مقدّمة في البصخة-الأخ وديع الفرنسيسكانيّ
مقدّمة في البصخة-الأخ وديع الفرنسيسكانيّ
تقديم المخطوطات
في كتابنا «دراسة عن المؤتمن بن العسّال وكتابه “مجموع أصول الدين” وتحقيقه» (دراسات شرقيّة مسيحيّة، 5، القاهرة-القدس، مؤلَّفات المركز الفرنسيسكانيّ للدراسات الشرقيّة المسيحيّة، مطبعة الآباء الفرنسيسيين، 1997، ص 161-162)، أشرنا إلى مقالة «مقدّمة البصخة المقدَّسة»، كواحدة مِن مؤلَّفات المؤتمن، وذكرنا مضمون النصّ ومخطوطاته.
وتعتمد النشرة على مخطوطتَين كانتا في حوزة القسّ بولس سباط السريانيّ الكاثوليكيّ (1887-1942)، الذي عاش في القاهرة، وبالتحديد في حيّ الموسكي، بجانب ديرنا. وتحمل المخطوطة الأولى رقم 1126، والثانية رقم 1008. وقد وصف سباط المخطوطتَين في كتابه Paul Sbath, Bibliothèque de Manuscrits Paul Sbath. Catalogue, 3 vol., Cairo, 1928-1934: رقم 1126 في المجلّد الثالث، ص 3-6؛ ورقم 1008 في الثاني، ص 126-128. وقد آلت المخطوطتان مع غيرهما، بعد وفاة سباط، إلى مؤسَّسة جورج وماتيلده سالم التابعة لمطرانيّة الروم الكاثوليك في حلب.نشكر مؤسَّسة جورج وماتيلده سالم ومطرانية الروم الكاثوليك بحلب للسماح لنا بالحصول على صور للمخطوطتَين. ونشكر الأستاذ مهران ميناسيان مِن الأرمن الكاثوليك بحلب للقيام مشكورًا بالتصوير. كما نشكر الأب منصور مستريح، وقد كان الواسطة في الحصول على الصور.
وكان المؤتمن قد أدرج جزءًا مِن «مقدّمة البصخة» (الأرقام 20-33، 37-39) في الباب السادس والثلاثين مِن كتابه «مجموع أصول الدين ومسموع محصول اليقين» (دراسات شرقيّة مسيحيّة، أبحاث مفردة، 7، المجلّد الثاني. تحقيق الأخ وديع الفرنسيسكانيّ، القاهرة-القدس، مؤلَّفات المركز الفرنسيسكانيّ للدراسات الشرقيّة المسيحيّة ومطبعة الآباء الفرنسيسيين، 1999، الأرقام 7-23، ص 116-119). ويحمل الباب المذكور هذا العنوان: «يشتمل على كيفيّة الاتِّحاد، حال الصلب والقتل والدفن». ويرد النصّ الذي يهمّنا تحت هذا العنوان الفرعيّ: «ومِن مقالة كنت وضعتها في جمعة البصخة، ممّا هو داخل في سمط هذا المعنى، وهو محتوٍ على برهانين عقليّ وشرعيّ». وقد قمنا بمقارنة نصّ المخطوطتَين المذكورتَين مع النصّ المحقَّق في «مجموع أصول الدين».
وقد قسَّمنا النصّ إلى فقرات تحمل أرقامًا متتابعة، وتدخل عناوين المؤلِّف في الترقيم، وإنْ لم يسبق العنوانَ الرقمُ، ولا يدخل العنوانان المضافان منّا بين قوسين مربّعين، في هذا الترقيم. وهكذا فالبسملة هي رقم 1، والعنوان الأساسيّ رقم 2، وبداية نصّ كلمة التقديم رقم 3.
