مريم العذراء…نجمة الرجاء – د. الأب / ميلاد صدقي زخاري اللعازري
مريم العذراء…نجمة الرجاء – د. الأب / ميلاد صدقي زخاري اللعازري
تتناول مداخلتي النقاط التاليّة:
أولاً: الخلفية الليتورجيّة، ثانيًا: الجذور المجمعيّة،
ثالثًا: المنطلقات اللاهوتيّة، رابعًا: اعتبارات روحية،
خامسًا: مناجاة تأمليّة.
أولاً: الخلفيّة الليتورجية
إذا كان قداسة البابا بنديكتُس السادس عشر قد استخدم لقب “نجمة الرجاء” عند حديثه عن مريم العذراء، فمما لا شك فيه إن تلك العادة البابويّة الحميدة، باختتام الرسائل العامّة والإرشادات الرسوليّة بصلاة مريميّة (انطلاقًا من البابا يوحنا بولس الثاني)، كانت ستتوجّه، حتمًا، إلى مريم العذراء بهذا اللقب بالذات، لأنه موضوع الرسالة ذاتها.
ولكن المتتبع لليتورجيات المريميّة، سيجد، بكل تأكيد، خلفيات لهذا اللقب نوردها في لمحة تاريخيّة سريعة.
1) لقب “نجمة البحر”:
كما ذكر قداسة البابا بنديكتُس السادس عشر، يعود لقب “مريم، نجمة البحر” إلى تحية تخاطب بها الكنيسة أمّ الله وأمّنا قائلة: “سلام، يا نجمة البحر =Ave, maris stella ” إلى ترنيمة عريقة تتموقع بين القرنين السابع والتاسع . كما يحتاج البحّار إلى نجم يستوحى منه صراطًا
O Santa Madre del Redentore,
porta dei cieli, stella del mare,
soccorri il tuo popolo che anela a risorgere. Alma Redemptoris Mater
Qu? pervia c?li porta manes, et stella maris,
succorre cadenti, surgere qui curat, popolo.
Tu che accogliendo il saluto dell’angelo,
nello stupore di tutto il creato,
hai generato il tuo Creatore,
Madre sempre vergine,
pièta di noi peccatori. Tu qu? genuisti, natura mirante,
tuum sanctum Genitorem,
Virgo prius ac posterius,
Gabrielis ab ore sumens illud Ave,
peccatorum miserere.
مستقيمًا في تلاطم الأمواج ولُجّة البحار، وفي غياب اليابسة وحالك الظلام، أصبحت مريم، على الصعيد الروحي، نجمة الحائر المتلمّس دربه في مسالك هذه الحياة. خلّدت هذه الفكرة الترنيمة اللاتينية الشهيرة)Alma) Redemptoris Mater) التي يرد فيها هذا اللقب :
2) لقب “سفينة النجاة، ميناء المسافرين”:
في نفس سياق السفر بحرًا، تحفل مدائح الليتورجيّا البيزنطيّة بهذين اللقبين المشابهين لمريم العذراء :
“السلام عليك يا سفينة للذين يرومون خلاصًا.
السلام عليك يا ميناء المسافرين في بحر الحياة”. « Rallegrati, nave di vuol esser salvo.
Rallegrati, porto di chi naviga la vita »
3) لقب “نجمة الصبح”:
في أساس هذا الدعاء ، ترقب الحارس الليلي لانتهاء مهمته بانبلاج الفجر الذي تؤكّده له أول نجمة، يسطع نورها في ظلام الليل المدلهم. نجد هذا اللقب أيضًا مخلّدًا، أولاً، في طلبة العذراء حيث ندعوها: “يا نجمة الصبح، تضرعي لأجلنا”. ثم نجده، ثانيًا، في الطقس البيزنطي :
“السلام عليك يا كوكبًا لا يغيب، مُدخِلًا إلى العالم الشمس العظيمة” « Rallegrati, stella che manifesta il sole »
كما نجده، ثالثًا، في تلك الترنيمة العربية الشهيرة “يا مريم البكر فُقتِ الشمس والقمرا”:
يا مريم البكر فقت الشمس والقمرا
يا نجمة الصبح شعي في معابـدنا وكل نجم بأفلاك السـماء سرا
ونوري عقلنا والسمع والبصرا
أو، في المعنى نفسه، في لقب “الصبح المنير”:
“السلام عليك يا صبحًا منيرًا، حمل وحده المسيح مسكن النور،
السلام عليك يا من بدّدت الديجور ومحقت تمامًا الأبالسة المظلمين”.
