stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

كتابية

مثل الزوؤان- الأب د./ كميل وليم

930views

images10_01

يواصل إنجيل القديس متى حديثه؛ بعد أن عرض مثل الزارع (مت1:13-9) وشرحه (مت 18:13-23)؛ فيورد مثل الزوؤان (مت 24:13-30) ومثل حبة الخردل (مت 31:13-32) ومثل الخميرة (مت 33:13).

وتدور هذه الأمثال حول نقطتين أساسيتين: الأولى: الزرع الجيد والزوؤان، أي الخير والشر، ينموان معاً متشابكين ولا يقع على الإنسان واجب فضّ اشتباكهما معاً. الله ذاته هو الذي سيفصل بينهما في الزمن الذي حدده هو. أمّا النقطة الثانية فتتعلق ببداية ملكوت الله. إنها بداية هادئة متواضعة وتتبع في ذلك قوانين ومنطق خاصين.

كانت حياة يسوع المسيح كلها تأكيداً وتفسيراً وشرحاً لهاتين الحقيقتين. لقد عاش يسوع الأمثال قبل أن يلقيها على السامعين. كانت كل تصرفاته تجسيداً لصبر الله، مظهراً أنه لا توجد خطيئة، مهما كانت جسامتها، تحرم الإنسان نهائياً من رحمة الله. لقد كانت خيارات يسوع كلها مطابقة لمقاييس الله وليس لمقاييس البشر: إنه تغاضى، وبطريقة دائمة، عن خيارات كانت تبدو نافعة ومفيدة، وانحاز لأخرى ما كانت لتبشر بأية فائدة.

يتكوّن مثل الزوؤان من رواية أو حدث وحوار. ينتهي الحدث بملاحظة العمال وجود الزوؤان في الزرع. ويقوم الحوار في أسئلة والرد عليها. وترد النقطة الأساسية في الحوار، وليس في الرواية وإن كانت الرواية هي التي تقود إلى سؤاليَّ العبيد لرب البيت: “من أين جاء الزوؤان؟.. أتريد أن نذهب فنجمعه؟” (مت27:13و28). 

وتدور الرواية في ثلاثة أزمنة: 

الأول:الماضي، وهو الوقت الذي يتمّ فيه الحدث والذي عنه يتكلم العبيد مع سيدهم، 

الثاني: الحاضر، وهو وقت الحوار الذي فيه يتبادل العبيد وسيدهم وجهات النظر، 

الثالث:هو المستقبل، أي زمن الحصاد والدينونة. الماضي هو مقدمة التعليم وفيه يقدم الحدث على أنه قد تمّ. ويعني هذا، في المثل، ما يجب أن يعرفه السامع. حيث لا يجب عليه أن يتوقف عند هذا. ويخدّم هذا الزمن ويُعد للثاني. والمستقبل أيضاً مرتبط بالحاضر: يعلن كاتب المثل مسبقاً عمّا سيتم في المستقبل لا لأنه يريد أن يركّز السامع انتباهه، بل لكي يقدّم سبباً مقنعاً لرد وتصرّف رب البيت العجيب والذي ما كان ينتظره أحد. الزمن الأساسي والذي يركّز عليه المثل مجبراً السامع أيضاً أن يركّز عليه هو الحاضر.

ترد الأفعال كلها، في المثل، في زمن الماضي ماعدا فعل واحد هو “أقول” وهو الفعل الذي يسبق الأمر الذي يعطيه رب البيت للحصادين، وكذلك فعل: “يقولون” [في النص اليوناني، أما في الترجمة العربية فيرد الفعل في الماضي] الذي يسبق سؤال العبيد الثاني: “أفتريد أن..” الذي يرد في الحاضر. ربما يكون السبب الذي دفع الكاتب لاستخدام الحاضر هو رغبته في التركيز على أهمية هذا السؤال. تنساب الرواية بلا عقبات. ولكن يبدو أن هناك آثار تعديل أُدخلت على المثل تظهره ملاحظة “فلما نما النبات وأخرج سنبله” (مت 26:13أ) والتعبير اليوناني يشير إلى إخراج الثمر. بالتالي يكون هناك استعجال في النتيجة. على أي حال يجب فهم ذلك على بداية خروج السنبلة وليس على زمن تكوين الحَبِّ ونضوجه داخلها. وفي الواقع عندما تخرج السنبلة من الورق يستطيع المرء أن يميز بين الزوؤان والقمح.

