنا يوم خاصّ للصراع مع الوحوش. جاز كلّ من ماتوروس ‏وسانكتوس مرّة أخرى كلّ أنواع العذاب في المسرح، كأنّهما لم يكابدا شيئًا من الآلام من قبل، أو ‏بالأحرى كأنّهما الآن، وقد انتصرا على عدوّهما في عدّة مواقع، يجاهدان من أجل الإكليل نفسه، ‏وتحمّلا ثانية القصاص المعتاد وهو المرور بين صفَّين من الجند فيضربهما كلّ منهم بدوره، ثمّ قسوة ‏الوحوش المفترسة، وكلّ ما طلبَه الشعب الثائر أو أرادوه، وأخيرًا الكرسيّ الحديديّ الذي شُويَ به ‏جسداهما. ولم يقنع المعذّبون بهذا، بل ازداد جنونهم من نحوهما، وعزموا على التغلّب على صبرهما. ‏ولكنّهم حتّى بهذا لم يسمعوا من سانكتوس كلمة سوى الاعتراف الذي نطق به في البداية. وهكذا إذ ‏ظلّت حياتهما تقدّم هذا الصراع العنيف مدّة طويلة، ماتا أخيرًا بعد أن قدّما طول ذلك النهار منظرًا ‏للعالم عوض أنواع الصراع العاديّ المختلفة.‏

 

أمّا بلاندينا فقد عُلّقَت على خشبة وعُرضَت لابتلاع الوحوش المفترسة التي تهجم عليها. ولأنّها ‏ظهرَت كأنّها معلّقة على صليب، وبسبب صلواتها الحارّة، فقد ألهبت المجاهدين بنار الغيرة، لأنّهم ‏نظروا إليها في جهادها، ونظروا بأعينهم الخارجيّة ذاك الذي صُلب لأجلهم، في هيئة أختهم، وذلك ‏لإقناع المؤمنين باسمه أنّ كلّ مَن يتألّم لأجل مجد المسيح تكون له على الدوام شركة مع الإله ‏الحيّ. ولأنّه لم يمسَّها وقتئذٍ أيّ واحد من الوحوش المفترسة فقد أنزِلَت عن الخشبة وأودعَت السجن ‏ثانية. وهكذا حُفظَت لصراع آخر، حتّى إذا ما انتصرَت في الجهاد دفعات أخرى جعلت قصاص ‏الحياة الملتوية بلا شفاء. ومع أنّها كانت صغيرة السنّ، ضعيفة ومحتقرة، إلاّ أنّها إذ لبسَت المسيح ‏الغالب المقتدر، استطاعَت أن تثير حمية الإخوة، ونالَت بجهادها الإكليل غير الفاسد بعد أن غلبَت ‏الخصم مرارًا عديدة.‏

أمّا أتالوس فدعاه الشعب بصوت عالٍ لأنّه كان ذا شخصيّة بارزة. فدخل إلى المحاكمة بكلّ ثبات ‏بسبب ضميره الصالح وسيرته الطيّبة في المسيحيّة، ولأنّه كان دائمًا بيننا شاهدًا للحقّ. اقتيد حول ‏المسرح، وحُملت أمامه لوحة كُتب عليها باللغة الرومانيّة: هذا أتالوس المسيحيّ. فامتلأ الشعب غضبًا ‏من نحوه. ولكن لمّا علِم الوالي أنّه رومانيّ أمر أن يُعاد مع الباقين الذين أودعوا السجن، والذين كتب ‏عنهم على قيصر ولم يصله منه الردّ بعد. على أنّ الفترة المتوسّطة لم تذهب سدًى، ولم تكن عديمة ‏الجدوى بالنسبة إليهم لأنّهم بصبرهم ظهرَت مراحم المسيح التي لا تُحدّ: وإذ ظلّوا أحياء أقيم الموتى، ‏وأظهر الشهود رحمة ومحبّة نحو الذين لم يشهدوا، واغتبطَت الأم العذراء (أي الكنيسة) بمَن قبِلتهم ‏أحياء بعد أن سبق وأخرجَتهم كأموات. لأنّهم بتأثيرهم عاد الكثيرون مِمَّن سبق أن انكروا، وولدوا ‏ثانية، ودبّت فيهم الحياة مرّة أخرى، وتعلّموا أن يعترفوا. وإذ عادَت إليهم الحياة وتقوّوا ذهبوا إلى ‏كرسيّ المحاكمة ليستجوبهم الوالي. والله الذي لا يسرّ بموت الخاطئ، بل يدعو الجميع برحمته إلى ‏التوبة، عاملَهم باللطف. لأنّ قيصر أمر بإعدامهم، أمّا مَن ينكر فيطلق سراحه. ولذلك، ففي بداية ‏العيد العامّ الذي حلَّ وقتئذٍ، والذي حضرته جماهير من كلّ الشعوب، قدّم الوالي المباركين إلى مجلس ‏القضاء ليجعل منهم منظرًا للجماهير، وعندئذٍ فحص أمرهم ثانية، وأمر بقطع رأس مَن كان منهم ‏يحمل الرعويّة الرومانيّة، ولكنّه أرسل الباقين إلى الوحوش الضارية.‏

