stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

كتابية

مثل الأطفال لا يلعبون-الأب د/كميل وليم

1.5kviews

jesus-63

هناك تطابق شبه حرفي بين هذا المثل في إنجيل القديس لوقا ومثيله في إنجيل القديس متى والذي سبق وتناولناه في العدد الثاني لمجلة صديق الكاهن لعام 2000: يبدو أن يسوع ينطلق من حكمة: “يقولون زمرنا لكم فلم ترقصوا؛ ندبنا لكم فلم تبكوا” (لو 32:7) وبنى حول هذه الحكمة مشهداً يصعب تحديد طريقة حدوثه: هل تعرض مجموعة من الأطفال على مجموعة أخرى لعبة وعكسها ويرفض هؤلاء عرض زملائهم في الحالتين؟ أم هل تعرض المجموعة الأولى على الثانية لعبة فترفض الثانية، ثم تعرض الثانية بدورها لعبة فترفض الأولى، كرد فعل صبياني على الرفض السابق للمجموعة الثانية ؟

في الحالة الأولى تكون مجموعة مستعدة، للعب والثانية غير مستعدة، وفي الحالة الثانية، وهي تنطبق أكثر على النص اليوناني؛ ترفض المجموعتان كلتاهما اللعب، بل جميع أنواع اللعب. ولكن الفرق بين الحالتين ليس فرقاً كبيراً أو جوهرياً.

ففي كلتا الحالتين يرفض الأطفال دوماً اللعبة وعكسها، بذلك يعلنون عزوفهم عن اللعب والأسباب التي يتعللون بها: إنها لعبة مرحة جداً أو أنها لعبة كئيبة جداً هي مجرد حجج وهذا ما يريد أن يشير إليه يسوع. “هذا الجيل”– عندما ترد هذه العبارة على لسان يسوع-  تكون دائماً ذات معنى سلبي. يرفض هذا الجيل كل دعوة إلهية، أياً كانت هذه الدعوة: يرفضون يوحنا المعمدان لأنه متقشف جداً، ويرفضون يسوع لأنه يأكل ويشرب. لا يريد يسوع، بهذا المثل، أن يركّز الانتباه على الرفض، بل يريد أن يبرز دوافعه الحقيقية وهي عدم الاستعداد. ومع ذلك يظل هناك أناس منفتحون للفهم والقبول.

والمقصود بالحكمة هنا خطة الله التي أعلنها ويعلنها مرسَلوه، والمرسل في هذا النص هو يسوع. أمّا الذين يرفضون خطة الله فهم هذا الجيل أي علماء الشريعة والفريسيين (30:7) أمّا عامة الشعب والعشارون فهم “أبناء الحكمة” لأنهم يعترفون ببر الله (29:7). مثل المديونين: رد يسوع على سمعان الفريسي (لو 36:7-50) يرد هذا المثل في سياق حوار حيث حل يسوع ضيفاً على أحد الفريسيين، وكان يسوع يتعامل مع كل الفئات سواء مع الفقراء أو الخاطئين، المحافظين والأغنياء.

وكان الاعتقاد السائد آنذاك أن استضافة أحد المعلمين (الربيين) عند مروره عملاً محموداً من الناس ومقبولاً لدى الله. لذلك لم يدع هذا الفريسيّ الغني هذه المناسبة تضيع منه. وكان دخول امرأة، غير مدعوة، إلى مكان الغذاء ليس بالأمر غير المعتاد: كان الجيران يدخلون لإشباع الفضول؛ فالباب كان يظل دائماً مفتوحاً. وهناك سبب آخر يدعو لترك الأبواب مفتوحة: وعي الفريسيين وإدراكهم مسؤوليتهم في تهذيب الشعب وتعليمه، وبذلك كان عليهم إتاحة الفرصة للشعب لكي يرى ويتعلم من المثل الصالح: مثل الفريسي الذي يمجد الله بإكرامه أحد المعلمين.

وكانت هذه المرأة، وهي خاطئة مشهورة في المدينة، لم تكتفِ بالنظر لإشباع الفضول، بل جلست عند قدمي يسوع وغسلتهما بدموعها وسكبت عليهما الطيب. ويظهر من باقي ملابسات المثل أن عملها هذا كان تعبيراً عن توبتها الصادقة وعن حبها الكبير وعرفانها بالجميل. شخصيات المثل ثلاث: يسوع والمرأة والفريسي. ويجب النظر إليها معاً: يجب النظر إلى تسامح يسوع مع المرأة الخاطئة مقروناً برد فعل الفريسي.