4) لقب “مفتاح ملكوت المسيح، رجاء الخيرات الأبدية”: هنا أيضًا، نجد هذين اللقبين في المدائح البيزنطية :
“السلام عليك يا مفتاح ملكوت المسيح.
السلام عليك يا رجاء الخيرات الأبدية” « Rallegrati, chiave del regno di Cristo.
Rallegrati, speranza di beni eterni»
ثانيًا: الجذور المجمعية
ننتقل من هذه الباقة من الألقاب المريمية، وهي أبعد ما يكون عن استنفاذ غنى التقليد المسيحي في التعبير عن إكرام والدة الله، إلى مساهمة المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، في الدستور العقائدي في الكنيسة ” نور الأمم”، الصادر في 21/11/1964، (فقرة 68). نظرًا لتباين الترجمات، نوردها مقارنة بالأصل اللاتيني:
الترجمة اللبنانية الترجمة المصرية الأصل اللاتيني
“كما أن أمّ يسوع في تمجيدها الآن في السماء بجسدها وروحها هي صورة وبدء الكنيسة التي ستبلغ كمالها في العصر الآتي، هكذا إنها تزهو على هذه الأرض علامة العزاء والرجاء الأكيد لشعب الله في حجته إلى أن يأتي يوم الرب”. “كما أن أمّ يسوع، الممجدة الآن جسدًا ونفسًا، هي صورة للكنيسة وبداية لكمالها في الدهر الآتي، فعلى هذا النحو تسطع على هذه الأرض، وإلى أن يأتي يوم الرب (2بط 3/10) كآية لرجاء وطيد وعزاء لشعب الله المغترب”. «Interim autem Mater Iesu, quemadmodum in c?lis corpore et anima iam glorificata, imago et initium est Ecclesi? in futuro s?culo consummand?, ita his in terris, quoadusque advenerit dies Domini (Cf. 2 Petr. 3/10), tamquam signum cert? spei et solatii peregrinanti Populo Dei praelucet”.
إذًا، فمريم العذراء، حسب هذا الدستور العقائدي في الكنيسة، هي “آية الرجاء الوطيد”. في هذا النهج المجمعي، سار قداسة البابا بنديكتُس السادس عشر في خاتمة رسالته العامّة “مخلّصون بالرجاء”، واصفًا مريم العذراء بكونها “نجمة الرجاء”، مازجًا بين الليتورجيا العريقة: “نجمة البحر” والمجمع المسكوني “آية الرجاء”، بين التكريم الإيمانيّ والتحديد العقائديّ، بين حس المؤمنين وتعبير رعاتهم، متحدين بخليفة القديس بطرس، وتحت إلهام الروح القدس.
نتساءل الآن عن المنطلقات اللاهوتيّة الكامنة وراء هذا اللقب “مريم، نجمة الرجاء”.
ثالثًا: المنطلقات اللاهوتية
نحدّد، أولاً، مفهوم الرجاء، لنتفرغ، ثانيًا، لاستيضاح وشائج مريم بهذا المفهوم.
الرجاء: بحثًا عن الجذور الكتابية لهذه الكلمة، إن “مفردات الرجاء العبرية هي، إلى حد ما، مفردات الإيمان. وهذا دليل على أن الواحد منهما ضمن الآخر. وحين يتميز الواحد عن الثاني، وهذا ما نراه في رسائل بولس خاصة، فإن الإيمان يشدد على وجه المعرفة في عمل الانضمام إلى الله والثقة. أما الرجاء فإنه يشير، في هذا العمل نفسه، إلى وجه انتظار الخيرات الموعود بها والصبر. على الصعيد اللاهوتي، الرجاء من أمهات الفضائل، وهو يجعلنا ننضم إلى الله بصفته الصلاح الكامل، أي غاية الإنسان الأخيرة وسعادته، لننال بعونها السعادة الموعود بها” .
