فلسفة الموت في فكر مارتن هيدجر-أشرف ناجح إبراهيم
فلسفة الموت في فكر مارتن هيدجر-أشرف ناجح إبراهيم
أشرف ناجح إبراهيم
مقـــدمة
إنّ الموت هو حدث يومي في حياتنا، ومرأى المقابر لا يثير أحداً؛ ومع ذلك تهزنا المفاجأة وينعقد اللسان حينما يتخطف الموت من نحب من الأقارب والأصدقاء، إلى الدرجة التي نحس فيها وكأننا نسمع بالموت لأول مرة وندخل عبر تلك البوابة الميتافيزيقية لننظر قسراً في نافذة الموت بعيون الخرافة أوالدين أو الفلسفة وننتقي ونلفق من كلّ ذلك ما يناسب حالنا في تلك اللحظة الجزعة؛ ما يسكن فينا القلق والروع ويعيدنا مرة أخرى إلى مجرى الطمأنينة والاستغراق في الحياة العادية والاستسلام لخمول الفكر اليومي. فإنّ أصعب شعور قد يشعره إنسان، حين يمسك الموت بقبضته على حبيب أو صديق له. فهنا يظهر الموت في أقسى صورة ممكنة في نظر الأحياء. ولكن ما أبعد ذلك السرّ عن الإنسان؟ فمن أين للمرء أن يكتشفه؟ فهو حين يأتي لا يترك ورائه سوى صمت رهيب!
وكثيرون هم الفلاسفة الذين تعرضوا لهذا السرّ المؤلم أي الموت. وقد رغبنا في دراسة الموت عند أحدهم وهو هيدجر بالذات، لأنّ هيدجر بحسب ما نرى هو من أهمهم نظراً لفكرته العميقة عن الموت.
أما عن أسباب اختيارنا لهذا الموضوع بالذات، فيرجع أولاً إلى خبرة ذقنا فيها مرارة الموت عندما ينتزع منا من أحببناه وأحبنا. وثانياً رغبة منا في تعميق ما درسناه عن الموت، ورغبة في الولوج في أعماق هذا الحدّ الأليم.
وفي خدمة ذلك جاءت خطة البحث مقسمة إلى فصلين:
الفصل الأول، وهو بعنوان” هيدجر حياته وفلسفته”: تحدثنا فيه عن هيدجر من حيث حياته وفلسفته، وختمنا الفصل بحديث عن الموت من حيث هو سرّ، وأهمية قبوله في حياتنا.
الفصل الثاني، وهو بعنوان” ماهية الموت عند هيدجر”: قمنا فيه بمحاولة لعرض الموت من وجهة نظر هيدجر التي قد نتفق أو نختلف معه بشأنها.
وقد دخلنا في مضمار البحث في هذا السرّ، لعل هذا يكون معين لنا في إيجاد إجابة على الأسئلة التي دارت بخلدنا إزاء هذا السرّ والتي نأمل الوصول إلى أغوارها.
الفصل الأول
هيدجر حياته وفلسفته
أولاً: لمحة عن حياة هيدجر
يعتبر بحق مارتن هيدجر Martin Heidegger هو المؤسس الحقيقي للوجودية. وقد ولد هذا الفيلسوف في 20 سبتمبر عام 1889 في مسكرش Messkir في ألمانيا لأسرة عميقة الجذور في هذا الإقليم. وكان أبوه فريدرش Friedrich صانع براميل وفي الوقت نفسه كان أمينا لخزانة كنيسة القديس مارتن في تلك المدينة، وكانت أمه تدعى يوهانا كمفJohanna Kempf . وقد نشأ الفيلسوف الألماني من أسرة مسيحية تنتسب إلى الكنيسة الكاثوليكية، وكان والداه يريدان أن يلحقاه بسلك الكهنوت، ولكنه لم يرد لنفسه الاستمرار في تعليم اللاهوت.
لقد دخل هيدجر المدرسة الثانوية في كونستانس من عام 1903 إلى 1906. وتابع هيدجر تعليمه اللاهوتي في معهد فرايبورج الأسقفي حتى سنة 1909 حيث كان طالباً داخلياً.
لقد قضى عاماً في معهد اليسوعيين، ودخل بعده جامعة فرايبورج في بريسجاو حيث أتم دراسته في اللاهوت والفلسفة. وأخذ يقرأ بنفسه مؤلفات هوسرل في الفينومينولوجيا . وقد تلقى أول تعليم فلسفي له على يد اثنين من أشهر رجالات المدرسة الكانتية الجديدة ، ألا وهما فندلباند Windelband وريكرت Rickert.
وقد حصل في عام 1914 على الدكتوراه الأولى مع رسالة عن ” نظرية الحكم في النزعة النفسانية”. وعين بعدها معيداً في تلك الجامعة، ثم نشر في عام 1916 رسالة الدكتوراه الثانية، دكتوراه التأهيل للتدريس بالجامعة، عن “نظرية المقولات والمعنى عند دونس سكوت” . وقد ذاع صيته في الأوساط الفلسفية باعتباره مفكرا أصيلاً.
ولم يلبث هيدجر أن عين أستاذاً للفلسفة بجامعة ماربورج Marburg سنة1923، وقد اُنتخب رسمياً مديراً للجامعة، فعكف منذ ذلك الحين على تعميق مشكلة الوجود واهتم بالكثير من المسائل الميتافيزيقيا الأخرى. وحينما بلغ هسرل سن التقاعد، خلفه هيدجر أستاذاً للفلسفة بجامعة فرايبورج عام 1929، وكان هذا بناء على توصية هوسرل. وفي عام 1933 انتخب رسمياً مديراً لجامعة فرايبورج.