تسمح هذه النظرة باكتشاف مدى تباين العقليتين والمنطق: عقلية الفريسي ومنطقه وعقلية يسوع الناصري ومنطقه. هذه هي النقطة الأساسية التي يدعو المثل إلى اعتبارها والتأمل فيها. وقبل أن نخوض في شرح المثل يجدر بنا أن نعطي بعض الملاحظات حول رواية المثل: إنها رواية حية دقيقة البنيان غنية التفاصيل. في مشهد الافتتاح يقدم لوقا الإنجيلي شخصيات المثل: “دعاه أحد الفريسيين… (دعا يسوع) وإذا بامرأة” (لو 36:7-37).

تشير كلمة “إذا” إلى شيء أو شخص يريد الراوي أن يجذب انتباه القارئ عليه. ويصف الإنجيلي بعناية فائقة حركات المرأة وتصرفاتها: ترد بعض الأفعال في الماضي التام وهي أعمال سريعة دقيقة ويرد بعضها في الماضي المستمر الذي يشير إلى تكرار الفعل وطول مدته: جعلت تقبل قدميه… (جعلت) تمسحهما… جعلت تقبل قدميه… جعلت تدهنهما بالطيب. إن هذا المشهد، وهو المشهد الأول، صامت، لا أحد يتكلم فيه: يراقب كل من الفريسي ويسوع المرأة جامدين صامتين. ولكن نظرة كل منهما تختلف عن نظرة الآخر، كما يختلف أيضاً حكم كل منهما. ويعلن يسوع صراحة فيما بعد رأيه للفريسي.

يكوّن الفريسي رأيه في يسوع وفي المرأة ويكتمه في ذاته ولا يعلنه. يخمّن يسوع ما يفكر عنه الفريسي “فأجابه” (40:7): التفت إلى المرأة وقال لسمعان (44:7). أن يتحدث المرء إلى إنسان ناظراً إلى إنسان آخر لهو غريب، ولكنه معبّر جداً. يكلم يسوع سمعان الفريسي ناظراً إلى المرأة، لأن حديثه يخصهما معاً (سمعان والمرأة)، ولأن يسوع يريد أن يلتفت سمعان أيضاً إلى المرأة: الموضوع الأساسي هو هذه المرأة وكيفية النظر إليها أي الحكم عليها.

وفي آخر المثل هَمهَم جلساؤه ولم يعلنوا رأيهم صراحة فتجاهلهم يسوع معلناً رأيه: “إيمانك خلصك، فاذهبي بسلام” (50:7). تصرفات متناقضة للمرأة الخاطئة والفريسي حيال يسوع تصرفات متناقضة. يعلن يسوع ذاته هذا التناقض: “أترى هذه المرأة؟ إني دخلت بيتك فما سكبت على قدمي ماء، أما هي فبالدموع بلت قدمي وبشعرها مسحتهما. أنت ما قبلتني قبلة، وأما هي فلم تكف مذ دخلت عن تقبيل قدميّ. أنت ما دهنت رأسي بزيت معطر، أما هي فبالطيب دهنت قدمي” (44:7-46). 

كما تختلف نظرة سمعان الفريسي إلى المرأة (إنه يرى فقط أنها خاطئة) عن نظرة يسوع لها (إذ يرى عرفانها بالجميل وحبها). بذلك يسيء الفريسي الظن بيسوع أيضاً: إذا كان نبياً عظيماً، كما يقولون، فكيف لم يعرف من هي هذه؟ لماذا تركها تقترب منه وتلمسه؟ هناك إذاً تضاد جذري حاد بين الشخصيات: من ناحية سمعان الفريسي وفي النقيض الآخر يسوع والمرأة؛ أياً كانت زاوية نظر الشخصيات الثلاثة والعلاقات بينهم. ما سبب عمى هذا الفريسي؟ إنه يرى في المرأة الخطيئة ولا يرى العرفان بالجميل والحب، ولم يدرك معنى سماح يسوع لها بالاقتراب منه ولمسه.

لماذا؟ هناك أسباب عديدة، أولها لاهوتي: يعتقد الفريسي أن رجل الله لا يجب أن يتنجس بلمس الخطأة، لا بل عليه أن يتحاشى هؤلاء وأن يميز بدقة بين الصديقين المحافظين والخطأة المخالفين، بين المؤمنين والوثنيين: “لو كان هذا الرجل نبياً، لعلم من هي المرأة التي تلمسه” (39:7). أمّا رأي يسوع فهو مختلف تماماً: إنه يعرف أن الله آب يحب كل أولاده الخطأة منهم والصديقين وأنه لا يستبعد الخطأة بل يبحث عنهم. يعرف يسوع أن الله لا يتمجد بالابتعاد عن الخطأة بل بالابتعاد عن الخطيئة، إنه لا يتمجد بالحكم عليهم وإدانتهم، بل بالبحث عنهم وقبولهم والصفح عنهم (را لو15).

