عالمنا يحتاج إلى المسيح- رسالة رعوية للأنبا بطرس فهيم مطران المنيا
إيبارشية المنيا للأقباط الكاثوليك
عالمنا يحتاج إلى المسيح
رسالة رعوية
المنيا
مارس 2014
عالمنا يحتاج إلى المسيح
الأحباء، كهنة ورهبان وراهبات وشمامسة وشعب إيبارشية هرموبوليس المنيا للأقباط الكاثوليك، المباركة
نعمة لكم و سلام من الله أبينا ومن ربنا يسوع المسيح في الروح القدس.
مقدمة
1. إن عالمنا وعصرنا يحتاج، إلى الإنجيل، وإلى المسيح أكثر من أي شيء ومن أي شخص آخر. ومازالت رسالة المسيح الفادي التى إئتمن الكنيسة عليها لم تكتمل بعد. فمازال المسيحيون متعطشون إلى معرفة ومحبة المسيح بطريقة أفضل وأكمل، ومازال أكثر من نصف البشرية لم يعرف المسيح ولم يؤمن به بعد. وهذا يدعونا إلى التفكير في مسئوليتنا تجاه الكرازة وإعلان الإنجيل. هذه المسئولية التي نبّه إليها كثيرا رعاة الكنيسة، وعلى رأسهم البابوات، وعقد من أجلها سينودس الأساقفة الأخير بروما العام الماضي. مازالت بلادنا وعالمنا يحتاج أن يسمع، مجددا، نداء قداسة البابا يوحنا بولس الثاني الذي افتتح به خدمته على كرسي بطرس الرسول، حين قال: “يا أيها الشعوب جميعا، افتحوا الأبواب للمسيح. فإنجيله لا ينتقص من حرية الإنسان شيئا، ولا من الاحترام الواجب للثقافات، ولا مما هو صالح في كل ديانة. بتقبلكم المسيح، تنفتحون على كلمة الله النهائية، على الذي به عرّفنا الله بذاته بصورة كاملة، وبه أظهر لنا الطريق التي نسلكها” (من الرسالة العامة للبابا يوحنا بولس الثاني “رسالة الفادي” رقم 3). تحتاج الكنيسة والعالم إلى ربيع روحي وإرسالي جديد، إلى عنصرة جديدة، ربيع وعنصرة تقود العالم إلى ربيع إيمان بالله الحي القدوس، الذي يعلن ذاته في المسيح بالروح القدس، ربيع للإيمان يضبط ويصحح وقع الحياة والعلاقات بين الناس والله، وبين الناس وبعضهم البعض، أشخاصا كانوا أو جماعات أو دول أو شعوب. ربيع إيمان يزرع في قلب وعقل الناس قيم المسيح والإنجيل، هذه القيم القادرة وحدها على إنتاج حضارة المحبة، في مواجهة حضارة الشر والعنف والخوف والموت المنتشرة في أماكن كثيرة في العالم اليوم، هذا العالم الذي ما زال يتمخض منتظرا تجلي أبناء الله ومجدهم (رومية 8 : 21 – 22). وأين يكون هذا التجلي والمجد إن لم يكن في المسيح بالروح القدس، من خلال كرازة حية حقيقية متجددة بالإنجيل؟
الكنيسة على مثال معلمها
2. كثيرا ما نفكر ككنيسة كاثوليكية في مصر أن نقدم للناس خدمات عديدة ومتنوعة، مثل التعليم، والخدمات الصحية، والخدمات الاجتماعية والثقافية والرياضية، وخدمات التنمية بانواعها. هذه الخدمات لا شك أنها في غاية الأهمية، ولكن الأهم هو المسيح. فقد ننسى مرات كثيرة ما قاله البابا، الطيب الذكر بولس السادس: إن أجمل وأكبر خدمة يمكن أن نقدّمها للإنسان هي أن نجعله يتعرف على السيد المسيح ويلتقى به. فهذه هي رسالتنا الأولى والأساسية التي من أجلها أرسلنا السيد المسيح. ففي المسيح يجد الناس النور والحكمة والنعمة، فيه