stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

عقائدية

من المسيحِ تنطلِقُ حياتُنا الرهبانيّةُ-دير سيدة اللويزة، زوق مصبح

720views

download (8)من المسيحِ تنطلِقُ حياتُنا الرهبانيّةُ-دير سيدة اللويزة، زوق مصبح

رسالة الأباتي أبو عبدو الى الرهبان المريميين بمناسبة عيد مار أنطونيوس

من المسيحِ تنطلِقُ حياتُنا الرهبانيّةُ بينَ نُسكِ مار مارون وشغفِ مار أنطونيوس.

يُصادِفُ عيدُ أبينا مار أنطونيوس هذه السنةَ في إطارِ ذكرى مرورِ ألفٍ وستمايةِ سنةٍ على وفاةِ القدّيسِ مارون (410- 2010) شفيعِ طائفتِنا.

إنّها لَمناسبةٌ روحيّةٌ غنيّةٌ بمعانيها وأبعادِها التي تَرُدُّنا إلى ذواتِنا لنتأمّلَ في مَعنى وجودِنا ودعوتِنا الرهبانيّةِ في ضوءِ هاتينِ الشخصيَّتينِ اللتينِ اخترتُهما موضوعاً لتأمُّلِنا هذه السنة.

إنَّ مار مارون الرّاهبَ الناسكَ يُعلِّمُنا كثيراً نحنُ الرهبانَ ويُعطينا دروساً عميقةً في الحياةِ الروحيّةِ بحيثُ نستخلصُ العِبرَ من نُسكِهِ وتجرُّدِهِ وزهدِهِ وتقشّفِهِ وصيامِهِ وعبادتِهِ وعيشِهِ في العراءِ، مُقدِّماً ذاتَه بِحُبٍّ للخاِلق.

لقد كانت حياتُهُ تكرُّساً كامِلاً ورغبةً في عيشِ الكمالِ، وتجرُّداً كلّيّاً من مقتنياتِ العالمِ الزّائلِ، ولطالما افترشَ الأرضَ والتحفَ السماءَ غيرَ مبالٍ بقساوةِ الطبيعة. قضى حياتَهُ مصليّاً، مهتمّاً بخلاصِ الأنفسِ المتعطِّشةِ لكلمةِ المسيحِ، مرشِداً الذين ساروا في دربِهِ وقد تتلمذوا مثلَهُ للسيّدِ المسيح، شافياً المرضى الذين كانوا يَقْصِدونَهُ، مُحَرِّراً الخاطئينَ من أعباءِ خطاياهم.

ذاعََ صيتُهُ، فزحفَتْ إليهِ جموعُ الناسِ للاستماعِ إلى مواعِظِهِ وارشاداتِهِ، حتّى أنَّ صديقَهُ القدّيسَ يوحنّا الذهبيَّ الفم، يكتبُ إليهِ حوالي السنةِ 540 طالِباً منهُ الصلاةَ، الأمرُ الذي يُظْهِرُ عُمْقَ الصداقةِ وحجمَ الثقةِ في ما بينهما.

لقد تشبَّهَ مارونُ في حياتِهِ الروحيَّةِ والنسكيَّةِ إلى حدٍّ بعيدٍ بالمدرسةِ المصريَّةِ، مدرسةِ القدّيس أنطونيوس أبي الرهبان (250-356)، ومِمَّا أخذهُ عنها طريقةُ الصلاةِ والتأمّلِ وقوفاً طوالَ النهارِ وقسماً كبيراً من الليل، كيفَ لا، والقدّيسُ أنطونيوسُ هو مُنشِئُ أوّلِ مدرسةٍ نُسْكيّةٍ ومؤسّسُ الحياةِ الرُّهبانيّةِ وواضعُ قوانينِها مع صديقِهِ باخوميوس في صعيدِ مِصر؟!!

والقدّيسُ أنطونيوسُ هو مثالُنا الثاني وقد تركَ العالمَ وتنسَّكَ وعاشَ زاهِداً مُتقشِّفاً في الصحراءِ، حتّى إنّهُ لُقِّبَ بكوكبِ البريَّةِ ومجدِ الحياةِ الرُّهبانيّةِ.

نشأ هذا القدّيسُ في مدرسةِ الإنجيلِ “إن شئتَ أن تكونَ كامِلاً” (متّى 19/21)، عَرَفَ كيفَ يتخلّى ويترفَّعُ ويتدرَّجُ في الكمالِ. عَرَفَ كيفَ يتنسَّكُ ويبتعدُ عن الناس ليُقرِّبَهُم إلى الله. غادرَ صومَعَتَهُ للمرَّةِ الأولى في العام 311 إبّانَ اضّطهادِ الامبراطورِ مكسيميانوس للمسيحيّين، ليعضُدَ إخوتَهُ ويُشجِّعَ المُقبلينَ منهم على شهادةِ الدَّم. وخرجَ للمرّةِ الثانية في العام 335 إلى الاسكندريّةِ لِيَدحَضَ بِدعةَ آريوسَ بطلبٍ من البطريركِ أتناسيوسَ نفسِهِ.