 إن الاختلاف لا بل التناقض بين يسوع الفريسي هو تناقض لاهوتي إذ يتعلق بنظر كل منهما إلى الله! ثاني الأسباب أنثربولوجي: ويمتد الاختلاف والتناقض إلى نظر كل منهما إلى الإنسان. تتأثر نظرة الفريسي إلى المرأة بفكرته المسبقة عنها أنها خاطئة وبالتالي يفسّر عملها، وهو عمل فريد ومحدد على ضوء حكمه المسبق، ووحّد بين المرأة وحالها، بين الخطأ والخطيئة: إنها خاطئة وغير قادرة، إلا على الخطيئة ويجب الشك في كل ما تقوم به وتعمله؛ أمّا يسوع، فهو ينظر نظرة الله. يعرف أيضاً يسوع أنها خاطئة ولكن هذا لا يمنعه من فهم أن عملها هذا ناتج عن حبها. إنه حرّ غير مقيّد بأحكام مسبقة لذلك يدرك فرادة عملها وحقيقة وصدق دوافعها: إنها ليست قادرة فقط على الخطأ بل هي قادرة على الحب: “إن خطاياها الكثيرة غُفرت لها لأنها أظهرت حباً كثيراً” (47:7).

ثالث الأسباب هو شخصي: غُفرت خطايا المرأة فحصلت على الخلاص. لقد أُسقِط عنها دينها الباهظ. كان للقاء يسوع، بالنسبة لها، معناه العميق: معنى التحرير والخلاص، معنى الصفح غير المنتظر أو المرجو، معنى الكرامة التي عادت إليها. هذه هي أسباب حماسها وفرحها وعرفانها بالجميل. أمّا الفريسي فيظل منغلقاً على بره الذاتي غير واعٍ بما عليه من دين، كبر هذا أم صغر، فهو لا يشعر بأنه مدين ليسوع بأي شيء. وربما يشعر نحوه بالتقدير فقط وليس بعرفان جميل أو دهشة أو فرح. وحده الذي يشعر بأنه نال الصفح وأنه موضوع حب الله المجاني ويختبر هذا، يفهم معنى زيارة يسوع ويعيه. الحوار إنهما وجهتا نظر مختلفتان. بدلاً من أن ينهر يسوع عمى الفريسي قائلاً: الويل لكم أيها الفريسيون العميان، يحاول أن يدعو سمعان للتفكير عن طريق مثل ضربه له. لقد عفا أحد الأثرياء عن مدينين له: أحدهما مدين بالكثير جداً والآخر مدين بأقل كثيراً من زميله. مَن منهما يكون أشد تقديراً وحباً لصاحب الدين؟ ويحسن سمعان الإجابة، مؤكداً أن ذا الدين الأكبر يكون أكثر حباً وامتناناً. لقد دخل سمعان الفريسي طرفاً في هذه اللعبة وتورط: الآن يستطيع أن يتعمّق في الفكرة التي طرحها على يسوع، إذا كان له عينان للنظر وأذنان للسمع. الآن يستطيع أن يعيد النظر في رأيه في المرأة الخاطئة وفي يسوع وفي الله. الصفح والحب

 يلاحظ القارئ المدقق تعارضاً بين الخاتمة التي يستنتجها يسوع من المثل، من جهة: “إن خطاياها الكثيرة غفرت لها لأنها أظهرت حباً كثيراً” (47:7)، وخط سير الرواية في مجملها من جهة أخرى. فكان من المتوقع مثلاً قلب ترتيب العبارات: لأنه غفر لها الكثير فهي أحبت كثيراً. يبدو أن إنجيل القديس لوقا عدّل هدف المثل. كما أن التعارض بين جزئي العدد 47:7 مثير جداً: ففي الجزء الأول يسبق الحب الصفح وفي الثاني هو نتيجة له “أمّا الذي يغفر له القليل فإنه يظهر حباً قليلاً” (47:7ب).

إن هذا الاختلاف الذي أشرنا إليه هو نتيجة تاريخ تحرير المثل، وعلينا أن نجد له تفسيراً، انطلاقاً من هدف المثل: علاقة الله بالإنسان والإنسان بالله. لهذه العلاقة وجهان صحيحان وحاضران في تعليم الإنجيل. الوجه الأول وهو الذي يحتل المكانة الأولى في مثلنا هذا هو: يسبق صفح الله حبنا له وهو سببه ودافعه ومعياره. وأمّا الوجه الثاني: حبنا لله هو علامة على أننا قبلنا صفح الله وفهمناه ووعيناه، وبالتالي فإن صفحه وصل إلينا. ربما يبدو لنا أن هذين الجانبين متعارضان ولكنهما في الواقع، متداخلان. يحدد حبه لنا وحبنا له ويظهر حبنا لله إذا كنا نحن نشعر بحبه لنا.