يجد الناس المعنى والقيمة لما هم عليه، ولما لديهم، ولما يحتاجونه حقا ولما ينقصهم، فيه يجدون أيضا الأسلوب المناسب للمطالبة به والحصول عليه. يحتاج الناس للمسيح نورا وإلهاما، للواقع وللحياة كلها، فمنه يستمدون كرامتهم وحياتهم، ومن إنجيله يتعلّمون كل القيم وكيف يعيشوها ويدافعوا عنها، بإلهامه يمكنهم أن يثوروا على كل فساد وظلم وقهر وإهدار للكرامة. ويجدوا في أسلوبه الأسلوب الأفضل للتعامل مع الأشخاص والأوضاع والأحداث. فالسيد المسيح كان دائما يعمل الحق بالمحبة، فلم يلجأ أبدا إلى العنف أو التهديد، فاستخدم دائما قوة الحق، ولم يلجأ أبدا إلى حق القوة. إن المتانة الروحية والأخلاقية، النابعة عن إيمان قوي وحقيقي بالله، تساعد دائما الناس على مواجهة التحديات، وصعوبات الحياة بشكل موضوعي، وبأسلوب إنساني وروحي ومنطقي سليم، بلا تطرف ولا تزمت ولا خلل نفسي وأخلاقي، فيعبرون الأزمات بأقل خسائر ممكنة، وببنية حضارية تستفيد من كل الظروف ومن تراكم الخبرات.
3. الكنيسة على مثال معلمها وفاديها، عليها ألا تضيع في تفاصيل كثيرة قد تكون مهمة، ولكنها ليست الأساس والأولوية، عليها أن تقيس أولوياتها على أولوياته وتقارن أهدافها باهدافه، عليها أن تصغي إليه في كل مرة قال “أطلبوا أولا … إعملوا أولا …”، عليها أن تجد هدفها الأساسي الذي من أجله أوجدها وأرسلها، خدمة ملكوت الله. فاتحاد الكنيسة بالمسيح وطاعتها لمشيئة الآب بالروح القدس يقدس الكنيسة وقياداتها. من هذه القداسة ومن هذه الطاعة ومن هذا الاتحاد بالمسيح تنتج، كثمار لها، كل خدمات وأنشطة الكنيسة الروحية والرعوية والرسولية والإنسانية. فنحن كالأغصان في الكرمة ما لم نثبت فيه لا يمكن أن نأتي بثمر (يوحنا 15 : 1 – 17)، وقد قال السيد المسيح بدوني لا تستطيعون أن تعملوا شيئا (يوحنا 15 : 5). ففي الحقيقة القداسة تثمر أعمال المحبة والرحمة وكل عمل صالح، ولكن الأعمال الصالحة وحدها لا تقدر أن تقدسنا أو تخلّصنا.
أخطار تهدد الكنيسة
4. إن أخطر ما يهدد كنيسة اليوم هو البحث عن أنشطة كثيرة، أحيانا غير ضرورية، وأحيانا زائدة عن اللازم، وأحيانا في غير موضعها. أحيانا نعمل ذلك بعفوية وبدون إدراك للأساسيات، بحسن نية، وأحيانا لا ننتبه لتجربة النشاطيّة التي يثقلنا بها عدو الخير ليأخذنا بعيدا عن الجوهري والضروري والأساسي. قال السيد : “أطلبوا أولا ملكوت الله وبره وكل هذه تزاد لكم” (متى 6 : 33)، وفي مكان آخر قال : “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (متى 4 : 4). هذا لا يعنى أن الخبز أو النشاط أو أعمال التنمية والرحمة غير ضرورية، بالعكس هي مهمة جدا، ولكن يجب أن ننتبه من خطر الضياع فيها واعتبارها عملنا الأول والأساسي، عملنا الأول والأساسي هو قداسة الذات والعالم، هو الكرازة بالإنجيل، الإيمان به، والحياة بموجبه كما ينبغي، وإعلانه للناس بالفعل وبالقول، وبشهادة الحياة، بالمثل الصالح. فالسيد قال: “إعملوا هذه ولا تتركوا تلك” (متى 23 : 23).