في مايو عام 1933 نشرت الصحف المحلية خبر انضمام هيدجر رسمياً إلى الحزب الوطني الاشتراكي ( النازي)، وكان هتلر قد تولى الحكم في ألمانيا في يناير من نفس العام. ووقع بعد ذلك في خلاف مع السلطات حيث أنه رفض طلبهم بشأن فصل اثنين من العمداء في جامعة فرايبورج، وقام بتقديم استقالته من منصبه وقبلت، ومن هنا صار هدفاً للمضايقات من جانب السلطات. ولما دخل الحلفاء ألمانيا في سنة 1945اعتبروه مِن أعوان النازية فمنعوه مِن التدريس بالجامعات الألمانية بعد انتهاء الحرب، ولكن كتاباته قد لقيت مع ذلك اهتمامًا كبيراً من جانب المشتغلين بالفلسفة في ألمانيا. وفي سنة 1951أُعيد هيدجر إلى منصبه أستاذاً في جامعة فريبورج.
كان هيدجر قد تزوج في سنة 1917مِن امرأة تدعى ألفريد بترى Elfredepetri ورُزق منها بأول ولد وهو يرج Jorg في سنة 1919، وبالولد الثاني هرمنHermann في سنة 1920. وقد تعددت سفريات هيدجر فقد سافر إلى فرنسا أكثر مِن مرة، وقام بأول رحلة له إلى اليونان في ابريل عام 1962. وأمضى بقية حياته في بيته الجبلي في توتناوبرج، إلى أن توفي في 26مايو سنة 1976في مسكرش مسقط رأسه.
ثانياً: هيدجر وفلسفته
إنّ فلسفة مارتن هيدجر« هي مِن بين سائر الفلسفات الوجودية أكثرها عمقا وأشدها طرافة». لقد أعلن هيدجر مراراً أنّ فلسفته ليست فلسفة وجود إنساني وإنما هي فلسفة وجود عام. ونجده رفض تسمية فلسفته باسم”الوجودية”، فذلك لأنه قد حرص على أن يبين لنا أنّ” الأونطولوجيا” هي موضوع دراسته، لا مجرد وصف الوجود الإنساني.
ولقد فرق بين ما هو مجرد تعبير عن الوجود، وما هو داخل ضمن مقومات الوجود. وهذه التفرقة في نظره هي التي قد تسمح لنا أن نقول: إنّ فلسفته” أونطولوجية” تدرس مقومات الوجود الإنساني عموماً، لا مجرد صفات الموجود الفردي. ومِن أهم مقومات الموجود عند هيدجر” الوجود في العالم”، ” الوجود مع الآخرين”، والنزوع المستمر نحو” التعالي” أو” المفارقة” . ومن هنا يتضح لنا تمييز أساسي بين ميدان الوجود، وميدان الموجود، أو بين الوجودي( الأنطولوجي) وبين الموجودي. فالانطولوجي يرجع إلى ما يجعل الموجود موجوداً، أي يرجع إلى تركيبه الأساسي. أمّا الموجودي فيشمل الموجود كما هو معطى.
إن المثل الأعلى لفلسفة هيدجر، التي يغلب عليها طابع” المباطنة” أو” الكهون” في العالم، وتصر على رفض أي عون يأتي من أعلى لتحديد أصالة الإنسان وحقيقة وجوده؛ هو” الوجود الأصيل ولا شيء سواء”. وقد أراد هيدجر أن يفهم” الوجود” بصفة عامة، إلا أنه يرى في كينونة الموجود البشري سبيلاً مشروعاً لفهم حقيقة الوجود بوجه عام. إنه يقرر أننا لا نفهم الوجود إلا عن طريق وجودنا أو في صميم كينونتنا، وبهذا المعنى يمكن القول بأن الأونطولوجيا هي وجودنا نفسه. إن هيدجر يريد أن يقصر كلمة” الوجود” على الإنسان، فنراه يقول:« إن الحيوان” يحيا”، والموضوعات الرياضية” تبقى”، والأدوات المادية” تظل” تحت تصرفنا، ومظاهر الطبيعية” تتجلى” أمامنا، ولكن الإنسان وحده هو الذي” يوجد” بكل ما في كلمة” الوجود” من معنى». وقد أكد على دور الآنية في أنه يقتصر على الاستماع إلى نداء الوجود نفسه ويصبح” راعي بيت الوجود”.
قد اختلف النقاد في الحكم على فلسفة هيدجر، فمنهم من قام بالهجوم بشدة عليه ومنهم أسرف في مدحه. وما يلفت النظر حقا هو أن” لغة هيدجر” هي المدخل إلى الحكم له أو عليه، فان فهمها الناقد ورآها واضحة أعجب بهيدجر؛ وإن أساء فهمها وأعتقد أنها غامضة معقدة رماه بالإغماض والإرباك. والحق أن هيدجر لم يحاول أن يتعمد الغموض، فهو يجاهد في سبيل التواصل مع قرائه، ولكن إن وجد غموض فمرجعه هو الغموض في الموضوعات التي يواجهها هيدجر محاولاً كشفها. إن هيدجر« لا يستهدف من وراء فلسفته أن تعطي القاري إجابة واضحة عن الموضوعات التي يتناولها، بل يود، على العكس من ذلك، أن يستثار القاري بالسؤال ويكابد المشكلة مكابدة إلى حد الدهشة إزاءها».
ثالثاً: سرّ الموت
« إنك لن تموت.. هذا الملك لن يموت» …هكذا كان المصري القديم يكتب على جدران معابده، التي بناءها بعناية فائقة للملك المتوفى. وقد كان موقفه أمام الموت موقف الاحتجاج الواضح ضده، فهو كان يعتقد شديد الاعتقاد في البعث والخلود.
