كم تأثرت بالمزمور الرابع _ القديس أغسطينوس
وبينما اقرأ مزامير داود، تلك الاناشيد الإيمانية والترانيم التقوية التي من شأنها ان تخفض روح الكبرياء، كم وكم صعدت اليك من هتافات!
واذ كنت مبتدئاً في حقيقة حبك فقط شاطرني اليبوس، المرشح مثلي لقبول سر العماد، اللهو المرح الريفي ومعنا امي، امرأة في مظهرها ورجل بايمانها، عجوز في رصانتها وام في حنانها ومسيحية في تقواها!
كم وكم صعدت نحوك من هتافات اثناء قراءتي المزامير وايَّ حب لك متقدٍ لم اقتبس منها، وتمنيت لو اني تلوتها بما امكنني من حماس، للعالم بأسره لكي ادحض مزاعم الجنس البشري …
تمنيت لو اراهم هنا بقربي يرقبون على غير علمٍ مني، اشارات وجهي ويسمعون نبرات صوتي اثناء قراءتي الهادئة للمزمور الرابع فيدركون تأثير ذلك المزمور عليَّ:
”في دعائي اجبني با إله بري، في الضيق رحبت لي فارحمني يا سيدي واسمع صلاتي” (مز 4: 2).
اضطربت خوفاً ثم رجوت بحرارة وغبطة رحمتك، ايها الآب.
وكل ذلك بدا في عيني وعلى وجهي حين وجَّه الينا روحك الصالح كلامه قائلاً:
”حتى متى تظل قلوبكم مثقلةً يا بني البشر، تحبون الباطل وتبتغون الكذب”
أوَّاه ! نعم لقد احببت الباطل وابتغيت الكذب.
اما انت يارب فقد جعلت “صفيَّك معجزة” إذ اقمته من الموت واجلسته من عن يمينك (أف 20:1) لكي يرسل من السماء من وعد به “البارقليط، روح الحق”. لقد ارسله ولم اعرف عنه شيئاً: ارسله لأنه تمجَّد وقام من الأموات وصعد إلى السماء. لم يعطَ الروح سابقاً، لأن المسيح لم يكن قد مجِّد.
وها ان النبي يصرخ: “حتى متي تظل قلوبكم مثقلة، تبتغون الكذب وتحبون الباطل؟ اعلموا ان الرب جعل صفيَّه معجزةً”. وها انه يصرخ بنا: “حتى متى، ثم اعلموا” وانا جهلت كل شيء مدة طويلة. لقد احببت الباطل وابتغيت الكذب ولهذا اضطربت لدى سماع هذا المزمور متذكراً انني كنت على مثال اولئك الذين عناهم هذا التحذير … إن الأشباح التي ظننتها حقيقة هي مجرد أوهام.
أواه! كم صعَّدت من زفرات حين تذكرت ماضيَّ الأليم. يا ليتَ الذين يحبون الباطل يسمعونها اليوم ويبحثون عن الكذب، علَّهم منه يخافون. فيتقيَّأون ضلالهم وتستجيب صراخهم لأن من يشفع بنا قد مات حقاً عنا بالجسد.
قرأت “اسخطوا ولا تخطأوا” فاثرت فيَّ حقاً هذه الكلمات، يا إلهي، انا الذي تعلَّمت ان اسخط على ذاتي بسبب ماضيَّ كيلا اخطأ فيما بعد. انه لسخطُ شرعي، لأن الطبيعة التي استخدمتني للخطيئة لم تكن طبيعة من طباع الظلمات كما يدعي من لا يسخطون البتة على انفسهم بل يدَّخرون لأنفسهم غضباً ليوم الغضب واعتلان دينونة الله العادلة (رو 5:2).
ليست خيوري خارجية عني ولست ابحث عنها تحت هذه الشمس بعينين لحميتين. الذين يزعمون ان باستطاعتهم ان يجدوا غبطتهم خارجاً عنهم، يسيرون بسهولة نحو الفناء ويضيعون في المرئيات والزمنيات التي لا تلمس منها افكارهم المتضوِّرة جوعاً سوى الصور.
أواه! ليتهم يتعبون من الفراغ ويقولون “من يرينا الخير” (مز 6:4) فنجيبهم، ويسمعوننا نقول لهم: “طبعتَ نور وجهك علينا ايها الرب علامةً”
انما لسنا نحن النور الذي يضيئ كل انسان، بل بك ننير نحن، الذين كنا من قبلُ ظلمة فاصبحنا بك نوراً.
أواه! ليتهم يرون في داخلهم هذا النور الأزلي الذي اخشى من ان اعجز عن اظهاره لهم! ليتهم يقدمون لي قلبهم – المُبعد عنك والكامن بأسره في انظارهم المحولة نحو الأشياء الخارجية – قائلين: “من يرينا الخير؟” لأنه هناك (في أعماق قلبي) سخطت على ذاتي، اجل هناك في هذا الإختلاء السري وقد مزقني النَدَمُ، ذبحت وضحيت فيَّ الإنسان العتيق، هناك، حيث عمر قلبي الرجاء بك اخذت أُعدُّ نفسي لتجديد تام، ناجز.
هناك (في أعماق قلبي) ذقت للمرة الأولى حلاوتك
وهناك “انشأت فرحاً في قلبي” (مز 7:4).
وبعد هذه القراءة الخارجة عني المتحققة في داخلي، أبيت أن اضيّع نفسي بين الخيور الأرضية، ألتهم الزمن ويلتهمني طالما ان لي من البساطة الازلية سواها من “الحنطة والخمر والزيت”.
وصرخت بقوة لدى وصولي إلى العدد التالي القائل:”آه، في سلامه! آه في جوهره عينه! سأنام وسأذوق النوم”. ومن يفكر بمعارضتنا حين نحقق ما قد كتب: “ابتُلع الموت بالغلبة” (1 كو 15). انك حقاً ذاك الكائن عينه، انت يا من لا تتغيَّر. فيك الراحة التي تنسينا كل تعب. ان لا احد سواها يقيم معك، ولن ابحث من ثمَّ عن سواها من الأشياء التي ليست انت أيها الرب يا من وحدك”تسكنُني في طمأنينة” (مز 9:4).
كنت اقرأ واتحرَّق ولم اجد السبيل الواجب سلوكه تجاه هؤلاء الموتى الخرس (المانويين) الذين كنت سابقاً من مصافهم، أنا الآفة والكلب الأعمى العائج ضد كتبك التي تقطر عسلاً سماوياً، ومنها يسطع نورك، وكنت افني ذاتي بالتفكر باعداء كتبك المقدسة.
ومتى استعيد في ذاكرتي كل ما جرى خلال ايام العطلة؟ ما نسيتُ قطّ ولن اصمت عن قساوة سوطك وسرعة رحمتك العجيبة!
المرجع: اعترافات أغسطينوس، إصدار دار المشرق، الباب التاسع