5. في هذا السياق يذكرنا الرائع قداسة البابا فرنسيس بهذه المهمة فيقول: أفضّل كنيسة متعبة، مجروحة، متسخة بسبب سيرها الدائم، وسعيها المتواصل إلى الناس لتنقل لهم الإنجيل ولتعرفهم بالمسيح، وتدعوهم لشركة الحياة معه، أكثر من كنيسة جميلة، نظيفة، سليمة بسبب إنغلاقها داخل جدرانها، وإنكفائها على ذاتها، تتمتع بخيراتها وحدها. فالسيد المسيح لم يكن له بيتا يخصه، ولم ينتظر أن تأتي إليه الناس في بيته أو في مكتبه أو في كنيسته، فهو لم يبن كنيسة من طين أو من حجر، بل بنى كنيسة من بشر أحياء ضمهم إلى شركته وتقاسم معهم كل شيء، ماخلا الخطيئة، عاش ومات وقام من أجلهم، وأرسل لهم روحه القدوس، ترك لهم إنجيله والأسرار الإلهية، ترك لهم مريم العذراء أمه مثالا للكنيسة. وأرسل الكنيسة للعالم كله قائلا: “إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يعملوا بكل ما أوصيتكم به، وها أنا معكم طوال الأيام، إلى إنقضاء الدهر”. أرسل السيد المسيح كنيسته للعالم فقيرة من كل شيء، غنية به وبكلمته وبروحه. قال: “إذهبوا إلى الخراف الضالة من بني إسرائيل، وبشروا في الطريق بأن ملكوت السموات اقترب. وإشفوا المرضى، وأقيموا الموتى، وطهروا البرص، وأطردوا الشياطين. مجّانا أخذتم فمجّانا أعطوا. لا تحملوا نقودا من ذهب ولا من فضة ولا من نحاس في جيوبكم، ولا كيسا للطريق ولا ثوبا آخر ولا حذاء ولا عصا، لأن العامل يستحق طعامه” (متى 10 : 6 – 10).
خصائص الكنيسة في الكتاب المقدس
6. كلما ابتعدت الكنيسة عن مسيحها وعن تعاليمه ووصاياه، افتقر كيانها، وضاعت هويتها، وضلت الطريق، وتاهت عن الهدف. إن علامات الكنيسة الحقيقية، بحسب المجامع الكنسية، هي: واحدة، مقدسة، جامعة، رسولية. ولكن الكنيسة الحقيقة والكاملة هي أيضا التي تسعى دائما أن تتطابق مع الكنيسة التي أرادها سيدها المسيح فاديها ومعلمها، فتكون فقيرة (متى 10 : 9 – 10، لوقا 10 : 4 ، أعمال 3 : 5 إلخ…) على مثال معلها الذي “افتقر وهو الغني لنغنى نحن بفقره” (2 كورنثوس 8 : 9).
7. وتكون كنيسة متألمة على مثال فاديها الذي تألم وهو البار من أجل فداء شعبه، من أجل المحبة وإتمام مشيئة الآب ولم يتراجع (متى 26 – 27 و مرقس 14 – 15 و لوقا 22 – 23 و يوحنا 18 – 19 و 1 كورينثوس 1 – 2 و 2 كورينثوس 11 و فيليبي 1 و كولوسي 1 : 9 – 29 و 2 تيموثاوس 2 : 1 – 13 و 1 بطرس 2 : 18- 25 و 3 : 13 – 18 و 4 : 12 – 19 و أشعياء 53).