إن الجنس البشري كله، وليس المصري القديم فقط، يرى الموت الحد النهائي الذي يتحدى القيم، ويكذب شتى مزاعم الإنسان، ويلقي على كل ما في وجوده من آمال ظلال الفناء، لذلك تصبو الإنسانية لأن تقضى عليه وتلغيه. وهو الذي يدفع الإنسان بأن يدرك أن الكل باطل وقبض الريح، وأن الحياة ظلال لا تلبث حتى تنتهي.
الإنسان وحده الذي لديه الإمكانية أن يأخذ موقفاً أمام الموت، ولاسيما أنه هو الكائن الوحيد الذي يعرف أنه يموت. وهناك مواقف متعددة حيال حد الموت تتمثل في رفضه، أو الاستسلام له، أو البحث عن معنى أمامه. فيمكن للإنسان أن يعطي، بطرق مختلفة، معنى للموت فيصبح جزء من حياته، بل عنصراً أساسياً في حياته الإنسانية. فإذا لم يقبل الموت لن يقبل حياته، فمن شروط النضج هو قبول الموت. وهذا القبول لا يعني الاستسلام له أو السعي إليه، إنما أن يأخذ الموت مكاناً في حياته فلا يصبح مرفوضاً بالنسبة له.
يرى هيدجر في كتابه” الوجود والزمن”، الذي كتابه في عام 1927، أن الموت يعطي جدية للوجود الإنساني، فعندما ينفتح الإنسان على إمكانية الموت يدرك أن الإمكانيات الكثيرة الذي يريد تحقيقها ليست هي الهدف، فالموت إذن بمثابة تذكير للإنسان بنسبة أي إمكانية.
إن الموت بالنسبة للإنسان ليس مجرد مشكلة إنما هو سرّ. وهناك فرق بين المشكلة والسرّ، فالأولى شيء يلتقي به المرء من الخارج فيقف حائلاً دون تقدمه. أما السرّ فهو شيء يتلبس بنا، ويغلف بغموضه صميم وجودنا، فلا نملك أن ننظر إليه من الخارج، لأننا مرتبط به ومندمجون فيه. وبهذا المعنى يمكننا أن نقول أن الموت سرّ لا يكاد ينفصل عن صميم وجودنا، مادام وجودنا زمنياً متناهياً يسير حتماً نحو الفناء. والموت أيضاً سرّ لأننا كلما حاولنا سبر أغواره فهو يزداد عمقاً وغموضاً، فعلى الرغم من أن الموت هو الحقيقة التي لاشك فيها؛ إلا أنه سر هيهات للعقل البشري أن يتمكن يوماً من الكشف عنه. إن في الكون ألغازاً كثيرة لا يحاول المرء العادي معرفة كنهها، لأنه يشعر بأنها ليست داخله في صميم وجوده؛ لكن لا أحد يقف ساكناً حيال ذلك السر الخاص الذي يقبع في أعماق وجوده.
إن الإنسان، في كل مكان وكل زمان، يسعى لأن يجد تفسيراً لذلك السر أي الموت، ولكنه سرعان ما يتحقق من أن الموت هو ذلك الحدث المجهول الذي يضعنا وجهاً لوجه أمام الأخر الذي لا تفسير له سوى أنه لا يفسر. وقد حاول الفيلسوف هيدجر أن يجهد ذهنه وقلبه وكل كيانه في البحث عن تفسير لذلك السر الذي يغلف وجودنا، حاول ذلك بكل ما أوتى من ذكاء وحكمة وخبرة، فكانت ثمرة ذلك المجهود تفسيراً هاماً عن الموت، الذي قد نتفق أو نختلف معه حيال بعض الأفكار التي جاءت في تفسيره.
الفصل الثاني
ماهية الموت عند هيدجر
أولاً: التعريف بالموت
1. الموت ظاهرة يجب فهمها وجودياً
الناس من حولنا لهم أفكار غريبة أو ناقصة عن الموت. فالحياة العامة التي نحياها مع الآخرين تعّرف الموت بوصفه حادثاً يقع كل يوم. وهذا هو الالتباس الذي يقع فيه الناس حين يلغون عن الموت، فليس الموت”حدثاً” أو” حالة وفاة” أو” نهاية” تبلغها الأنا بعد أن تقطع عمراً طويلاً أو قصيراً، كما تصور لنا الأنطولوجيا التقليدية، إنما على_ حد تعبير هيدجر_ « ظاهرة يجب فهمها وجودياً». وهذه الظاهرة لا بد من توضيح معناها المتميز وتحديد معالمها.
إن الموت في نظر الناس شيء غير محدد، لابد أن يأتي من مكان مجهول يصيب مجهولين، فهو مجرد حادث يصيب كل إنسان ولا يصيب إنساناً بالذات. هو حالة مألوفة وواقع متكرر، ولهذا يهربون منه، يحجبون طابع الإمكان الذي ينطوي عليه وما يتصل به من توحد رهيب ينبع من انعدام كل علاقة واستحالة النجاة منه أو تخطيه. وهم بهذا يحرمون الآنية من أخص إمكانيات وجودها، ويزينون لها أن تضيع في الناس ومسكناتهم المألوفة عن الموت. الموت عند الناس يقيني، محتوم، لا مفر منه، ولكن هذا كله يأتي من تجربتهم بموت الآخرين، بحقيقة معروفة جربها كل الناس قبلنا، وقد تقع لمن نرعاه ونعزيه عنها، ولكنها لم تزل بعيدة عنا مؤقتاً. ومثل هذا اليقين المزعوم يلغي اليقين المميز للموت ويحجبه، يقين إمكانه في كل لحظة، وهو الذي ينبع من إمكانية الوجود الخاصة بالآنية نفسها.
