عظة غبطة البطريرك الأنبا إبراهيم اسحق فى القداس الخاص براديو مريم
عِظَةُ الأَبِ البَطريركِ الأنبا إبراهيم إسحق
فِي قُدَّاسِ لراديو مريم بالقاهرة
“…لأَنَّ فَرَحَ الرَّبِّ هُوَ قُوَّتُكُمْ” (نحميا 10:8)
مَحَبَّةُ اللهِ الآب وَنَعَمَةُ الْاِبْنِ الْوَحِيدِ وَعَطِيَّةُ الرَّوْحِ الْقُدْسَ تَكُونُ مَعَ جَمِيعِكُمْ
الْأَبْنَاءُ الْأَحِبَّاءُ
أشكرُ الرَّبَّ معكم على هذه الفرصة السعيدة أن نحتفل معًا بالإفخارستيا ذبيحة الشُّكر في وقت صعب على الجميع نحتاج فيه إلى أن نسترد فرحنا المهدد ونصّ الإنجيل اليوم (لو10: 21-28) فرصة للكلام على الفرح الحقيقيّ.
أرسلَ الرَّبُّ يسوع تلاميذه في أرساليَّةٍ للبشارةِ فرجعوا بفرحٍ عظيمٍ لنجاحهم في المهمَّةِ، فكانوا سببًا في فرح يسوع نفسه الَّذي تهللّ بالروح وشكر أباه لأنَّه عمل عملًا عجيبًا إذ كشف سرّه للصغار والبسطاء (الرسل) ولم يفعله مع مَنْ يَدَّعون الحكمة والفهم (الكتبة والفريسيون).
ويحوّل الرَّبُ يسوع نقطة ارتكاز الفرح من النجاح الخارجيّ في الرسالة إلى جوهر الفرح الحقيقيّ “… ولكن لا تفرحوا بأنَّ الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا لأنَّ أسماءكم مكتوبة في السَّماوات” (لو10: 20). انطلاقًا من هذا النصّ الإنجيليّ أتأمَّلُ معكم حول موضوع الفرح الَّذي نحتاج إليه جدًّا خاصَّةً في هذه الأيَّام.
يغمر الفرح صفحات الكتاب المقدَّس بعهديه. ففي العهد القديم يتمُّ التعبير عنه بالأناشيد والتراتيل والمزامير والشُّكر والتَّمجيد والعبادة، وفي العهد الجديد هناك أمثلة واضحة.
فمجيء المخلّص يخلق جوًّا من الفرح، وسلام الملاك لمريم العذراء يدعوها إلى الفرح والابتهاج “إفرحي يا مريم…” فتنشد …تعظم نفسي الرَّب ّوتبتهج روحي بالله مخلصي”(لو1: 46)، ويوحنَّا المعمدان يركض جنينًا فرحًا في بطن أمه (لو1: 41)، وفي صلاته الكهنوتيَّة يُعلنُ يسوع هذا الفرح والابتهاج فيقول لوقا البشير: “في تلك الساعة تهلل يسوع بدافعٍ من الروح القدس…” (لو10: 21-28). كما يؤكِّد يسوع أنَّ السعادة والحقيقيَّة هي لمن يسمع كلام الله ويعمل به” (لو11: 28).
ما هو الفرح؟ وماذا يعنى أن أكون فرحًا؟
الفرح هو شعورٌ يصعب تحديده بالكلمات لأنَّه خبرة حياتيَّة. أمَّا إذا حاولنا تعريفه نقول:
“الفرح هو حالة انفتاح على الحياة تُجدد قوى الإنسان ونظرته للأحداث والأشخاص، فيتخطى كلّ صعب ليصل إلى الخروج من الذات، فتصبح الأشياء أكثر سهولة خاصّة العطاء”، وهو علامة شديدة الوضوح لحضور الروح القدس. فرحنُا الحقيقيّ هو ثمرة عمل الروح القدس فينا (غلا5: 22) وهو مسيرة طويلة للعلاقة الشخصيَّة مع يسوع القائم من الأموات والممجد فينا.
وهدف عمل يسوع هو أن يجعلنا في غاية الفرح. “قلت لكم هذه الأشياء ليكون بكم فرحي فيكون فرحكم تامًّا” (يو15: 11) ولا شيء يُهدد الفرح المسيحيّ، لأنَّه ثمرة من ثمار الروح القدس الَّذي يمنحنا أن نكون فرحين حتَّى في الظُّروف الصَّعبة وأن ننشط في الأوقات العصيبة.