8. وتكون كنيسة مرسلة (متى 10 و 18 و مرقس 3 : 13 – 19 و لوقا 10 و يوحنا 20 : 21 – 22 و أعمال 1 : 8 و 23 – 26 و 2 : 29 – 47 و سفر أعمال الرسل كله يشهد بهذه الرسالة ويقدم لها الكثير من النماذج). كنيسة تحيا بالرسالة وللرسالة، فالرسالة هي قضية إيمان، فهي تعبر عن إيماننا بمن فدانا، فهي مقياس إيماننا به ومحبتنا له، وهي تعلن إلى أي مدى اختبرنا محبته الفائقة لنا، ونريد أن ننقلها للناس ونشركهم بها، على مثال الرسل الأوائل، فالقديس يوحنا يقول: “الذي كان من البدء، الذي سمعناه ورأيناه بعيوننا، الذي تأملناه ولمسته أيدينا من كلمة الحياة، والحياة تجلّت فرأيناها، والآن نشهد لها ونبشركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وتجلّت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نبشّركم به لتكونوا أنتم أيضا شركاءنا، كما نحن شركاء الآب وابنه يسوع المسيح. نكتب إليكم بهذا ليكون فرحنا كاملا” (1 يوحنا 1 : 1 – 4)، وفي مكان آخر قال الرسل: “أما نحن فلا يمكننا إلا أن نتحدث بما رأينا وسمعنا” (أعمال 4 : 20). أظن أن صوت المسيحي، في كل زمان ومكان، يجب أن يكون صدى لصوت بولس الرسول القائل: “فإذا بشّرت، فلا فخر لي، لأن التبشير ضرورة فرضت عليّ، والويل لي إن كنت لا أبشّر” (1 كورينثوس 9 : 16). فالرسالة تجدد الكنيسة وتقوي الإيمان والهوية المسيحية، وتعطي مزيدا من الحماس والدوافع الجديدة. فالإيمان كالفرح يتقوى ويزداد عندما نعطيه.
أن تكون كنيسة نقية وشفافة (أفسس 5 : 25 – 27). وهي تردد مع المرنم في كل صلواتها: “طهرني بالزوفا فأطهر، واغسلني فأبيض أكثر من الثلج … قلبا نقيا أخلق فيّ يا الله، وروحا مستقيما جدد في داخلي” (مزمور 51 : 9 و 12).
وتكون كنيسة محبة، فقد قال السيد: “أعطيكم وصية جديدة: أحبوا بعضكم بعضا. ومثلما أنا أحببتكم أحبوا أنتم بعضكم بعضا. فإذا أحببتم بعضكم بعضا، يعرف الناس جميعا أنكم تلاميذي” (يوحنا 13 : 34 – 35، راجع يوحنا 13 : 14 – 17).
وتكون كنيسة أم ومعلمة (راجع رسالة قداسية البابا يوحنا الثالث والعشرون التي أصدرها بهذا العنوان سنة 1961). أم في محبتها وحنانها واهتمامها، ومعلمة في رعايتها وتوجيهها وتعليمها.
ما تحتاجه الكنيسة
9. على ضوء هذا التعليم، أعتقد أن الكنيسة اليوم تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى توبة، و مراجعة ذات عن أسلوب حياتها، ورسالتها وخدمتها، تحتاج إلى توبة ومراجعة ذات عن طريقة تعاملها مع سيّدها ومعلمها يسوع، وعن تعاملها مع الناس. تحتاج إلى توبة ومراجعة ذات عن طريقة فهمها لذاتها، وأسلوب تقديمها لذاتها ولمعلمها ولإنجيله وتعاليمه وقيمه ومبادئه. هذه إحدى أهم توصيات سينودس الأساقفة الذي اجتمع في الفاتيكان العام الماضي عن “الكرازة المتجددة بالانجيل”، والذي قدم خلاصة أعماله قداسة البابا فرنسيس في الإرشاد الرسولي “فرح الإنجيل” الصادر من حاضرة الفاتيكان في 24 نوفمبر 2013. والذي اختاره مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في مصر ليكون الموضوع الرعوي العام لهذه السنة 2014.