يؤكد هيدجر على أن« الوجود الإنساني وجود متناه، وهذا التناهي هو مصدر القول والفعل. وإننا نمارس القول والفعل بالرغم من الموت. فالموت ليس شيئاً عارضاً بل هو نسيج الوجود الإنساني». فليس الموت إذاً حادثاً يطرأ على الحي، بل الحي يحمل الموت بين جوانحه منذ أن بدأ حياته. وإنما يوهم الناس أنفسهم بالفرار من الموت، وذلك بإحالته إلى مجرد وقائع إحصائية لعد الوفيات، أو برده إلى اليقين بأن كل نفس ذائقة الموت، وكأن الموت يهم الناس ولا يهم أحداً بالذات، مع أنه« في الموت يتم الشعور بالفردية إلى أقصى درجة إذ يشعر من يموت أنه يموت وحده لا يشاركه في موته أحد».
2. الموت ليس الثمرة أو القمة العليا
لقد اعتدنا أن ننظر إلى الموت نظرة طبيعية، كأنما هو أوج عملية النضج المستمر التي تتحقق عبر مراحل الصبا والشباب والرجولة. ولكن الموت لا يشبه سقوط الثمرة الناضجة. ويمكننا القول أن الفناء من الإنسان ليس كالحصاد من الزرع، لأن الإنسان مهدد بالموت في كل لحظة من لحظات حياته، إن لم نقل منذ بداية حياته. والموت واقعة عرضية قد تتحقق قبل الأوان أو بعده، والشباب اليانع دليل على ذلك، فعندما يصرعهم الموت لا يكونون قد أتموا النضج أو الاكتمال، بينما هو قد يمهل شيوخاً طاعنين في السن فلا يقدم إليهم إلا بعد فوات الوقت المناسب.
الموت أيضاً لا يمكن أن يكون أوج الحياة بمعنى القمة العليا التي تبلغها، فهو ليس الثمرة التي تبلغ فيها الحياة تمام نضجها، لأن الحياة لا تبلغ أعلى درجاتها في الموت، لأن الثمرة تمثل التمام بينما الموت تحطيم للحياة وقضاء عليها. وليس الموت وقوفاً للحياة كما يقف المطر، لأنه في الموت لا تختفي الحياة مجرد اختفاء، بل الحياة تنطوي على الموت منذ هي حياة. ولهذا يقول هيدجر:« إن هذا الوجود هو بطبعه وجود لفناء أو وجود للموت. فبمجرد أن يولد الإنسان يكون ناضجاً للموت». ولذا علينا أن نفهم ” إمكان الوجود” في كليته ووحدته الشاملة، ولن نفعل هذا حتى ندخل نهاية الآنية في تحليلاتنا.
ليس” موتي” واقعة تظهر في ختام حياتي، بل هو واقعة ماثلة في صميم حياتي في كل لحظة، أي هي واقعة لا تكاد تنفصل عن فعل وجودي نفسه. وليس الموت في نظر هيدجر بمثابة فكرة النهاية، بل هو واقعة الانتهاء نفسها. وهذا هو السبب في أن هيدجر لا يرى في الموت عرضاً أوحدثاً يأتي من الخارج ، بل هو يرى فيه إلى إمكانية من إمكانيات الوجود الإنساني. وإذا كان البعض قد ظن أن الموت عند هيدجر هو” استحالة كل إمكانية”، فعليهم أن يعيدوا تصحيح هذه الصيغة ويقولوا إن الموت عنده هو” إمكانية الاستحالة”. وهذا
يعني أن الموجود الإنساني حينما يتقبل الموت باعتباره أكثر إمكانياته شخصية وفردية وتميزاً، فإنه بذلك يجعل منه حدثاً ذاتياً لا يخرج عن دائرة حريته.
الموت إذن لا يعّبر عن اكتمال أو تحقق، لأنه لا يحقق النضوج، إنما الموت هو أسلوب في الوجود لا يكاد ينفصل عن حياة الموجود البشري. فكم من آنية انتهت قبل أن تبلغ الكمال؟ وكم من آنية بلغت الكمال قبل موتها أو انتهت مستهلكة بعيدة كل البعد عن الكمال؟ فكيف يكون الموت نهاية الآنية؟ ويعبر هيدجر عن ذلك قائلاً:« وبقدر ما تكون الآنية _ ما بقيت كائنة_ هي ما ليس بعد، بقدر ما تكون دائما هي نهايتها. والانتهاء الذي نصفه بالموت لا يعني بلوغ النهاية، بل يعني الوجود من أجل الانتهاء».
3. الوجود لأجل الموت
الموت ظاهرة من ظواهر الحياة. والحياة أسلوب وجود مرتبط بالوجود في العالم. فكأن الموت هو إمكانية عدم الوجود في العالم أو إمكانية استحالة كل إمكانية. إنه بمجرد أن ينظر الإنسان إلي العالم الموجود، فإن سرعان ما تدب فيه الشيخوخة، وكأنما هو من الهرم بحيث يمكن أن يموت. وبهذا المعني يمكننا أن نقول أن فعل الحياة، بالنسبة إلينا، إنما ينحصر في أننا نحيا موتنا! ولعل هذا هو السبب في أننا قد ننظر إلى الموت وجهاً لوجه، بل قد تعد نهايتنا حاضرة بمعنى ما من المعاني حتى قبل أن تحين ساعة الموت، فيكون تقبلنا للموت في هذه الحالة بمثابة انتظار مستمر للحظة النهاية.