وقد قسَّم المؤتمنُ النصَّ، بعد كلمة التقديم (الأرقام 3-18)، إلى نهجين. ويشمل النهجُ الأوّل برهانين: عقليّ (19-32)، ونقليّ، أيْ كتابيّ (33-39). ويشمل النهجُ الثاني خمسةَ أقسام: الأوّل عن صوم جمعة البصخة (41-45)، والثاني عن صلوات جمعة البصخة (46-55)، والثالث عن عيد الفصح (56-58)، والرابع عن الممنوعات في جمعة البصخة (59-65)، والخامس ما يجب عمله لمن فاتته جمعة البصخة (66-68).
بسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد.
«مقدّمة البصخة المقدَّسة»
إنشاء الشيخ المؤتمن بن العسّال
[كلمة تقديم]
3 المجد للمسيح، الإله المعبود، مِن قِبَل وجوب وجوده؛
4 الذي خلَّصنا، بظهوره، مِن كيد الشيطان وجنوده؛
5 وافتكَّنا، بقوّة صليبه، مِن أسر عدوِّنا وقيوده
6 وفدانا، بجسده، مِن هوّة الجحيم وأخدوده.
7 وصدَّق، بتجسُّده، أقوالَ أنبيائه، وشهاداتِ شهوده.
8 نمجِّده على جوده علينا بذاته، التي هي أفضل الذوات.
9 ونوحِّدها توحيدًا، ندَّخره للحياة والممات.
10 ونثلِّث صفاتها تثليثًا، تنحصر فيه أقسامُ الصفات.
11 أمّا بعد!
12 فإنّه لمّا بلغنا عن قوم مِن أبناء البيعة أعدموا نفوسهم سعادةَ الاشتغال بالعلوم الدينيّة، أنّهم عندما تُشَنِّف الكهنةُ آخرات أسماعهم بتلاوة أناجيل صلوات جمعة البصخة المقدَّسة، تَحْدُث لهم شكوك عند سماعهم ذِكْر الآلام ولوازمه، والصلب، والموت، والدفن.
13 وإنّهم أيضًا يجهلون فروضَ هذه الجمعة، وعباداتِها العمليّة، ومناسكَها الليليّة والنهاريّة.
14 رأينا أنْ نتقرَّب إلى اللّه (تعالى) بوضع مقدّمةٍ لكتاب البصخة مقصورة على الكلام في هذين النهجين:
15 النهج الأوّل يحتوي على برهانين، أحدهما نقليّ، والآخر عقليّ:
16 فالنقليّ نبوّات الأنبياء المصرِّحين بهذا السرّ، قَبْل إبّانه؛
17 والعقليّ أقوال علماء البيعة الناطقين ببرهانه؛ قصدًا منّا أنْ نزيل هذا الشكّ، الذي بذره المعاند في أرض قلوب هذه الزمرة، وننفي مِن مدن عقولهم هذا الوهم، ونمصح مِن حواسّهم داءَ هذا التخيُّل، ونجلو صَدَأ مرايا بصائرهم؛ حتّى يروا الحقّ على كنهه، ونقوّي إيمانَهم قوّةً لا يتبعها ضعف، ولا يلحق كمالُ بدرها خَسْف. 18 النهج الثاني يشتمل على ذِكْر فروض وسُنَن هذه الأيّام المقدَّسة المقنَّنة في قوانين الرسل وأتباعهم، والموضوعة في البيعة القبطيّة. واللّه (تعالى) يجعل لنا ولمتأمِّليها الرشد بها والهداية، وينير عقولنا استنارةً نتبوّأ بها القصد والغاية.
[النهج الأوّل يحتوي على برهانين]
البرهان العقليّ مِن النهج الأوّل
20 أيّها الشاكّ في كيفيّة إمكان تألُّم السيِّد المسيح (له المجد)، وصَلْبه، وقَتْله، ودَفْنه، الغريق في بحار هذه الشُبْهة، الحريق بنار هذه الجذوة، القائل لنفسه: «كيف يُصْلَب الإله، أو تتناوله الأيدي بالهوان، أو تتعرَّض إليه عِبادُه بالامتهان، أو كيف يموت الإله الحيّ، ونحو ذلك».