10. نحتاج في ايبارشيتنا العزيزة، هرموبوليس، المنيا لتوبة جماعية، كأسقف، وككهنة، وكمكرسين ومكرسات، وكشعب. نحتاج لمراجعة ذات حقيقيّة، صادقة، وكاملة، عن كيف نعيش إيماننا بالمسيح؟ وكيف نقدم رسالتنا فيما بيننا؟ وللمجتمع حولنا؟ توبة ومراجعة ذات تقودنا إلى حق الإنجيل، وإلى عمق المحبة والصلاة والتأمل وممارسة الأسرار المقدسة. توبة تجعل منا بشرا إنجيليين، أي بشرا صاروا أناجيل حيّة متحركة تعلن مجد ومحبة الله في كل مكان ولكل البشر. محبة غير محدودة وغير مشروطة. محبة تعاش في الأمانة للمسيح ولكنيسته، لكلمة الله والتقليد. نحتاج لتوبة ومراجعة ذات تمس الحياة كلها، في كل جوانبها ومناحيها، في الكنيسة، وفي العائلات، وفي البيوت، وفي أماكن الدراسة والعمل. وليكن زمن الصوم الأربعيني المقدس القادم، فرصة مواتية لنعيش هذه التوبة بكل عمقها و في كل أبعادها، لنصحح الكثير من أمور حياتنا وعاداتنا وعلاقاتنا. فالتوبة لا تكون فقط عن الخطيئة، فهذا أمر بديهي، بل تكون عن أساليب تفكير وقرارات وأحكام و حياة، عن علاقاتنا مع المأكل والمشرب والملبس، مع الناس بكل فئاتهم، مع أقربائنا وأصدقائنا، ومنافسينا وأعدائنا، عن أساليب ومدة وعمق صلاتنا وصومنا وممارستنا للأسرار المقدسة، تلك الكنوز والوزنات التي تركها لنا الله في الكنيسة لتقديسنا. توبة عن طريقة رعايتنا واهتمامنا، عن أساليب محبتنا وطرق خدمتنا. توبة عن أسلوب اختيار انتماءاتنا و أولويات الحياة، وترتيب الأفضليات، والتعامل مع وسائل الترفيه والتسلية. عن إختيارات وأساليب وأوقات كلامنا وصمتنا. توبة عن استخدام وقتنا وطاقتنا، وملكاتنا ومواهبنا وحواسنا… إلخ.
11. إن ما نحتاج إليه ليس كثرة العدد، وإن كان العدد مهم، فنحن لا يمكن أن نقبل بابتعاد أي عضو من كنيستنا الجميلة، كما يقول السيد المسيح “الذين وهبهم لي الآب لم أفقد منهم أحدا” (يوحنا 17 : 12). العدد مهم ولكن نحن لا نبحث عن الشعبية المزيّفة و تكدس الأعداد، وامتلاء الكنائس والأنشطة بلا مضمون، وبلا تكوين و قيادة حقيقية تقودهم إلى المسيح، وتربطهم بكنيسته المقدسة. نريد كل شعبنا القبطي الكاثوليكي داخل كنيسته، بل نريده كنيسة حقيقية تمتلىء من معرفة الرب، وتتلألأ على وجهها صورته الإلهية “فتعكس مجد الرب بوجه مكشوف، فنتحول إلى تلك الصورة ذاتها، وهي تزداد مجدا على مجد، بفضل الرب الذي هو الروح” (2 كورينثوس 3 : 18).
أسلوب الرعاية في الكنيسة
12. نسعى لتحقيق ذلك من خلال محبة أبوية و روحية، وعمل رعوي دؤوب لا يكل ولا يمل من الذهاب إلى الناس، كما كان يعمل السيد نفسه، الذي ذهب إلى الناس في كل مكان: في البيوت والطرقات والساحات والمزارع والحقول والجبال وعلى شاطئ البحر. باختصار جعل السيد المسيح كل الأماكن كنيسة، وحول كل واقع الناس إلى فرصة للقائه ولمحبته، متقاسما معهم كل ظروف حياتهم، أحزانهم وأفراحهم، آمالهم وآلامهم. ذهب إلى الجميع بلا تمييز ولا تفرقة وبلا تباطؤ. أخذ دائما المبادرة ولم يتأخر أبدا حيث احتاجه الناس. لاحظ أحوالهم وساعدهم أن يجدوا دائما الأجوبة على تساؤلاتهم الجوهرية والمصيرية، وأن يجدوا المعنى لما يعيشوا. وجده الناس دائما فيما بينهم، قريبا منهم، يشعر بالآمهم ويتحنن عليهم. جسّد لهم محبة وقرب الله في كل ظروف حياتهم، جعلهم يروا فيه صورة الله المحب الغافر والمتحنن القريب والمتفهم لظروفهم ولأحوالهم ولصعوباتهم ولضعفاتهم. قدم لهم رحمة وحين استدعى الأمر قدم ذاته ذبيحة من أجلهم. ضحى بذاته من أجلهم ولم يضح بهم لأجل ذاته، ولا لأجل أي شيء آخر مهما كان، طقوس أو شرائع أو قوانين، قال لهم “جعل السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت” (مرقس 2 : 27). قال لهم إن الله يحبهم بلا شروط وبلا حدود. جعلهم يتذوقوا فيه ومن خلاله طعم الملكوت الذي يدعوهم إليه.