إن الموت داخل منذ لحظة الميلاد، ولهذا وجود الإنسان وجود نحو الموت، فعلى حد تعبير هيدجر: «مع الموت يقف الوجود الإنساني أمام ذاته في إمكانيته». فإن وجودي هو وجود نحو الموت، فالموت هو الإمكانية القصوى للإنسان، وهو الذي يطرح التساؤل: ماذا أفعل بوجودي هذا المتجهة نحو الموت؟ إنه علي أن أحول وجودي إلى عمل بتكثيف إمكانياتي حتى يمكن للوجود أن ينكشف، فالموت واقف في انفتاح الوجود.
ليس الإنسان هو الموجود الوحيد الذي يعرف أنه فانٍ فحسب، بل إن الإنسان أيضاً هو الموجود الوحيد الذي يدخل الموت في صميم وجوده باعتباره أعلى ما لديه من إمكانيات. فهذا الحدّ الأليم_ حد الموت أوالفناء أو التناهي_ هو الذي يحدد الوجود الإنساني ويميزه، بحيث قد يكون من الممكن أن نقول أن الوجود البشري بطبيعته” وجود للموت” أو ” وجود من أجل الموت”، أي أننا مجعولون للموت. فوجودي هو الشيء الوحيد الذي أملكه، وهو أيضاً الشيء الوحيد الذي أنا معرض لفقدانه في كل لحظة.
ليس إذن للانتحار، في نظر هيدجر، أي معنى، فإنه لا يغير شيئاً من طبيعة الوجود الإنساني باعتباره وجود مجعولاً للموت. فإن الذات التي تدرك معنى” الوجود” لا تقدم على الانتحار ولا تتعجل الموت، بل هي تتقبل بحريتها ذلك” التناهي” المستمر الذي هو صميم وجودها. وحينما يعرف الإنسان أن الموت ممكن في كل لحظة ,فإنه يسم بطابعه كل فعل من أفعاله، فإنه قد يشعر بما في الفعل من” بطلان”. فإننا نحن نحيا كل يوم موتنا، نحياه في أقوالنا وأفعالنا وعلاقتنا. فالآنية_ من حيث هي وجود_ يجعلها تموت دائماً وبالفعل، ما بقيت موجودة ولم تبلغ نهايتها بعد. ومعنى أنها تموت دائماً وبالفعل في كل لحظة تقع بين الميلاد والوفاة، إنها اختارت بشكل من الأشكال نوع وجودها للموت.
ليس الموت براجع إلى نقص في معرفتنا العلمية، أو إلى وجود بعض الثغرات في علوم الحياة، وإنما هو الضريبة الفادحة التي لابد من أن يدفعها الموجود البشري المتناهي حتى يتسنى له أن يحقق مصيره في الزمان. وقد جعل هيدجر من الوجود البشري وجوداً متناهياً يسير نحو الموت، فقال بأن” موتي” هو أعلى إمكانية من إمكانياتي، وتلك هي إمكانية عجزي عن تحقيق أي وجود في العالم. وقد عبّر زكريا إبراهيم عن ذلك العجز، بقولاً معبراً، فقال: إن الموت:« هو مرض ميتافيزيقي لا علاج له! إنها لعنة التناهي التي تخل بالإنسان منذ ولادته، وكأنما كتب عليه أن يموت لمجرد أنه قد ولد! آية ذلك أن الإنسان” يموت”، لا لأنه” يمرض” أو” يهرم” أو” يصاب بحادث”، بل لمجرد أنه” يولد” أو” يعيش”! والموت حق على كل إنسان: فإن ضرورة الفناء لهي_ بمعنى ما من المعاني_ ماهية الحياة ».
ويمكننا أن نقول مع هيدجر أن الإنسان لا يوجد إلا في وجه الموت، مادامت الحياة والموت متداخلتين في صميم الوجود الواعي للإنسان. وهذا هو السبب في أننا قد ننظر إلى الموت وجهاً لوجه، ونعد نهايتنا حاضرة. فالموت إذن ليس حدثاً ولا واقعة فحسب، إنما هو يتغلغل في حياتنا كل لحظة من الميلاد إلى الوفاة.
4. الموت هو إمكانية الاستحالة
إن هيدجر يرى في الموت« أعلى إمكانية من إمكانيات الوجود البشري» ، فليس الموت عند هيدجر استحالة كل إمكانية بل الأصح هو إمكانية الاستحالة. وهذا يعني أن الموجود البشري حينما يتقبل الموت باعتباره أكثر إمكانياته شخصية وفرادة وتميزاً، فإنه بذلك يجعل منه حدثاً ذاتياً لا يخرج عن دائرة حريته. فعلى الإنسان أن يتمثل للموت باعتباره أعلى إمكانية من وجوده الإنساني. وأننا لا يمكن أن ندرك ذواتنا إدراكاً كلياً شاملاً، إلا إذا عرفنا أنفسنا باعتبارنا موجودات فانية يدخل الموت في صميم إمكانيات وجودها.
الموت من حيث هو أعلى إمكانيات هذا الوجود وأشدها خصوصية وتفرداً، هو يختلف عن إمكان وجود شيء من الأشياء التي تحت تصرفنا وفي متناول أيدينا، أن نجدها حاضرة أمامنا. والآنية تسلك إزاءه مسلك الانتظار والتوتر والترقب لإمكانية ستقع يقيناً ولكن في وقت غير معلوم. ولذا يوصف الوجود للموت بأنه استباق إلى الإمكانية، أي إمكانية كل وجود أو” استحالته”.إذا كانت حياتنا في صميمها هي سلسلة من المشروعات والتصميمات، أو إذا كان وجودنا هو في جوهره اتجاه مستمر نحو ممكناتنا، فإنه لابد من أن تجيء لحظة نجد فيها أنفسنا بإزاء استحالة كل إمكانية، وتلك هي لحظة الموت.