• مريم العذراء نجمة الرجاء، لأنها في الوقت نفسه، كما ندعوها في الطلبة: “كرسي الحكمة، سبب سرورنا، تابوت العهد، باب السماء، نجمة الصبح، شفاء المرضى، ملجأ الخطأة، معزية الحزانى، معونة النصارى”.
• مريم العذراء نجمة الرجاء، لأنها صاحبة تطويبة فريدة: “طوبى لمن آمنت: فسيتم ما بلغها من عند الرب” (لو 1/45). هذا الإيمان الذي تمتدحه أليصابات صراحة، سيمتدحه يسوع المسيح، ضمنيًا، حينما سيقول: “إن أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها” (لو 8/ 21)؛ أو حينما لا تتمالك امرأة نفسها إعجابًا بيسوع فترفع عقيرتها قائلة: “طوبى للبطن الذي حملك، وطوبى للثديين اللذين رضعتهما!” فقال يسوع: “بل طوبى لمن يسمع كلمة الله ويحفظها!” (لو 11/27-28). لنا أن نتساءل عمّا إذا كان إيمان مريم عقب سماع بشارة الملاك فيه ما يستحق تطويبة خاصة. ألم تكن كل فتاة في إسرائيل تحلم، في النوم وفي اليقظة، بأن تكون من سيختارها الله أمًا للمخلص؟ لنقارن بين موقفي مريم وزكريا، كرد فعل على بشارة الملاك :
وجه المقارنة زكريا مريم
مكان تلقي البشارة الهيكل، بالقرب من قدس الأقداس المنزل العادي
ظروف البشارة صلاة طقسية في الهيكل الأورشليمي
أقدس مكان لاستقبال الوحي الإلهي تواجد في المنزل الفقير في الناصرة
أبعد ما يمكن عن قداسة الهيكل
موضوع البشارة الحبل بابن لأب وأم
سبقته صلوات كثيرة إلى الله الحبل بابن بدون أب بشري
لم يدر بخلدها هكذا طلب
الإمكانيات الطبيعية متزوج، فالضمانات الطبيعية متوفرة عذراء، فالضمانات الطبيعية مستحيلة
رد الفعل المتوقع الفرح والشكر،
ولكن جاء بدلًا عنهما رفض التصديق الشك والارتياب،
ولكن جاء بدلاً عنهما القبول بكل الإيمان
رد فعل الملاك فرض قصاصًا على الكاهن: الصمت غادر حاملاً موافقة إيمان آمة الرب
إذًا، في مثل هذه الظروف غير الموآتية، جاء إيمان مريم عميقًا ومتواضعًا، فرحًا وحامدًا، أمينًا على المدى القريب والبعيد، غير آبه بخطر الرجم الذي كان عقوبة الخطيبة الزانية في شريعة موسى، ولا بعدم وجود مكان في المنزل حينما ستكون على أهبة الولادة، ولا بحملات هيردوس الذي يريد قتل الصبي، ولا بما سيصلها من أخبار ابنها حينما سيبدأ كرازته بأنه “فاقد الرشد” كما سيقول الأهل، أو “بعلزبول”، كما سيتهمه الكتبة، أو “سامري” كما سينعته بعض اليهود. ما أعظمه إيمان مريم يوم الجمعة العظيمة، حينما لن تجد أمامها، من الإله الكامل والإنسان الكامل، إلا الإنسان، بل من الإنسان لن تتسلم سوى جثة هامدة، بينما كان الملاك قد أخبرها في البشارة بأنه “يملك على بيت يعقوب أبد الدهر” (لو 1/33)!!!. في هذا الصدد يعلق الأب جان غالو: “لقد برهن الآب السماوي على حبه ببذل ابنه الوحيد موتًا لخلاص البشر، ولكن هذا البرهان العظيم على الحب الإلهي لا يلمس بعض القلوب إلا بطريقة غاية في السطحية. كثيرون لديهم الشعور بأن الله بعيد جدًا عنهم، لا بل بأنه لا يحبهم البتة. ما ينقص هؤلاء هو بالضبط ما يكمن فيه استحقاق مريم العذراء، ألا وهو الإيمان بالحب. كثيرون يتبعون خطى شكوك زكريا كاهن أورشليم بدلاً من خطى إيمان مريم فتاة الناصرة” . يحدّد يسوع مهمته الخلاصيّة بكونه جاء “لتكون الحياة للناس وتفيض فيهم” (يو 10/10)، وما هذه الحياة؟ “الحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحق وحدك ويعرفوا الذي أرسلته يسوع المسيح” (يو 17/3). هنا يأخذ إيمان مريم كامل قيمته، لها ولنا.