إنَّ الفرح هو ثمرة التَّمييز في الروح القدس والَّذي يقوم في الفنّ المستمرّ لتفضيل الـ “نحن” على الـ “أنا”، والإنسان على الأشياء. فللفرح طابع اجتماعيّ وهو المرح، أيّ القدرة على جعل الآخرين فرحين، مسرورين. وهو فنّ راقٍ وصعب، وهو مهمّ جدًّا في حياة الفرد والجماعة: الأسرة، المدرسة، الرعية، المجتمع…إلخ. صحيح أن الفرح لا يعاش بنفس الطريقة في جميع مراحل الحياة وظروفها، خصوصًا إذا كان الإنسان يمرّ بظروف قاسية جدًّا في بعض أوقات الحياة. ولكن مع الألم لابد أن يُشرق شعاع نور يسمح بعيش فرح الإيمان في وسط ظلام الألم، كما تقول القدِّيسة تريزا الطفل يسوع: “الفرح يقيم في أعمق أعماق النفس، فيمكنك أن تمتلكه في ظلمة السُّجون كما في القصور”.
ونقيض الفرح هو الحزن الَّذي “يجعل كلّ شيء غير محتمل”. فالقلوب الحزينة يجعلها عدو الخير تستسلم بسرعة، أمَّا فرح الرَّبِّ فيجعلنا ننهض ونغنّي ونبكي فرحًا، كما يؤكِّد ذلك أشعياء النبي: “أمَّا الراجون للرب فتتجدد قواهم على الدوام ويرتفعون بأجنحة كالنسور ولا يتعبون إذا ركضوا ويسيرون ولا يكلون” (أش40: 31)
هناك أنواع من الحزن يعرفها مجتمعنا المعاصر مثل: عدم الرضى، الكآبة والاكتئاب الَّذي قد يصل للأسف إلى اليأس والانهيار. ويمكننا أن نقاوم الحزن ونتغلَّب على الكآبة بالتوسل إلى الروح القدس مؤمنين أن الفرح موجود حتَّى لو كان حضوره مستترًا.
هناك كثيرٌ من الأسباب الَّتي تعوق عمل الروح القدس فينا وتخطف الفرح من قلوبنا ومن حياتنا. مثل: الأنانيَّة والانغلاق على الذَّات، الهروب من واقع حياتنا من خلال ما هو مُزّيف، الخوف من مغامرة الإيمان، واختيار السهل الَّذي قد لا يبني حياتنا.
ما هي ثمار الفرح الحقيقيّ؟
ليس هناك فرح حقيقي دون حبٍّ حقيقي. ففرح الحبّ يدفعنا إلى ملء سعادة الحياة، ويدعونا إلى الصبر على بعضنا البعض، وممارسة الرحمة الَّتي تعترف بإنسانيّة الآخر. ويدعونا إلى اللطف نحو بعضنا البعض، ويُعلَّمُنا كيف نصغي؟ وكيف نتحدَّث؟ ومتى نصمت؟ فنغفرَ ونتصالحَ ونفعلَ الخيرَ للآخرين ونفرحَ لهم، فنمجدَ الله، ونستمتعَ بالسعادة في كلِّ ظروف حياتنا.
إنّ الفرح الحقيقيّ يسمح لنا أن نتذوّق فرص الخير الَّتي تُقدِّمها لنا الحياة، أيّ الفرح الَّذي نعيشه في شركة مع الآخرين “فالسَّعادَةُ في العَطاءِ أَعظَمُ مِنها في الأَخذ” (أعمال 20: 35).
ختامًا
نحن مدعوون أن نفتح قلوبنا للّقاء مع كلمة الله ونصغي إليها بانتباه، لأنَّ اللّقاء مع كلمة الله يملؤنا فرحًا وهذا الفرح هو قوَّتُنا. هذه هي رسالة اليوم لنا جميعًا، أخيرًا: هل أنا مقتنع حقًّا أنَّ فرح الرَّبّ هو قوّتي؟
كوبري القبة 13يوليو 2020
+ إبراهيم اسحق
بطريرك الاسكندرية للأقباط الكاثوليك