ثانياً: معضلات في طريق الموت
1. موتي أنا
إن الكائنات الحية من نبات وحيوان تنتهي، أما الإنسان فهو وحده الذي يموت. لأنه هو وحده الذي يهتم بأعلى إمكانيات وجوده وأخصها، وهي إمكانية استحالته وانتهائه وموته. وإننا نرى الآخرين يموتون، ولكننا لا نختبر بذواتنا معنى الموت بالنسبة إلى الشخص الذي يموت. ويرى هيدجر أنه حينما أتحدث عن واقعة” موتي”، فإنني أتحدث عن واقعة شخصية. فبقدر ما يكون الموت، يكون أساساً موتي أنا.
يصعب على الإنسان أن يتصور موته هو، لأن واقعة موته تضطره أن يتصور العالم بدونه، وهذا ما لا سبيل له إلى تصوره! ومن هنا فإنه يظن أن الموت قد يصيب غيره من البشر، هذا الشعور هو أن إحساس الإنسان بالوجود هو من الشدة بحيث أن كل فرد منا لينسب إلى نفسه ميزة البقاء. وعبر زكريا إبراهيم عن هذا قائلاً:« لماذا كتب علي أن أموت وحدي؟! يخيل إلي أنه ليس أقسى على نفس المحتضر من أن يشعر أنه يموت وحده، وأن العالم مستمر من بعده، دون أن يحفل بغيابه في كثير أو قليل! أليس في الموت وحدة أليمة تزيد من هوله. وتجعل منه واقعة فردية أليمة ».
يتم في الموت الشعور بالفردية إلى أقصى درجة، فيشعر الإنسان الذي يموت أنه يموت وحده لا يشاركه في موته أحد، وعلى حد تعبير هيدجر:« ما من أحد ينوب عن الآخر أو يحمل عنه موته». فيستحيل أن ينوب عني أحد كما يحدث في أسلوب حياتنا اليومية مع الآخرين. فقد حتم على الآنية أن تتحمل موتها بنفسها. ولا يستطيع أحد أن يحمل عنها عبء موتها فيقوم بالموت بدلاً منها. فبهذا المعنى موتي أنا هو المشكلة، فحينما أفكر في أنني لا محالة مائت، وأنني لابد من أن أموت وحدي، فإن الجذع يستولي على نفسي، حتى لا أكاد أن أتصور نفسي ميتاً حياً في أعماق قبر مظلم ساكن! والواقع أنني أرى الآخرين يموتون، فلا تلبث شخصياتهم أن تستحيل إلى” موضوعات”، وهذا التحول نفسه هو عندي من مصادر رهبتي من الموت! أجل فإنني حتى الآن أشعر بذاتي، وأخلق بذاتي، وأبدع لنفسي من القيم ما أشاء، فإذا ما دهمني” الموت”، استحالت ذاتي إلى” موضوع”، وأصبحت بجملتي ملكاً” للآخرين”.
2. الموت والقلق
إن الإنسان هو الكائن” القلق”، فهو يسأل دائماً عن الحياة ومعناها، وعن وجوده من حيث معناه. وحينما يعبر هيدجر عن الطابع الوجودي للموجود فيقول:« إن الاستباق( إلى إمكانية الاستحالة أو انعدام كل إمكانية) يكشف للآنية عن ضياعها في” آنية الناس”، ويدفع بها_ دون اعتماد على الرعاية والاهتمام من جانب الآخرين_ إلى إمكانية أن تصبح هي ذاتها، ولكنه يدفعها أيضاً إلى الحرية من أجل الموت، هذه الحرية المتوقدة بالحماس، الخالص من أوهام الناس، الحرية الفعلية الموقنة بنفسها والقلقة من نفسها».
هيدجر في حديثه عن” القلق” Angst لا يتحدث عن مفهوم عقلي أو تصور ذهني، بل هو يتحدث عن شعور حي أو عاصفة وجودية تضعنا وجهاً لوجه بإزاء ذلك” العدم” الأصلي الذي يكمن من وراء وجودنا. فإن القلق هو الذي يكشف لنا، بطريقة يقينية مباشرة، أن وجودنا متناه، عرضي، عديم الثبات. فإن القلق موضوعه ذلك” العدم” الكامن فيما وراء وجودنا، والذي هو بمثابة فاعلية باطنة هدامة. وإن ما يولد فينا القلق هو العالم نفسه، أو هو واقعة” وجودنا في العالم”، فإننا هنا بإزاء وقعة محض، عارية، لا هوادة فيها ولا رحمة. فإن القلق لابد من أن يكشف لنا عن طابع وجودنا، باعتبارنا موجودات متناهية قد جعلت للموت. إذاً القلق الذي تشعر به الآنية إزاء الموت هو القلق إزاء أخص إمكانيات وجودها التي تجردت من كل علاقة واستحالت على كل تخط أو نجاة. وما يقلق منه القلق هو الوجود_ في_ العالم نفسه. وما من أجله يقلق هو إمكان وجود الآنية.