• مريم العذراء نجمة الرجاء، لأنها، في الوقت نفسه، أم الله وأمنا. نتذكر هنا مجمع أفسس، فمنه أكّدت الكنيسة حقيقة الأمومة الإلهيّة. الله محبة لا محدودة، يغمر بها قلب مريم أمه، فكيف لا تغمرنا هي أيضًا بقبس من تلك المحبة وقد جعلها أمنا من على خشبة الصليب؟ وإلا كيف نفسر رسائل العذراء في مختلف ظهوراتها داعية البشر إلى الصلاة وإلى التوبة؟ إذا كان بولس الرسول يقول “جهد وكد، سهر كثير، جوع وعطش، صوم كثير، برد وعري، فضلاً عن سائر الأمور من همي اليومي والاهتمام بجميع الكنائس. فمن يكون ضعيفًا ولا أكون ضعيفًا؟ ومن تزل قدمه ولا أحترق أنا؟” (2 قور 11/27-29)، فكيف لا يكون هذا الإحساس مضاعفًا إلى ما لا نهاية عند الأم الحنون؟ يقول الرب: “أتنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى ولو نسيت النساء فأنا لا أنساك” (أش 49/15). ما أسعدنا بحنان مريم أمنا مضافًا إلى حنان الله الذي منه تأتي كل أبوة “في السماء وعلى الأرض” (أف3/15)! إن نظر مريم وابتسامتها، المملوءين من حنان الأمومة اللامتناهي، هما رسولان من الله، ينبوع كل حنان: “انظروا أي محبة خصنا بها الآب لندعى أبناء وإننا نحن كذلك” (1 يو 3/1). من خلال ابنها يسوع، تنظر مريم إلى كل البشر وتبتسم لهم (…). بأمومتها الحانية، تسهر على كل واحد منهم كما لو كان الوحيد، حتى لا ينقصه أبدًا لا الرجاء ولا الصلاة.
• مريم العذراء نجمة الرجاء، لأنها دائمة البتولية، خصوصًا البتولية الروحية، بمعنى هذا الحب الخالص لله والأمين دومًا لمشيئته الخلاصية “فهذا أمر حسن ومرضي عند الله مخلصنا، فإنه يريد أن يخلص جميع الناس ويبلغوا إلى معرفة الحق” (1تيم 2/3-4). الله هو الآب الرحيم (لو 15)، والراعي الصالح الباحث دومًا عن خروف ضال واحد. فكيف تكل مريم العذراء عن افتقادنا؟ كيف تهمل مريم أمر خلاصنا؟
• مريم العذراء نجمة الرجاء، لأنها بانتقالها إلى السماء، قد زادت من شفاعة أمومتها. قبل تأسيس عيد الانتقال في ليتورجيا الكنيسة، وقبل تحديد عقيدة الانتقال (بيوس الثاني عشر، 1/11/1950)، تحدث الوحي في سفر الرؤيا: “ثم ظهرت آية عظيمة في السماء: امرأة ملتحفة بالشمس، والقمر تحت قدميها، وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكبًا” (رؤ 12/1). كم تشفع موسى وصموئيل من أجل الشعب، فكم بالأحرى ستتشفع فينا أم حقيقية؟ لقد وصلت الجرأة بموسى النبي إلى أن يقول لله: “آه! يا رب، قد خطئ هذا الشعب خطيئة عظيمة، وصنع لنفسه آلهة من ذهب. والآن إن غفرت خطيئته … وإلا فامحني من كتابك الذي كتبته” (خر 32/32)، فكم ستتجاوز أمومة مريم جراءة موسى؟ وإلا كيف نفسّر تعدّد ظهورات مريم العذراء إلى أيامنا هذه؟ حين صعد يسوع إلى السماء، لاهوته لم يفارق ناسوته، حمل معه إلى صميم المجد الإلهي طبيعتنا البشرية، لقد فتح لنا هذا الباب الذي كان موصدًا. وهكذا جاء دور مريم العذراء، بانتقالها بالنفس والجسد إلى السماء، بصفتها أول المفتدين، لتنال لها ولنا تحقيق هذا الوعد الإلهي. يمكننا تلخيص هذه الحركة على النحو التالي:
تجسد الكلمة صعود المسيح انتقال العذراء خلاص البشر المجد الإلهي
الطبيعة البشرية
انطلاقًا من التحديد البابوي والليتورجيا البيزنطية، هكذا يعبّر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية قائلا”: “انتقال القديسة العذراء اشتراك فريد في قيامة ابنها، واستباق لقيامة المسيحيين الآخرين: “في ولادتك حفظت البتولية، وفي رقادك ما تركتِ العالم، يا والدة الإله؛ فإنك انتقلت إلى الحياة، بما أنك أم الحياة، وبشفاعتك تنقذين من الموت نفوسنا” (فقرة 966).
