عظة قداس ختام مؤتمر بطاركة الشرق الكاثوليك السابع والعشرين 29/11/2019
عظة قداس ختام مؤتمر بطاركة الشرق الكاثوليك
السابع والعشرين 29/11/2019
“لاَ تَخَفْ، أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ” (لو12: 32).
قد يتساءل البعضُ، لماذا نحنُ جميعًا اليومَ هنا؟ ببساطةٍ نحنُ هنا لنشكرَ الرَّبَ معًا على نعمةِ قيادتِهِ للكنيسةِ بعملِ روحِهِ القدّوسِ في خُدَّامِها ورعاتِها. اليوم مَعَنَا أصحابُ الغبطةِ بطاركةِ الشّرقِ الكاثوليك لختامِ المؤتمرِ السابعِ والعشرينَ، والذي كان موضوعُهُ، كما تابعْتُم ” الإعلام في خدمةِ الإنجيل”.
وكما بدأنَا يومَ الاثنين الماضي 25 نوفمبر، هذا المؤتمرَ بالصلاةِ الجّماعيّةِ، في كنيسةِ الإكليريكيّةِ بالمعادي، نختمُهُ اليومَ في كاتدرائيّةِ السّيدةِ العذراءِ بمدينةِ نصر، بالإفخارستيّا التي توحِّدُنَا كُلَّنَا فنكوّن جسد المسيح الحيّ، كنيسة المسيح الحيّة الشاهدةَ لمحبتِهِ للبشرِ.
قضيْنَا خمسةَ أيامٍ من المحادثاتِ والاستماعِ إلى محاضراتٍ قيّمةٍ، أعقبَتْها مشاركاتٌ ومناقشاتٌ غنيّةٌ فتحَتْ لنا آفاقًا جديدةً، لأهميّةِ لُغةِ العصرِ، وأهميّةِ استثمارِ وسائلِ التّواصلِ الاجتماعيّ، لكي نُميّزَ إيجابيّاتِها، ونعيَ مخاطِرَها وتحدياتِها. كان يومُنا يبدأُ بصلاةِ القدّاسِ بأحدِ طقوسِنَا الشرقيّةِ بالتّناوبِ. واليومَ نختمُ بالقدّاسِ حَسَبَ الطّقسِ القبطيّ. لكم أنْ تتصوّروا غنى هذه اللقاءاتِ لكُلِّ شخصٍ من المشاركينَ في خبرةِ كنيستِهِ. لَقَدْ لمسْنَا بالفعلِ روعةَ هذا الغنى والتكاملِ في روحِ المحبّةِ والاحترامِ الأخويّ المتبادل.
وقد قمْنَا خلال الأيام الماضيةِ بلقاءاتٍ رسميّةٍ ووديّةٍ، منها لقاء فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهوريّة، وكذلك اللقاء الأخويّ مع قداسةِ البابا تواضروس الثاني.
سمعْنَا في إنجيلِ اليوم كلمةَ الرَّبِّ يسوعَ، يطمئنُ بها قطيعَهُ الصغيرَ من المؤمنينَ به “لاَ تَخَفْ، أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ” (لو12: 32). تُرى ما هو هذا الملكوت، الذي يريدُ أنْ يعطيَهُ لنا الآبُ السماويّ؟! يظنُ الكثيرونَ أنَّهُ مملكةٌ، أو مركزُ سلطةٍ، أو شيءٌ من هذا القبيلِ، إنّما هو برٌّ وسلامٌ وفرحٌ في الرّوحِ القدسِ، كما يعلنُهُ بولسُ الرّسول (رو14: 17). ويمكنُنَا أنْ نستنتجَهُ من خلالِ صلاةِ الأبانا حينما نقولُ “ليأتِ ملكوتُكَ” (مت6: 10).