يجب أن نفرق بين” القلق من الموت” وبين” الخوف من انتهاء الحياة”، فليس هذا القلق هو حالة تنتاب الفرد، وإنما هو تأثر وجداني أساسي للآنية، وهو انفتاح على حقيقة كونها وجوداً” مرمياً” ملقى به، موجودا لأجل موته.و” القلق” ليس هو” الخوف”، لأن الخوف هو دائماً خوف من شيء معين، أما القلق فيتعلق بالأشياء كلها في مجموعها. إن ما نقلق عليه في القلق هو العدم الماثل في الأشياء والأحياء، إذ نشعر في القلق بأننا نحن وكل الأشياء والأحياء قد انزلقنا في هاوية غامضة غير محددة. ومن المفيد هنا أن نذكر هذا “القلق” يسمى عند علماء النفس” القلق الوجودي”، أي القلق الذي يشعر به الإنسان إزاء وجوده وكيف يحيا وجوده؟
إن القلق عند هيدجر نابع من العدم المحيط بالوجود بل والمتناسج في الوجود. فإن القلق لابد من أن يكشف لنا عن طابع وجودنا، باعتبارنا موجدات متناهية قد جعلت للموت. فالقلق من الموت هو ما يشعرني بالفردية إلى الحد الأعلى من الشعور. ومن هنا كان هذا القلق أعلى ما يكشف عن الوجود الذات الحقيقي. هيدجر إذاً اعتبر “القلق” معين للإنسان على أن يحيا وجوده وجوداً أصيلاً.
3. الموت والعدم
في كفاح الإنسان من أجل البقاء لا بد أن يصطدم بخصم لم ولن يقهره أحد من البشر، وهو الموت. وهذا الموت يرتبط بموضوع هام ألا وهو” العدم”، فإن مشكلة العدم_ في نظر هيدجر_ هي المشكلة الميتافيزيقية الأولى، فذلك لأن من شأنها أن تضعنا( نحن السائلين) موضع السؤال. إن فكرة العدم تكاد تكون داخلة في صميم الوجود البشري باعتباره تساؤلاً ميتافيزيقياً، فوجودنا نفسه ينطوي في صميمه على تساؤل مستمر عن حقيقة ذلك العدم الذي يتهددنا باستمرار. وهذا ما يشرحه لنا وجودنا ذاته، فهناك عاطفة الملال من كل ما في الحياة من أشياء وأحياء، وهذا يكشف لنا عن العدم، عدم الحياة. وهناك أيضاً عاطفة القلق، فإن ما نقلق عليه في القلق هو العدم الماثل في الأشياء والأحياء.
مادامت حياتنا سيراً مستمراً نحو الموت، فإننا لا بد من أن نعلو على ذواتنا متجهين نحو ذلك” العدم” الذي قد جعل منه كل شيء. فليس إذاً” العدم” مجرد مفهوم مقابل لمفهوم” الوجود”، بل هو من مقومات الوجود نفسه باعتباره داخلاً منذ البداية في صميم ماهيته. ويقرب هيدجر فكرة العدم من فكرة الوجود، فهو يقول إن ما ندركه حينما نتمثل العدم إنما هو الوجود نفسه! وهذا التناقض يدل على أن مشكلة الوجود_ كما قال هيدجر نفسه_ لا تقبل الحل، أو هي على أقل تقدير لا تقبل أي حل عقلي.
يقول هيدجر:« إن العدم ينكشف في القلق، ولكن ليس كوجود، إن العدم يكشف نفسه في القلق ومن خلال القلق… في القلق يجري مواجهة العدم… في الليل الجلي للعدم الخاص بالقلق فإن الانفتاح الأصلي للموجودات كموجودات ينبثق… إنها موجودات وليست عدماً… إن ماهية العدم العادم الأصلي يكمن في أنها التي تحضر الوجود الإنساني لأول مرة أمام الموجودات كموجودات». يظهر العدم كشرط لتحقيق الوجود أو لانكشافه، لأن العدم يظهر لي في كل فعل من أفعال الوجود، فإن العدم ينفذ في كل الوجود ويتفشى فيه. ويكفي مجرد أن تنبيه الاهتمام إليه لكي ينكشف لي في كل فعل. فليس القلق هو الذي يوجد العدم، إن صح التعبير، بل هو فقط الذي ينبه الإنسان إلى وجوده.
4. الموت والوجود الأصيل
يقول هيدجر:« إذا كان على الإنسان أن ينبعث من الخسران إلى الأصالة، فإنه لن يستطيع أن يكون هكذا إلا في عزلة عن الحشد أو الناس الذين يغتصبونه يشتتونه؛ والموت وحده أو العلاقة بالموت هي التي تحقق مثل هذه العزلة لأن موتي هو الحادثة الوحيدة في حياتي التي هي خاصة بي بشكل فريد ومطلق» . فيتصور هيدجر أن الموت هو شرط ضروري للوجود الحقيقي، وعند إدراك هذا يسهم في اغتراب الإنسان؛ إن الموت يدعونا إلى أن نغير نظرتنا إلى الواقع المباشر فيبدو في ضؤ الموت وكأنه ليس واقعاً. وهذا الإدراك يساعد على الخروج من حالة التشؤ والتشتت في الموجودات.
إن قدرة الآنية على استباق ذاتها إلى ما لم يوجد بعد وإن كان ينتمي إليها بالفعل_ أي الموت_ هذه القدرة على أن تكون في المستقبل؛ هي التي تمكنها من الرجوع زمنها المنقضي وصونه من الضياع. فكأن استشعار الموت والإحساس بالنهاية هو الذي يحي الماضي ويعيدنا إلى ذكرياته… وعن طريق الاستباق إلى الموت أو النهاية، تجد الآنية نفسها في موقف؛ فتتعامل مع الوجود تعاملها مع شيء تشغل به، وتتيح له أن يلتقي بها وجها لوجه. وحينما يعرف الإنسان أن الموت ممكن في كل لحظة، وأنه يسم بطابعه كل فعل من أفعاله؛ فإنه قد يشعر بما في الفعل من” بطلان” .
