كما يشتاق الأيل .. هكذا تشتاق نفسي اليك – الأب وليم سيدهم
كما يشتاق الأيل .. هكذا تشتاق نفسي اليك
حينما يهرب الإحساس من كيانك كله إلا حلقك، حينما ينشف ريقك ويصبح لسانك في حلقك كالإسفنجة التى جفت عنها المياه، وتشعر بعدم الرغبة وعدم القدرة على عمل شيء إلا واحدًا .. الشرب، الاترتواء، تغذية الشرايين والجسم كله ببعض قطرات الماء.
هذا هو الاشتياق، الاشتياق إلى الإرتواء من الماء الحي، الماء الجاري وليس الماء الآثن، حينما يستنفذ الجسم كل مخزونه من المياه يصبح كالسيارة التى جف صندوق الماء فيها سيلتهمها الحريق بسبب نقص المياه.
هذا الإشتياق إلى الاتحاد بالماء ليعود الجسد إلى نضارته وبقية الأعضاء إلى العمل المعتاد، هو اشتياق الإنسان إلى الله، إلى خالق وصانع الحياة لأن الاعتماد على قواه الذاتية كاد ينضب لم يبقى في جعبته شيء يروى ظمئه إلى الحياة إلى ينبوع الحياة الذي هو الله.
لن يتم هذا الإرتواء من حضور الله وفعله إلا في الصمت التام للمشتاق. إلا في تفريغ العقل والقلب والجسد من الضجيج الناتج عن المعارك اليومية مع كل ظروف الحياة من مأكل وملبس ومسكن ولذة جنسية، وبعد الصمت الداخلى والخارجي ندخل في مرحلة التسليم إلى الله، وبعد التسليم الإصغاء، والإصغاء الباطني مصدره الأصوات التى تصل إلى مسمع المنصت واضحة ومتميزة تدعوه لفعل ذلك أو ذاك، إلى جانب الصوت نجد الصور الذي تبثها المُخيلة، المواقف التى تختزنها الذاكرة والأحاسيس التي يبعث بها الوجدان.
كل هذه الصور والكلمات والأحاديث والشعور يجب أن تتمحور حول سؤال واحد: أين أنا الآن من الهي ومخلصي؟ ماذا افعل لأرتوي من حضوره، لأرد على أسئلتي، لأحصل على السلام لأنجز أفعال التغيير في َّ ومن حولي.
ما هي أولوياتى الآن بحسب ترتيبها في موقفي من الكون والله والإنسان؟ ”عَطِشَتْ نَفْسِي إِلَى اللهِ، إِلَى الإِلهِ الْحَيِّ. مَتَى أَجِيءُ وَأَتَرَاءَى قُدَّامَ اللهِ ؟” (مز 42: 2(.
إن شغفي كله يتمحور حول هجر كيانى الشخصي ولو إلى حين لأسكن بيت الله. أين بيت الله؟ ربما يكون الكنيسة أو المعبد وربما لا بل هو المكان المماثل لمكان “العليقة” التى تجلى فيها الله لموسى، وأنا أين عليقتي حيث بدأت علاقتي مع خالقي. رحمة الله التي وصلتنى بالله؟ إنها لحظة الوصول الى ذروة الشعور بالشكر لله على نعمته عليّ و زروة إتخاذ القرارات الجذرية: تكريس حياتى للذى أعطانى كل شيء في الوجود لأرد له الجميل وأصبح أحد شركاءه الفاعلين على الأرض. نعم، حينما قررت الدخول إلى الرهبانية كانت هذه رغبتى أن اسكن في قلب الرب.
والآن بعد 46 عامًا أجدد الرغبة والإشتياق نفسه إلى خدمة الله يغمرنى ويملأنى فرحًا. فمبكرًا جدًا عند سن العاشرة وبسبب كلمة واحدة “هل تريد أن تخدم الله” كانت لحظة “الإنخلاع” من أرض طفولتى للإنزراع في أرض غربتى، أرض الميعاد فارقة. تغيير المكان والزمان والإنفصال عن الأهل والأصدقاء والأمان والحضن الدافي وعزوة الأسرة الممتدة والسمعة الطيبة .. إنها بداية التدريب على التجرد الفعلي عن الأب والأم والأخوة والأخوات .. عن الأصدقاء ، عن العاب الطفولة وقصصها الجميلة.
سرير في عنبر هو كل ما أملك في المكان الجديد، وكرسي في فصل وكرسي لأوقات الدراسة ومكان في الكنيسة وبعض أمتار في فناء الملعب، كل ذلك عهدة، لا أملك شيئًا ولا حتى نفس، فالطاعة هنا أساسي.
بالفعل لم يبق لي شيء ثابت وقوي أستند إليه. الله الذى أبحث عنه دائمًا والذى أشعر بحضوره السري دون أن ألمسه بيدى هو الملجأ والملاذ الجديد وليس حضن الأم أو الأب أو الأعمام.
كان الأطفال مثلي قادمين من خبرة تجمعهم إلا أنا. أنهم قضوا طفولتهم من الابتدائي الى أن وصلوا أولى إعدادى في المعادى في المعهد الإكليريكى في طهطا.
بدأت أكتشف مهاراتي الشخصية والإجتماعية خلال أوقات النوم في العنبر أو اللعب في الملعب أو الصلاة في الكنيسة أو في غرفة الطعام وفي قاعات الدرس.
كانت حياتى الروحية في قمتها.. لقد كنت أستعد للقاء الله وجهًا لوجه، هكذا قيل لي، كلما تقدمت في دراسة اللاهوت والروحانيات أقترب خطوة من رؤية الله واللقاء به.
تعلمت أن الله يحبنى حتى لو لم أراه أنه قادر على كل شيء أنه يحمينى، أنه يشفينى، أنه كل شيء بالنسبة لي.
صدقت كل ذلك وسرت على هواه .. إلى أن جاءت لحظة المراهقة والقدرة على التمييز بين كل ما يقال وما يفعل ، المحبة ، المصالحة، الغفران، المشاركة.