ألم تزرع زرعاً جيداً…؟

ليس من المستغرب أن ينتقم أحدهم من خصومه بأن يحرق محصولهم (راجع قض 4:15-5) أو أن يدس الزوؤان في حقله: (مت28:13) “وبينما الناس نائمون، جاء عدوه فزرع بعده بين القمح زوؤاناً وانصرف ” (مت 25:13). يظهر العبيد دهشة من ظهور الزوؤان في القمح، بينما لا يندهش رب البيت وكأنه كان يتوقع شيئاً من هذا القبيل ويندهش العبيد مرة أخرى من هدوء سيدهم ورد فعله وإجابته: “أحد الأعداء فعل ذلك” (مت 28:13أ). كما أن تأكيده الأخير لم يكن مستغرباً بأن الفصل سيتم في وقت الحصاد: حيث سيُجمع القمح في الأهراء ويُلقى الزوؤان في النار.

لعل أهم ما يثير دهشة المستمع والقارئ، وبالتالي يمثّل قمة الإثارة، هو رد رب البيت على سؤال عبيده الثاني والذي فيه يأمر عبيده: “دعوهما ينبتان معاً” (مت 30:13أ). من عادة المزارعين أن يقوموا بتنقية حقولهم من الحشائش الضارة، ويتم ذلك بعد ظهور النبات بمدة قصيرة. فلماذا اتبع رب البيت في هذا المثل الطريق المضاد؟ تجمع كل الأدلة على أن مركز المثل هو الحوار كما تظهر هذه الأدلة أن قمة الحوار هي إجابة رب البيت الثانية. لا يقلل هذا من أهمية الإجابة الأولى. وهناك ما يبرر دهشة العبيد: “يا رب، ألم تزرع زرعاً جيداً طيباً في حقلك؟ فمن أين جاء الزوؤان؟” (مت27:13)

لا يدور الحديث حول حقل قمح، إنما يدور عن صورة ملكوت الله في التاريخ. إن سؤال العبيد في عموميته سؤال شامل وقديم شمول الإنسان وقدمه. “إذا كان الله صالحاً، فلماذا يوجد الشر في العالم ومن أين أتى؟” عندما يرد هذا السؤال في الإنجيل، فإنه يكتسب أهمية كبيرة ومعنىً عميقاً وبعداً خاصاً: إذا كان الزمن المسياني قد حلّ، فلماذا توجد بعدُ الخطيئة في العالم، لا بل في الجماعة المسيحية؟ لم يكن جديداً أن يسمح للشر بأن يتواجد ويتعايش مع الخير، ولكن الجديد والمثير للدهشة أنّ تدخُّل الله الأخير، وهو ما كان المرء يتصوره مختلفاً عما هو عليه بالفعل، لم يغيّر شيئاً! ألم يكن هذا هو الزمن الذي فيه يعيد إرساء قواعد العدل في العالم؟ يبدو أن الزمن المسياني هو مجرد وعد لا يتحقق! وأن انتظار ملكوت الله هو مجرد حلم أو نبوءة لم تتحقق بعد. لكن يجب على المؤمن أن يقرأ الأمثال على ضوء الملكوت الذي تحقق: بهذا تجد الأمثال قوتها وأهميتها وفرادتها. أجاب رب البيت على سؤال عبيده حول مصدر الزوؤان: “أحد الأعداء فعل هذا”، وكأنه يريد أن يقول: لا دخل لي بما حدث، ولست مسؤولاً عنه. لم يكن باستطاعته أن يضيف تفاصيل أخرى. ما يهم الكتاب المقدس ليس هو أصل أو مصدر الشر، بل كيف يعيش الإنسان في العالم حيث ينمو الشر والخير معاً.

إن مسألة أصل الشر هي مسألة نظرية، في حين أن الحياة في عالم يتشابك فيه الخير والشر هو أمر عملي. والمثل يتوقف ويركّز على الأمر الثاني. يرى بعض مفسري الكتاب المقدس أن سؤال العبيد عن مصدر الزؤوان ورد رب البيت عليهم تم إدراجهما في المثل في وقت لاحق. ولكن هؤلاء يستندون على أدلة ضعيفة غير مقنعة. فليس هناك ما يمنع الكاتب من إدراج أسئلة ثانوية في روايته بجوار الأسئلة الأساسية، بشرط ألاّ تقطع الأسئلة الثانوية السياق وألا تخلّ بالحبكة القصصية، وإلا تشتت انتباه القارئ أو السامع عن المسألة الأساسية. وفي هذا المثل لا يشتت السؤال، الذي يرى البعض أنه إضافة لاحقة، الانتباه عن المسألة الجوهرية، لا بل إنه يوضحها ويبرزها. لم يكن الزوؤان ناشئاً عن رغبة أو موافقة رب البيت لذلك اعتقد العبيد أنه من الأفضل اقتلاعه. لكنهم يفكرون بطريقة مغايرة لطريقة تفكير سيدهم. أقول للحصادين سبق وقلنا إن الزمن الذي يجب التوقف عنده هو الحاضر، لذلك ولا خاتمة المثل يتم التوقف عندها. ومع ذلك يرد فيها شيء هام جداً.