لا يعني كل ما سلف أن هيدجر يدعونا إلى التهرب من أعمالنا العادية، والانصراف عن مهامنا اليومية؛ بل إننا نراه يقرر على عكس من ذلك أنه لا بد للإنسان من أن يشد كل قواه، ويعي كل إمكانياته، للاضطلاع بالمسئولية الملقاة على عاتقه. إن هيدجر لا يريد لمشاغلنا العادية أن تستأثر بفكرنا فتصرفنا عن التفكير في الموت والعمل على انتظاره، ولذلك نراه يقول إن الذات الواعية لا تقبل أن تكون فريسة لخداع المشاغل اليومية؛ بل هي تعرف كيف تعطي كل شيء قيمته، وربما كانت القيمة الوحيدة لمشاغل الحياة العادية هي أنه ليس لها على وجه التحديد أدنى قيمة. فعلينا أن ندرك تمام الإدراك معنى وجدنا، وندخل الموت في حياتنا باعتباره جزء منها وهذا بدوره يسهم في أن نحيا وجودنا حياة حقيقية أصيلة. ولذا لابد للإنسان من أن يعيش في القلق لينتبه إلى حقيقة الوجود. ذلك أن الإنسان بطبعه يميل إلى الفرار من وجه العدم الماثل في صميم الوجود، وذلك بالسقوط بين الناس وفي الحياة اليومية الزائفة، ولكي يعود إلى ذاته لا بد من قلق كبير يوقظه من سباته وهو التفكير في” إمكانية الاستحالة” أي” الموت” .
خــاتمــة
« تنتابني أحياناً نوبات من كراهية الحياة وأشعر بالارتياح حين أفكر بأن ثمة نهاية لهذا الوجود الصعب، وفي تلك اللحظات تثقل علي الأفكار» ، إن هذا ما صرح به فريدريك نيتشه، معتقداً أن نهاية وجوده هو بمثابة مصدر ارتياح له من الوجود الصعب الذي يقلقه. فإننا مثله كثيراً ما نخشى الحياة نفسها، لأننا نشعر بأن استمرار الحياة هو في صميمه انقضاء للزمان، وانقضاء الزمان معناه السير الوثيد نحو الموت أو الانحدار السريع نحو هاوية العدم. ولعل هذا ما حدا ببعض المفكرين إلى القول بأن الحياة، إنما هي الموت نفسه، لأن الإنسان يشرع في الموت بمجرد ما يولد.
وقد أوضح هيدجر أن الموت ظاهرة يجب أن تفهم وجودياً، وأكد على أننا نحيا موتنا؛ وعندما تقابلني إمكانية الاستحالة، التي يستحيل معها كل إمكانية، حينئذ يكون هذا هو موتي. ولهذا هو يدعونا أن نحيا وجودنا بطريقة جادة فيصبح وجودنا ذا قيمة، وما يدفعنا إلى ذلك هو إعطاء الموت مجالاً حقيقياً في حياتنا.
وختاماً نود أن نؤكد أننا مهما تحدثنا وتجادلنا بشأن حدّ الموت، فإنه سيظل” موضوعاً” لا يمكن أن نسبر أغواره طالما أننا لم نعبر به؛ والحقيقة المرة أن من مرّ بهذه الخبرة لم يعد إلينا ثانية ليخبرنا بشيء، بل صمت! ونحن مازلنا نفكر ونتجادل بشأن تلك الخبرة التي لم نجتازها بعد.
قائمة المصادر والمراجع
أولاً: المصادر
1_ الموسوعة العربية الميسرة، محمد شفيق غربال، القاهرة، 1965.
2_ الموسوعة الفلسفية، م. روز. نتال وب. يودين، ترجمة سمير كرم، دار الطليعة، بيروت، 1981.
3_ المعجم الفلسفي، مراد وهبة، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1979.
ثانياً: المراجع
1_ أ. ه. شابمان وميريان شابمان. سانتان، « شبح نيتشة يطارد فرويد»، ترجمة عبد المقصود عبد الكريم، مجلة سطور 24( 1998).
2_ زكريا إبراهيم، الفلسفة الوجودية، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1956.
3_ زكريا إبراهيم، مشكلة الإنسان،( = مشكلات فلسفية، 7)، مكتبة مصر، القاهرة، 1971.
4_ زكريا إبراهيم، مشكلة الحياة، (= مشكلات فلسفية، 7)، مكتبة مصر، القاهرة، 1971.
5_ سيد توفيق، « كتب العالم الآخر عند قدماء المصريين»، مجلة فكر 11( 1988).
6_ عبد الرحمن بدوي، دراسات في الفلسفة الوجودية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1961.
7_ مارتن هيدجر، نداء الحقيقة، ترجمة عبد الغفار مكاوي، (= النصوص الفلسفية، 9)، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1977.
8_ مارتن هيدجر، ما الفلسفة، ترجمة فؤاد كامل ومحمود رجب، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1974.
9_ مجاهد عبد المنعم مجاهد، هيدجر راعي الوجود،( = المغتربون، 1)، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1983.
10_ كريستيان فان نيسبن، علم الإنسان، كلية العلوم الإنسانية واللاهوتية، القاهرة، 20/ 11/ 2001.
الفهـــرس
مقـــدمة 2
الفصل الأول: هيدجر حياته وفلسفته 3
أولاً: لمحة عن حياة هيدجر 3
ثانياً: هيدجر وفلسفته 5
ثالثاً: سرّ الموت 7
الفصل الثاني: ماهية الموت عند هيدجر 9
أولاً: التعريف بالموت 9
1. الموت ظاهرة يجب فهمها وجودياً 9
2. الموت ليس الثمرة أو القمة العليا 10
3. الوجود لأجل الموت 11
4. الموت هو إمكانية الاستحالة 13
ثانياً: معضلات في طريق الموت 13
1. موتي أنا 13
2. الموت والقلق 14
3. الموت والعدم 15
4. الموت والوجود الأصيل 16
خــاتمــة 18
قائمة المصادر والمراجع 19
الفهـــرس 20