وتمجّد المسيح جدًّا في مَن سبقوا فأنكروا، لأنّهم -بعكس انتظار الوثنيّين- اعترفوا. فقد حقّق ‏معهم على انفراد، كأنّه على وشك أن يطلق سراحهم. ولكنّهم إذ اعترفوا حُسبوا في عداد الشهود. ‏واستمرّ البعض خارج حظيرة الشهود، وهؤلاء هم الذين لم تكن لديهم ذرّة من الإيمان، أو أقلّ ‏معرفة عن لباس العرس أو شيء من الإدراك عن خوف الله، بل -كأبناء الهلاك- جدّفوا على ‏الطريق بارتدادهم. أمّا جميع الباقين فقد ضمّوا إلى الكنيسة. وبينما كان يُجري التحقيق مع هؤلاء، ‏كان هنالك شخص يُدعى الإسكندر، وهو فرّيجيّ المولد، تحترف مهنة الطبّ، وكان قد عاش في ‏بلاد الغال سنوات طويلة، معروفًا من الجميع بسبب محبّته لله وجرأته في الكلام، لأنّه لم يكن خاليًا ‏من نصيب في النعمة الرسولية، هذا إذ وقف أمام كرسيّ القضاء يشجّعهم، ببعض الإشارات على ‏الاعتراف، ظهر أمام الواقفين بجواره كأنّه في شدّة وضيق. ولكن الشعب ثار لأنّ الذين سبق أن ‏أنكروا قد اعترفوا الآن، فصرخوا ضدّ الإسكندر، كأنّه هو السبب في كلّ هذا. عندئذٍ استدعاه ‏الوالي وسأله عن شخصيّته. ولمّا أجاب بأنّه مسيحيّ اغتاظ جدًّا وأمر بطرحه للوحوش الضارية. وفي ‏اليوم التالي دخل مع أتالوس. لأنّ الوالي أمر بطرح أتالوس ثانية للوحوش إرضاءً للشعب. فعُذّبا في ‏المسرح بكلّ الآلات المعدّة لهذا الغرض، وماتا أخيرًا بعد أن تحمّلا آلامًا عنيفة. ولم يُصدر الإسكندر ‏أيّ أنين أو تذمّر بأيّ شكل من الأشكال، بل كان يناجي الله في قلبه. ولكن عندما وضع أتالوس في ‏الكرسيّ الحديديّ، وتصاعد الدخان من جسده المشويّ قال للشعب بلغة رومانيّة: إنّ هذا الذي ‏تفعلونه أنتم هو التهام للبشر، أمّا نحن فإنّنا لا نأكل البشر، ولا نرتكب أيّ شيء آخر. وعندما ‏سُئل عن الاسم الذي يحمله الله أجاب: أنّ الله لا يحمل أيّ اسم كما يحمل الإنسان.‏

 

 