هو ببساطةٍ أنْ ندعَ الله يملكُ على حياتِنَا كلِّها، من أفكارٍ وأقوالٍ وأفعالٍ. كلٌ مِنا يطرحُ سؤالاً على نفسِهِ حاليًا، على ماذا يملكُ اللهُ فعليًّا في حياتي؟ وماذا أفعلُ حتى يملكَ على كلِّ حياتي؟ أنْ يملكَ على افكاري يعني أن تكونَ كلُها للخيرِ والسّلامِ والمحبّةِ، وأنْ نستخدمَ نعمةَ العقلِ لخيرِ كلِّ إنسانٍ.
أنْ يملكَ على أقوالي، يعني أنْ تكونَ كلماتي للبناءِ والتشجيعِ، صانعةً جسورَ السّلامِ بينَ الناسِ، وأنْ تكونَ حرةً صادقةً تعبِّرُ عن الحقِّ، دونَ أنْ تجرحَ وتهدمَ الآخرين.
أنْ يملكَ على أفعالي، يعني أنَّ أعمالي تشعُ وجهَ المسيحِ، عندما أُسامحُ الآخرين، وعندما أكون وفيًّا مخلصًا وعندما أُضحي دونَ أنْ أنتظرَ شيئًا وعندما أُساهم في شفاءِ جروحِ الآخرين المعنويّةِ والجسديّةِ.
فإنَّ الملكوتَ يستوجبُ من بابِ المحبّةِ، أنْ نشركَ الآخرين فيه. هذا ما فعلَتْهُ العذراءُ مريم عَقِبَ بشارةِ الملاكِ لها حيثُ حَمَلَتْ يسوعَ في أحشائِها إلى بيتِ زكريا، لتخدمَ دون أن يُطلبَ منها. فالمحبَّةُ التي لا تتحوّلُ إلى خدمةٍ، هي نحاسٌ يطنُ، أو صنجٌ يرنُ، كما يقولُ بولسُ الرّسول. فملكوتُ الله وديعةٌ لا يجبُ أنْ تدفنَ، بل هي لاستثمارِ الإيمانِ العاملِ بالمحبّةِ.
مقارنةً بعصرِ مريمَ العذراءِ، ففي عصرِنَا تنتشرُ وسائلُ التكنولوجيا الحديثة غاية في التّقدمِ الدّقةِ، ووسائلُ التّواصلِ الاجتماعيّ التي نستخدمُهَا كلُنَا، والتي صارَ لا غنى عنها للحياةِ اليوميّةِ. وهي تحتاجُ مِنَا إلى وداعةِ الحمامِ وحكمةِ الحيّاتِ. فالكلمةُ الطيبةُ والحكمةُ المفيدةُ، والفيلم الهادفُ وغيرُهَا كلُّها وسائلُ لإشراكِ الآخرينَ في ملكوتِ الله.
ولكنْ مَنْ مِنَا لا يتألّمُ حينما لا تحترمُ هذه التكنولوجيا الطاغيةُ كرامةَ الإنسانِ وخصوصيَّتَهُ! سمعتَهُ وشرفَهُ؟! كم من تشويهٍ للحقيقةِ أحيانًا، وكم من قلبٍ للموازين؟ لنسهرْ على ألاَّ يزرعَ الشيطانُ في أدواتِ التكنولوجيا، ما يجعلُهُ يسودُ ويتملَّكُ على حياتِنَا، فلا ننسَ أنَّ يسوعَ المسيح، هو الطريقُ والحقُّ والحياةُ، فنعرفَ في نفسِ الوقتِ كما يقولُ بولسُ الرّسولُ: “إنّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تحِلُّ لِي، لكِنْ لَيْسَ كُلَّ الأَشْيَاءِ تُوافِقُ” (1كور6: 12). وإنّ المسيحَ حرَّرَنَا لنكونَ أحرارًا فلا نجعل هذه الحريَّةَ حُجَّةً لإرضاءِ شهواتِنَا وأنانيتِنَا، فنقعَ في العبوديّةِ، بل فلنخدمْ بعضُنَا بعضًا بالمحبّةِ. أمين.
† الأنبا إبراهيم اسحق
بطريرك الإسكندريّة للأقباط الكاثوليك