لقد انتهجَ أنطونيوسُ الطاعةَ لكلمةِ الله، فالحياةُ الرّوحيَّةُ بالنسبةِ إليهِ تقدُّمٌ دائمٌ، وسيرٌ بحريَّةٍ وبطولةٍ، وقلبٌ غيرُ منقسمٍ بينَ متعةِ الرّوحِ ولذّةِ الجسد.

إخوتي الرُّهبان!

في قرائَتِنا لتاريخِ الرهبانيةِ نرى أنها ترتَكِزُ على دعائمَ خَمسٍ: المؤسسين والمرسلين والحبساءِ والشهداءِ والقديسين، جميعُهُم، استمَدوا قوَّتَهم من على أقدامِ الصليب المجيد. صليبِ يسوعَ، ليكونوا أوفياءَ لله حتى بَذلِ ذواتِهم. أنطلقوا من الايمان بدعوتِهِم وتعميقِ حياتِهم الروحيةِ، بالاتصالِ الشخصيِّ المُباشِرِ واليوميِّ بيسوعَ المسيح، حيث وجدوا فيه القوةَ ليتغلبوا على ضَعفِهِم ويتخَطوا كلَّ شدَّة. إذْ، على حدِّ قول الرسول يوحنا: “منِ الذي غلبِ العالمَ إنْ لم يَكُنْ ذاك الذي آمنَ بأنَّ يسوعَ هو ابنُ الله؟” (1يوحنا 5/5).

إزاءَ كلِّ ما تقدَّمَ، يتأكَّدُ لنا من جديدٍ أنَّ في كلٍّ منّا رغبةً في العيشِ معَ الله انطلاقاً من دعوتِهِ إيّانا لنكونَ رهباناً، ونعيشَ رسالتَنا بكلِّ أمانةٍ ومحبّةٍ.   فالإنسانُ في الحقيقةِ والواقعِ خُلِقَ لِما هو عظيمٌ، لِلاّ متناهي.

ولقد كانَ القدّيسُ أغوسطينوس على حقٍّ حينَ قالَ: سيبقى قلبُنا قلِقاً ما لم يرتَحْ فيكَ يا الله.” وإنَّ انفصالَنا عن اللهِ يعني عدمَ ارتوائنا من الينبوعِ الحيِّ، وليسَ خافياً عليكم وعلينا أنَّ عالمَ اليوم باتَ يشدُّنا نوعاً ما بعيداً عن النبع، ويحاولُ أن يُلهِينَا عن عيشِ دعوتِنا كما يحاولُ تبديلَ خطوطٍ ومعالمَ كثيرةٍ في هويّةِ رسالتِنا ومؤسّساتِنا… ولا شكَّ في أنَّ ابتعادَنا عن جوهرِ حياتِنا الروحيّة قد يدفَعُ بنا إلى الخطرِ وربّما إلى فقدانِ معنى دعوتِنا الرُّهبانيّة.

” إنَّ مذهبَ النسبيّةِ السائدَ، الذي يَعْتَبِرُ أنَّ كلَّ الأشياءِ تتساوى قيمةً، وأنَّ لا وجودَ لأيِّ حقيقةٍ أو لأيِّ مرجعٍ مُطلقٍ، مذهبٌ لا يُنشئ الحريّة الحقّة، بل ينشرُ عدمَ الاستقرار، والخيبةَ والانجرارَ وراءَ فوضى العصرِ المتقلِّبة” (رسالةُ البابا بندكتُس السادِس عَشَرَ للشبيبةِ من أجلِ الأيّامِ العالميّةِ في مدريد سنة 2010)

إخوتي الرهبان!

إنَّ كلَّ راهبٍ مريميٍّ هو على مثالِ أنطونيوسَ ومارون، وعلى مثالِ مريمَ العذراءِ يضعُ ثقتَهُ باللهِ الذي نستقي منهُ حياتَنا، والذي من دونِهِ لا حياةَ رهبانيّةَ حقيقيّة. وبكونِهِ دعانا إلى أن نكونَ رهباناً، فإنّهُ حريٌّ بنا أن نتجدَّدَ روحيّاً، آخذينَ المبادَرَةَ خِشيةَ أن نغْرَقَ في مستنقعِ الرّكودِ والموتِ.

نعم، أن نتأسَّسَ في المسيحِ، يعني أن نلبّيَ عمليّاً دعوةَ اللهِ لنا، فنثِقَ بهِ ونعملَ بموجبِ كلمتِهِ، وقد قالَ لنا: “وها ءنذا معكم طوالَ الأيّامِ إلى نهايةِ العالمِ” (متّى 28/20)

ويتأكَّدُ لنا يوماً بعدَ يومٍ أنّهُ أمينٌ لوعدِهِ، ولقد رافقَ رهبانيّتَنا منذ التأسيسِ إلى اليوم، وبفضلِ روحِهِ القدّوسِ جعلَ نفسَهُ حاضراً دوماً على امتدادِ 316 سنةً، وها هو يضيءُ طريقَ الرهبانيَّةِ، ويغمرُها بنعمِهِ، ويمنَحُها القوّةَ لتعيش كلمَتَهُ وتُتمَّ رسالتَها على الرَّغْم من كلَّ الصعوباتِ التي واجَهتها وتواجِهُها.  