بعد كلّ هذا أحضِرَت بلاندينا، في آخر يوم من أيّام الصراع العنيف، مع بونتيكوس وهو صبيّ ‏يبلغ عمره نحو الخامسة عشر سنة. وقد كان يؤتى بهما كلّ يوم ليشهدا آلام الآخرين، ويضغط ‏عليهما ليحلفا بالأوثان. ولكن لأنّهما ظلاّ ثابتَين محتقرَين إيّاها، اشتدّ هياج الجمهور حتّى أنّهم لم ‏يشفقوا على حداثة سنّ الصبيّ، ولم يراعوا رقّة جنس المرأة. لذلك عرّضوهما لأقسى أنواع العذاب، ‏وطلبوا منهم مرارًا أن يحلفا، ولكنّهم فشلوا. لأنّ بونتيكوس كانت تشجّعه أخته حتّى أنّ الوثنيّين كانوا ‏يرونها تثبّته وتقوّيه، وبعد أن تحمّل التعذيب بكلّ ثبات أسلم الروح. أمّا المغبوطة بلاندينا فإنّها أخيرًا، ‏إذ شجّعَت أبناءها كأمّ نبيلة، وأرسلَتهم قبلها ظافرين منتصرين إلى الملك السماويّ، تحمّلَت هي ‏نفسها كلّ صراع، وأسرعَت للّحاق بهم، فرحة ومغتبطة برحيلها، كأنّها قد دُعيَت إلى وليمة عرس، لا ‏على الطرح للوحوش المفترسة. وبعد الجلد، وبعد الوحوش المفترسة، وبعد الشيّ بالنار على الكرسيّ ‏الحديديّ، وُضعَت أخيرًا في شبكة وطُرحَت أمام ثور، وهذا قذف بها هنا وهنالك، ولكنّها لم تشعر ‏بشيء مِمّا كان يحدث لها بسبب رجائها، وتمسّكها التامّ بما اؤتمنَت عليه، وشركتها مع المسيح، وأخيرًا ‏فاضت روحها. وقد اعترف الوثنيّون أنفسهم أنّه لم توجَد بينهم امرأة تحمّلَت مثل هذه الآلام المروعة.‏

ولكن جنونهم وقسوتهم ووحشيّتهم نحو القدّيسين لم تقف عند هذا الحدّ. لأنّ تلك القبائل ‏المتوحّشة إذ أغراها الوحش المفترس لم يشفِ غليلها بسهولة، ولذلك وجدت وحشيّتهم فرصة أخرى ‏للتمثيل بالجثث. لأنّهم بسبب نقص عقليّتهم ورجولتهم لم يخجلوا أنّهم غُلبوا، بل بالعكس ازداد ‏غضبهم اشتعالاً كوحوش مفترسة، وأثاروا حكم الوالي والشعب لمعاملتنا بمنتهى الظلم ليتمّ الكتاب: ‏مَن يظلم فليظلم بعد. ومَن هو نجس فليتنجّس بعد. ومَن هو بارّ فليتبرّر بعد. لأنّهم طَرحوا ‏للكلاب جثث مَن ماتوا اختناقًا في السجن، حارسينها نهارًا و ليلاً لئلاّ ندفن نحن إحداها. وتركوا ‏الأشلاء التي تبقّت من الوحوش المفترسة والنار في العراء لتتعفّن وتفسد، ووضعوا رؤوس الآخرين ‏بجوار أجسادها وحرسها الجند أيامًا كثيرة بنفس الطريقة لئلاّ تُدفن. وثار البعض، وأصرّوا بأسنانهم ‏عليه، طالبين انتقامًا أشدّ قسوة. وسخر بهم الآخرون، معظّمين أصنامهم التي عزوا إليها قصاص ‏المسيحيّين. وحتّى العقلاء فيهم الذين كان يبدو بأنّهم يظهرون نحونا بعض العطف، كانوا يعيّرونهم ‏قائلين: أين إلههم، وماذا نفعتهم ديانتهم التي فضّلوها على الحياة. هكذا تنوّعت تصرّفاتهم نحونا، ‏ولكنّنا كنّا في أشدّ الألم لعدم تمكّننا من دفن الأجساد. لأنّه لا الليل كان مجديًا في هذا الصدد، ولا ‏المال كان كافيًا للاقناع، ولا التوسّلات حرّكت عواطفهم. ولكنّهم كانوا يعتنون كلّ العناية براسة ‏الجثث كأنّ عدم دفنها كان جزيل النفع لهم”. ‏

وبعد سرد أمور أخرى أضافت: ‏

إنّ أجساد الشهداء إذ تُركت مكشوفة في العراء ستّة أيام أُحرقت وصارت رمادًا، وطرحها ‏الأشرار في نهر الرون الذي اكتسحها، وذلك لكي لا يظهر لها أثر على الأرض. وهذا فعلوه كأنّهم ‏قادرون على غلبة الله وعلى أن يُعيقوا ولادتهم الجديدة لكي، على حدّ تعبيرهم، لا يكون لهم رجاء ‏في قيامة الأموات بالثقة التي فيها قدّموا إلينا هذه الديانة الجديدة الغريبة، واحتقروا الأهوال، ‏واستعدّوا حتّى لملاقاة الموت بفرح. لننظر الآن إن كانوا يقومون ثانية، وإن كان إلههم قادرًا على ‏مساعدتهم وتخليصهم من أيدينا”.‏

شفاعة الشهيدة بلاندينا وجميع شهداء ليون تشملنا جميعاً آمين.‏

المرجع: يوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة ، القسم الرابع، ترجمة القمص مرقص داود.‏