13. وهكذا رسم السيد المسيح لرسله في كل الأجيال، ولكنيسته على مر العصور طريق الرعاية السليم، وأسلوب الرعاية الأكثر فاعلية ونجاحا. هذا الأسلوب تبنّته الكنيسة على مر العصور، وأصدرت العديد من الوثائق الإرشادية التي تساعد على تغذية روح الرسالة، توهج الحمية للإنجيل ولخلاص البشر جميعا. وهذا الأسلوب الرعوي هو الذي نتبنّاه وننوي، مع إخوتنا الكهنة، أن نفعّله في خدمة الكنيسة، شعب الله، جسد المسيح. فمحبة و رعاية جسد المسيح وشعب الله تتطلب منا محبة حقيقية فائقة، وغيرة رسولية متجددة، وابتكار لأساليب رعوية متطورة. وإحساس مرهف باحتياج الناس، وتقدير حقيقي صادق لأوضاعهم وظروفهم، وقرب متميّز منهم وإليهم، وذهاب دائم إلى العمق حيث يقودنا ويدعونا الرب لخدمة وقيادة شعبه، وفق روحه القدوس وما يفيضه فينا من “مواهب لبنيان جسد المسيح” (1 كورينثوس 12 و 14 : 12). وهكذا نحقق الهدف الذي من أجله دعانا وأقامنا وأرسلنا السيد المسيح لنأتي بثمر ويدوم ثمرنا (يوحنا 15 : 16). ونحقق مشيئة الرب علينا وعلى شعبه في رعيّتنا أولاً، وفي المجتمع كله، فهو يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون (1 تيموثاوس 2 : 4). فهذا يتطلّب منا محبة ووعي ويقظة واهتمام والتزام، يتطلب منا عيون ترى، وآذان تسمع، وقلوب تحس وتشعر، وأيدي وأرجل تتحرك. أو بتعبير آخر نحتاج لأيدي وأرجل وعيون وآذان لها قلب يحركها، وعقل يوجّهها، وضمير يقودها ويحفظها في عمل الحق بالمحبة. نحتاج لأذن التلميذ، وعين الرسول، وقلب الابن، وغيّرة الكاهن، وفم المعلم، وحكمة الأب، ورعاية الراعي الصالح الذي يرعى بحسب قلب الله، وإحساس الإنسان الممسوح بروح الله. فان لم نحب هكذا شعب الله وجسد المسيح، فمن إذن يستحق المحبة والتضحية، إنه القليل نقدمه من أجل من أحبنا وبذل نفسه لإجلنا، فمهما عملنا فما فنحن سوى عبيد بطّالون.