تأكيد الفصل النهائي: الزوؤان يُلقى في النار ويجمع القمح في الأهراء. يظهر هذا أن أمر رب البيت بعدم انتزاع الزوؤان الآن لا يعني أنه لا يبالي بالشر أو أنه يقبله ويسكت عليه. إن الفصل والتمييز، الذي سيتم في المستقبل، لهما دليل على أن الله يأخذ الإنسان مأخذ الجد، وفي الآن ذاته يحرر الإنسان وبذلك يدخل الملكوت بدون اللهفة وهمّ خلق وإيجاد مجتمع يكون فقط من القدّيسين الأبرار. لقد رفض يسوع أن يكوّن جماعة محدودة أو “بقية مقدسة”. إنه لا يريد أن يضطلع تلاميذه بواجب الحصادين. ولكن، لأجل هذا السبب، عليهم أن يعرفوا قصة الزرع الجيد والزوؤان بكاملها، حتى إن كانوا الآن لا يرون إلا أحد جوانبها: الزمن الذي ينمو فيه الزوؤان والقمح معاً. لا يرفض سيد البيت ضرورة الفصل والتمييز. ولكنه يرى أن زمن ذلك لم يحن بعدُ وأن مسؤولية وواجب الفصل لا تقع على البشر. دعوهما ينبتان معاًيرجع وجود الزوؤان في الحقل إلى عمل أحد الأعداء، أمّا السماح بأن ينمو مع القمح فهو راجع إلى إرادة رب البيت: “دعوهما ينبتان معاً” (مت 30:13أ).

تقوم جِدّة المثل في هذا الأمر غير المنتظر، والذي يليه تبرير لا يخلو من نبرة تهكمية: “مخافة أن تقلعوا القمح وأنتم تجمعون الزوؤان” (مت29:13). يعيش الخير والشر، الأبرار والخطأة معاً في عالم يصعب الفصل بينهما فيه. وما غاب أبداً عبيدٌ وبشر كان هذا الأمر سبب شكوك لهم: ألا يجدر بالله أن يسوس العالم ويحكمه بقوانين أكثر وضوحاً، لا بل عدلاً؟ إنهم يرون أن حلم الله واحتماله تخطيا كل حد، لذلك يقومون بأنفسهم بسد هذا النقص في العدل الإلهي! عاصر يسوع الفريسيين، الذين ادّعوا أنهم يكوِّنون شعب الله المبرَّر، المنعزل عن العامة الخطأة. كما اعتزل الأسينيون العامة وعاشوا في البرية متَّبعين أدق ترتيبات الطهارة الشرعية، رافضين كل شركة مع من كانوا يعتقدون أنهم خطأة وغير طاهرين. حتى يوحنا المعمدان نادى بمسيح يفصل بين الأشرار والصديقين: “بيده المذرى ينقي بيدره فيجمع قمحه في الأهراء، وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ” (مت12:3).

جاء يسوع ويبدو أنه كان يفعل عكس ذلك تماماً. فإنه لا يعزل نفسه عن الخطأة ولا يتخلى عنهم بل يسامحهم. لا بل أنه يقبل أن يكون أحد الاثني عشر خائناً، ويحيط نفسه بتلاميذ على استعداد أن يتركوه. نستطيع على ضوء هذا فهم قوة مثل الزوؤان. هناك تناقض حاد بين تصرّف الله الصبور والمتسامح وتصلّب وتشدّد عبيده. ومن المعروف أن الجماعة المسيحية الأولى تعرّضت لتجربة التشدّد، فدار الجدل حول إمكانية مغفرة الخطايا بعد العماد.

يدعو مثل الزرع الجيد والزوؤان الجماعة أن تكون رحيمة، ويشدّد بولس الرسول في رسالته الأولى إلى كورنتس على هذا الأمر: “فلا تدينوا أحداً قبل الأوان، قبل أن يأتي الرب، فهو الذي ينير خفايا الظلمات ويكشف عن نيات القلوب” (1كو 5:4). وتشير كلمة “تسامح” إلى مفاهيم عديدة؛ فهناك تسامح مرادف لـ “لامبالاة” ليس هذا التسامح هو الذي يقصده مثل الزرع الجيد والزوؤان، الذي يتكلم عن تسامح نتيجة حب. إنه تسامح الله الذي تجلّى في حياة وتصرفات يسوع الناصري. عن مجلة صديق الكاهن