21 اعلم أنّ السيِّد المسيح (تبارك وتعالى)، اليعاقبة يعتقدون فيه أنّه جوهر واحد متقوِّم مِن جوهرين:
22 أحدهما الإله الواحد، المعبود، القديم، الأزليّ، الحيّ، الذي لا يموت، الذي لا تحيط به صفة واصف، ولا تحويه معرفة عارف، الذي أطلع الأنبياء مِن الغيب على مكنونه، وأنجز لنا، مِن الوعد على ألسنتهم، حقيقةَ مضمونه.
23 وهذا الجوهر الإلهيّ لم يلحقه شيء مِن هذه الانفعالات، ولم تنله أيدي المخلوقين، في حال مِن الحالات لا دون الجسد، ولا مع الجسد (تعالى اللّه عن ذلك)؛ لانّ كلّ ما ليس بجسم، جوهرًا كان، أو عرضًا، فليس يصحّ لحوق التأثير بماهيّته، بل إذا كان في حاملٍ يسوغ القول فيه إنّه انفعل، فيُحْمَل الانفعال على المنفعل بالذات، ويقال على سواه بطريق العرض. فإطلاق وصف المسيح الإله بهذه الصفات، مِن قِبَل وقوعها بأحد الجوهرين اللذين هو متقوِّم منهما، وهو الطبيعة البشريّة خاصّةً، دون الذات الإلهيّة.
24 ومثال ذلك قول القائل: «إنّي صلبت فلانًا، وقتلته»، وهذا إنّما فعله بأحد جوهرَيه الذي هو جسده، دون الجوهر الآخر، الذي هو نفسه. «وإنّني ضربت فلانًا»، وإنّما ضرب جزءًا منه. «وإنّي رأيت فلانًا»، ولم يكن رأى سوى وجهه. «وإنّي أبصرت إنسانًا»، ولم يكن شاهَد سوى جسده. «وإنّ السلطان في المدينة الفلانيّة»، وإنّما هو في بعضها. ولهذه الأمثال نظائر كثيرة.
25 فكلّ واحد مِن هذين الجوهرين جزء مِن الجوهر الواحد، الذي هو المسيح. وكلّ ما هو موجود في جزء مِن الكلّ، هو موجود في الكلّ أيضًا
.26 والجوهر الثاني هو الإنسان المولود مِن مريم العذراء، الذي طبيعته مثل طبيعة الخلق طرًا، وهو مساوٍ لهم في جميع ذات الإنسانيّة ولوازمها ولواحقها، ما خلا الخطيئة.
27 وجسده يجري مجرى أجساد الآدميين كلّهم في قبول المرض والصحَّة، والراحة والتعب، والنوم واليقظة، والفرح والحزن، والجوع والعطش، والقتل والموت، ونحو ذلك ممّا يقبله الإنسان.
28 فالآلام التي قبلها المسيح الأولى، والصلب والموت، وما ناله مِن هذه الانفعالات والتأثيرات، إنّما لحق بهذا الجوهر الإنسانيّ، دون الجوهر الإلهيّ.
29 فإنّه مِن الظاهر: ما هو موجود في جزء شيء، هو موجود أيضًا في كلّ ذلك الشيء. وقد تقدَّم ضَرْب المَثَل فيه
.30 ونحن نوضِّحه أيضًا بتكراره ههنا بقولنا: «إنّا نجد جزءًا واحدًا متّحِد الأجزاء حيًا في بعض أجزائه، وميتًا في جزء آخر، كمَن يعرض له مرضُ الفالج، فيبطل مِن بعض أجزائه الحسُّ والحركة الإراديّة، وهما الفصلان بين الحيّ والميت، وتبقى أعضاؤه الأخَر محِسَّة، متحرِّكة بالإرادة، وهي متّحِدة بالعضو الميت، غير منفصلة عنه.
31 فالمسيح الإله (تبارك وتعالى)، في أحوال الصَلْب والقَتْل والدَفْن، ميت مِن حيث هو إنسان موتًا طبيعيًا، بتَرْك نفسه استعمال حواسّه، على غير المجرى الطبيعيّ. حيّ حياة الإلهيّة باتّحاد الإله به. فهو حيّ ميت، مِن هاتين الجهتين المختلفتين.