14. إن هذا الإحساس الروحي و الرعوي بقيمة الرعيّة والشعب الموكل إلينا رعايته، كشعب الله وكجسد المسيح يؤثر، ولا شك، على أسلوب رعايتنا واهتمامنا بكل عضو وبكل شخص، مهما كان وضعه وحاله وطبعه وأخلاقه. فنكون حريصين، أشد الحرص، على ألّا نفقد أو نفصل أو نطرد أحدا مهما كان، بسبب خطأ أو خطيئة، بل نرعاه، ونربّيه، ونصبر عليه، ونحبه، ونقدره، ونهتم به ليشعر بقيمته كأحد أبناء الله وكعضو في جسد المسيح، وبالتالي يتوب ويعود عن طريق الخطأ، ويتصرف على أساس أنه ابن لله، ويسلك بما يليق بهذه الكرامة. وبهذا نكون قد ربحناه أخاً وابنا لله وللكنيسة. فليس من المتصوّر ولا من المتوقّع أن نقطع جزءا من جسد المسيح ونلقيه بعيدا، مهما كانت الأسباب. ولكن هذا لا يعني أن نتنازل ونتخلّى عن دورنا التربوي والتهذيبي والإصلاحي، بل أن نتبنّي أسلوب المسيح التربوي. فالابن الضّال ظل ابنا حتى وهو في عمق خطيئته، وفي بشاعة مأساة بعده عن الله، ظل ابنا حتى حين تعرّى من كرامته بسبب الخطيئة، وحين تجرّد من نقاوته وصار يشتهي طعام الخنازير، ظل ابنا حتى وهو في ظلمة بؤسه يهلك جوعا. وحين أخذ طريق العودة وجد أباه ينتظره، بشوق، وحب، ورحمة أعادت اليه كرامته وحياته، واحتفل به أبوه معتبرا إيّاه “كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد” (لوقا 15 : 32). هكذا يجب أن تحتفل الكنيسة بعودة أبنائها الضالين. فعلينا أن نتبنّى ونبني ثقافة الغفران والرحمة التي علّمنا إيّاها ربنا يسوع. ونتبنّى ونبني ثقافة اللقاء والاستقبال التي يعيشها ويدعو إليها قداسة البابا فرنسيس. لتصر كنائسنا واحة لقاء، وسلام، وفرح، وشركة، وعيد يلقى فيها كل إنسان ذاته، و مكانه، ومكانته، وكرامته، وتقديره كابن لله وللكنيسة في الحق والمحبة.
مسئولية وآليات العمل في الكنيسة
15. هذه المحبة الرعوية والغيرة الرسولية تترجم في برامج ومشروعات وخدمات روحية وطقسية وعملية ورعوية ورسولية وتربوية وصحية وتنموية وإنسانية … إلخ، في كل موقع، و في كل رعية، حسب ظروفها واحتياجاتها. وتشمل هذه المحبة الرعوية، والغيّرة الرسوليّة كل شخص في الكنيسة، فهي مسئوليّة شخصية لكل مسيحي معمد، كل واحد في رتبته، وحسب موهبته من الإكليروس كان أو من العلمانيين. فالمسيحي هو مرسل بذات الفعل، بفضل معموديّته واتحاده بسر موت وقيامة السيد المسيح. وقد وضع الرب في الكنيسة الأسرار الكنسيّة، و المواهب الروحيّة، والملكات العقليّة والنفسيّة، و الطاقات الجسديّة من أجل بناء شعب الله و جسد المسيح، ومن أجل الرسالة والإرساليّة إلى العالم كله. فلم يختر السيد المسيح الكنيسة من أجل ذاتها، بل اختارها لتكون شاهدة له ولمحبته في العالم، وامتدادا لرسالته بين جميع الشعوب. وقد أوصي السيد تلاميذه وكنيسته قائلا: إذهبوا في الأرض كلها واحملوا البشارة إلى الخلق أجمعين، تلمذوهم، وعمدوهم، وعلموهم كل ما قلته لكم (متى 28 : 19 – 20)، وكما أرسلني الآب أرسلكم أنا (يوحنا 20 : 21) بنفس الكيفيّة و الأسلوب، وبنفس الأدوات، ولنفس الهدف. في الرسالة، نحن لا نبشّر بأنفسنا، ولا ببرامجنا، ولا بمشروعاتنا، ولا نستعرض قدراتنا مهما كانت، بل بيسوع المسيح ربنا ومخلصا (2 كورينثوس 4 : 5)، وبملكوت الله. فالسيد المسيح حين أرسل رسله للكرازة منحهم السلطان على قوى الشر، و قال لهم قولوا للناس: “اقترب منكم ملكوت الله” (لوقا 10 : 9). فيجب علينا أن نتلقّى دائما وصايا وتعاليم رب الكرم لننقلها لكرمه، فلسنا نحن أصحاب الرسالة ولكن خدّام الرسالة وعمّال في الكرم.