• مريم العذراء نجمة الرجاء، لأنها المنزهة عن كل خطيئة. عكس ما نتوقع، تزيد القداسة من الحنو على الخطاة. الله يحب الخاطئ ويكره الخطيئة. لقد تحدى يسوع قائلاً: “من منكم يثبت عليّ خطيئة؟” (يو8/46)، ومع ذلك فهو نفسه الذي يؤكد: “ما جئت لأدعو أبرارًا، بل خطاة إلى التوبة” (لو 5/32). ألا نستطيع، بالمماثلة الوصول إلى نفس الموقف من قِبَل مريم العذراء؟
• مريم العذراء نجمة الرجاء، لأنها شريكة في الفداء. هذا ما يؤكده الدستور العقائدي في الكنيسة: “إن العذراء الطوباوية التي اختيرت أمًا لله منذ الأزل، حيث تقرر تجسد الكلمة، كانت على هذه الأرض، بتدبير العناية الإلهية، أمًا حنونًا للفادي الإلهي، وشريكة سخية في عمله أكثر من الجميع، وأمة الرب المتواضعة. وهي إذ حبلت بالمسيح وولدته وغذته وقدمته في الهيكل إلى أبيه وتألمت مع ابنها المائت على الصليب، قد اشتركت بطريقة فريدة للغاية، في عمل المخلص بطاعتها وإيمانها ورجائها ومحبتها الحارة لترد إلى النفوس الحياة فائقة الطبيعة. وقد غدت لهذا السبب أمًا لنا في نظام النعمة” (نور الأمم، 61). ثم يضيف المجمع: “وأمومة مريم في تدبير الخلاص تستمر بلا انقطاع إلى أن يبلغ جميع المختارين المجد الدائم، منذ أن أبدت إيمانها يوم البشارة ورضاها الذي حافظت عليه بلا تردد تحت الصليب. ولم تتخل عن هذه المهمة الخلاصيّة بعد انتقالها إلى السماء، إذ إنها بشفاعتها الدائمة لا تزال تنال لنا نعم الخلاص الأبدي. وإنها تسهر بمحبة الأم على إخوة ابنها المتغربين على الأرض وسط المخاطر والضيقات، حتى يصلوا إلى فردوس النعيم. لأجل ذلك تتضرع الكنيسة إلى العذراء الطوباوية وتدعوها مؤيدة ومعينة ومساعدة ووسيطة. وهذه الألقاب يجب أن تفهم بحيث لا تقلل من كرامة المسيح وقدرته بوصفه الوسيط الأوحد أو تزيد عليها. فما من خليقة يمكن أن تتعادل مع الكلمة المتجسد والفادي. ولكن كما أن كهنوت المسيح يشترك فيه، بطرق مختلفة، الخدام والشعب المؤمن، وكما أن صلاح الله، الواحد، يفيض حقًا على الخلائق بصور متباينة، فكذلك وساطة الفادي الوحيدة لا تستقصي بل تبعث تعاون الخلائق بطرق مختلفة ينبع من المصدر الواحد. والكنيسة لا تتردد في الاعتراف بهذه المهمة المنوطة بمريم، كما أنها لا تزال تختبرها وتعهد إلى قلوب المؤمنين حتى يتمسكوا بالوسيط والمخلص تمسكًا أوثق مستندين إلى عون الأم” (نور الأمم، فقرة 62).
للمقال بقية،،،
عن مجلة صديق الكاهن العدد الرابع2008