32 فأمعن النظرَ في هذا البحث إمعانًا ينقلك مِن ظلام الشكّ، إلى نور اليقين، واستعن على استطلاعك سرَّه بالتفهُّم والتفكُّر، فإنّهما نِعْمَ المعين.
البرهان النقليّ
مِن كلام اللّه (تعالى)، الذي استنطق به الأنبياء، قَبْل زمانه
34 مِن إشعيا النبيّ: «كمِثْل خروف سِيق إلى الذبح، وكمِثْل الحمل قدّام الذي يجزَّه، كان صامتًا هكذا، لم يفتح فاه، وسِيق إلى الحُكْم بتواضعه. مَن يقدر [أنْ] يقصّ ما لقيه؛ لأنّه رفع حياتَه مِن على الأرض، لأجل آثام الشعب. أتى إلى الموت، والمنافق يُجازَى بدفنه، والأغنياء عوض موته؛ لأنّه لم يصنع إثمًا، ولم يوجَد في فيه مكرٌ، والربّ أحبّ أنْ يخلِّصه مِن جراحاته».
35 ومنه أيضًا: «ويكون عبدًا للجماعة، وهو حامل خطاياهم؛ لأجل هذا يرث الكثيرَ عوضًا عمّا بذل نفسَه للموت، وأحْصِي مع الأثمة، واحتمل خطايا كثيرة، وأسْلِم مِن أجل ذنوبنا».
36 مِن إرميا النبيّ: «أنا كمِثْل خروف بلا عيب يُساق إلى الذبح، ولا يعلم. تشاوروا عليّ مشورةً رديئةً، وقالوا: “تعالوا نهلكه مِن أرض الحياة، ولا يُذْكَر بعد اسمُه. الربّ يحكم بالعدل، ويفحص ما في الكُلى والقلوب. أرني الانتقام الذي يكون فيهم مِن قِبَلك. مِن أجل هذا، يقول الربّ اللّه لقومٍ مخالفين، الذين يطلبون نفسك، ويقولون: “لا تتنبّأ لنا باسم الربّ؛ لئلاّ يكون موتك بأيدينا”. ها أنا أدعوهم، فشبّانهم يسقطون بالسيف، وبنوهم وبناتهم يهلكون بالغلاء، ولا تبقى منهم بقيّة». يشير النبيّ بهذا القول إلى اليهود.
37 ومنه أيضًا: «إنّكم منذ زمان مقاومون للحقّ مع آبائكم، ومع أولادكم، الذين يأتون بعدكم هؤلاء الذين يصنعون خطيئة مرذولة أكثر منكم؛ لأنّهم يثمِّنون الذي ليس له ثمن، ويؤلمون الذي يشفي الأمراض، ويغفر الذنوب، ويأخذون الثلاثين الفضّة، ثمن الذي تبيعه بنو إسرائيل، ويدفعونها في حقل الفاخوريّ، كما أمر الربّ، هكذا انطق: “ستنزل عليهم دينونة هلاك أبديّة، وعلى أولادهم مِن بعدهم؛ لأنّهم ألقوا دمًا زكيًا في الدينونة”».
38 مِن هوشع النبيّ: «امضوا نرجع إلى اللّه، لأنّه هو الذي أسقم ويداوينا، شجّ، وضمّدنا، يحيينا بعد يومين، وفي اليوم الثالث يقيمنا، ونحيا بين يديه، ونعرف. لنسرع في معرفة اللّه كالصبح مهيئًا خروجه، ويكون كالقطر، وكالوابل المنحدر إلى الأرض».
39 ولهذا الكلام الطاهر النبويّ المقدَّس عدّة فصول مضارعة له ومشابهة، قد تضمَّنها كتاب البصخة المقدَّسة، وتشهد بها كُتُب العتيقة، التي يتعبَّد اللّهَ بها اليهودُ خصومنا، في هذا المقام العظيم. ويكفينا في هذا شهادة خصومنا بصحّة دعوانا واستماع بيِّناتنا الصادقة منها.