خاتمة
16. أود أن أختم هذه الرسالة بما قاله الطوباوي قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، في رسالته العامة “رسالة الفادي” فقرة 3، حيث قال: “إن الله يفتح أمام الكنيسة آفاقا بشرية أكثر استعدادا لتقبل بذار الإنجيل. أستطيع القول إن الوقت قد حان لأن تلتزم كل القوى الكنسيّة في الكرازة الجديدة بالإنجيل وفي الرسالة ’’إلى الأمم’’. ما من أحد يؤمن بالمسيح، وما من مؤسسة في الكنيسة، يمكنه أن يتنصّل من هذا الواجب الأسمى، واجب إعلان المسيح لكل الناس”.
إخوتي الأحباء نصلي أن يمنحنا الرب، بشفاعة مريم العذراء أم المسيح وأم الكنيسة، عنصرة جديدة تفيض علينا، فتمنحنا روح وشجاعة الرسالة و الشهادة، وتجعلنا تلاميذ ورسل حسب رغبة قلب الرب، عنصرة تفيض من خلالنا على كل العالم، لتوقظه وتقوده إلى الخير والمحبة والعدالة، إلى نور وحضور المسيح فادي الكل ومخلص الجميع، فنتمتّع جميعا بفرح الإنجيل وثمار الكرازة، من أجل كنيسة أجمل، وعالم أفضل للجميع.
+ الأنبا بطرس
خادم إيبارشية المنيا للأقباط الكاثوليك
أسئلة للتفكير والمناقشة:
1. كيف أفهم إيماني كمسيحي كاثوليكي اليوم؟
2. كيف أعيش إيماني كمسيحي كاثوليكي اليوم؟
3. ما هو احساسي كمسيحي كاثوليكي اليوم في المجتمع؟
4. لماذا هذا الإحساس؟ من أين جاء ؟ وهل له ما يبرره؟
5. كيف أرى وأعيش حياتي الروحية؟
6. ما هي الصعوبات والتحديات التي تواجهني في سبيل عيشي لهذا الإيمان؟ وهل هي صعوبات حقيقية؟ ماذا أعمل لتخطيها؟ من وماذا يساعدني على ذلك؟
7. ما مدى إنتمائي لكنيستي الكاثوليكية؟
8. فيما يظهر هذا الإنتماء ؟ وكيف أحققه واقعيا؟
9. ما هي ميزات وفوائد هذا الانتماء؟ وماذا يساعد على تعميق هذا الانتماء؟
10. ما هي الصعوبات والتحديات التي تواجه هذا الإنتماء؟
11. انطلاقا من إيماني، ما هو الدور الذي أشعر أني مدعو للقيام به، في الكنيسة ؟ وفي المجتمع؟ و هل يتناسب مع ملكاتي وخبراتي؟
12. كيف يمكني أن أشهد للمسيح بحياتي وتصرفاتي وأعمالي؟ في بيتي ومكان عملي، اعط امثلة واقعية حقيقية.
13. ماذا في حياتي أشعر أني مدعوا للتوبة عنه وتصحيحه في حياتي وسلوكي؟ كمؤمن وكمواطن؟
14. كيف يمكنني أن أكون أكثر إيجابية؟ في أي مجال ؟ حدد بعض الأمور العملية التي تريد أن تلتزم بها لتحمل المسيح لعالمك اليوم.
————————–
توصيات:
1. قراءة أصحاح يومياً من الكتاب المقدس.
2. حفظ آية يومياً من الكتاب المقدس.
3. دراسة الرسالة العامة لقداسة البابا يوحنا بولس الثاني “رسالة الفادي” الصادرة من حاضرة الفاتيكان في 7 ديسمبر 1990، والتعمق فيها في مجموعات عمل في الرعايا، وفي الجماعات الكهنوتية والرهبانية والأنشطة الروحية والرسولية.
4. التدرب على إكتساب فضيلة جديدة شهرياً.
5. التدرّب على التخلص من عادة سيئة أو عيب فيّ أو رذيلة شهرياً.