اليومَ، أدعوكُم إخوتي إلى طردِ كلِّ شكٍّ من قلوبِكم، فالربُّ ليسَ بعيداً منّا بلْ هو في قلبِ رهبانِيَّتِنا ويريدُها عامرةً بنا وبإيمانِنا وصلواتِنا وأعمالِنا ويريدُ من كلٍّ منّا أن يَعيَ من جديد دعوَتَهُ ودَوْرَهُ.

نستعدُّ منذ الآنَ لانعقاد المجمعِ العامِ العاديِّ الانتخابيِّ الذي سيتِمُّ في تموزَ المقبل لإختيارِ سُلطةٍ جديدة، هو وَقْتٌ للتباحُثِ وإستشرافِ رؤيةٍ جديدةٍ للرهبانية ، هوأيضاً زمنُ صلاةٍ وتأملٍ: ماذا يريدُ الربُّ منّا، وأينَ هي إرادتُهُ، هو أيضاً زَمَنُ عنصرةٍ للرهبانية، لكي نتركَ الروحَ يعمَلُ فينا.

أجلْ، نحنُ مدعوّونَ اليومَ إلى العملِ والانطلاقِ من المسيحِ مُعطينَ الأولويَّة للحياةِ الروحيَّةِ تعمّقاً وتنميةً وعيشاً حقيقيّاً “وحدهُ الرّوحُ يستطيعُ الحفاظَ الدّائمَ على نضارةِ البداياتِ وأصالَتِها، وفي الوقتِ نفسِه، يبثُّ شجاعةَ روحِ الإقدامِ والإبداعِ تجاوباً مع علاماتِ الأزمنة” (مجمع مؤسّسات الحياة المكرّسة وجمعيّاتِ الحياة الرسوليّة. إرشاد “من المسيح ننطلق” عدد 20)

إنّ “الحياةَ الروحيَّةَ يجبُ أن تحتلَّ إذَنْ المَقامَ الأوَّلَ في المشاريعِ التي تَصْنَعُها علاماتُ الحياةِ المكرّسة، بحيثُ تغدو كلُّ المؤسّساتِ وكلُّ الجماعاتِ مدارسَ روحانيَّةً إنجيليّةً صحيحةً (الحياة المكرّسة عدد 93).

إنّ دعوةَ المسيحِ للرسلِ عجيبةُ الإختيارِ، فَلَقَد اختارَهم فقراءَ، غيرَ أنَّهُم وَعَوا عظمةَ النّداءِ، وها هو بطرسُ يقولُ: “يا ربُّ تبَاعَدْ عنّي، إنّي رجُلٌ خَاطئ” (لو 5/8).

ومع ذلكَ فإنَّ عطيَّةَ اللهِ كانت أقوى من العجزِ البشريّ. فحملوا البِشارةَ بقوةِ الروحِ الى العالمِ كلّه.

“يستطيعُ الأشخاصُ المكرّسونَ، بل يجبُ عليهم، الإنطلاقُ من المسيح، لأنّه هو الذي جاءَ أوّلاً إلى لقائهم، وهو الذي يرافِقَهُم على الطريقِ (راجع لو 24/13-22) … فَمِن دونِ المسيحِ لا يستطيعونَ شيئاً (راجع يو 15/5)، وهم يستطيعونَ كلَّ شيء، على العكسِ، في ذاك الذي يقوّيهم (راجع مر 4/13)،(من المسيح ننطلق عدد21).

إخوتي الرهبان!

إنّ الإنطلاقَ من المسيح، يعني العودةَ إلى صوتِ الدّعوةِ الأولى، إلى الحبِّ الأوّلِ، إلى الشرارةِ التي بدأ بها مشوارُ اتّباعِ المسيحِ، وإليه تعودُ أولويّةُ الحبّ.

بتفاعُل هذهِ الشّرارةِ، عاشَ عبدالله قراعلي، وجناديوس موراني، وأنطونيوس طربيه… ولنَسألْ ذواتِنا: أينَ نحنُ اليومَ من صوتِ دعوتِنا الأولى؟ إلى أيِّ مدىً يصِلُ عمقُ حياتَنا الرّوحيَّة؟

وبانتظارِ أن يلقى كُلٌّ منّا الجوابَ من داخِلِهِ، يبقى المهمُّ أن يعرِفَ كلُّ راهبٍ فينا أينَ وضَعَ كَنزَه، وأينَ هو قلبُه؟

ختاماً، فإنّي أضعُ كلَّ الرهبانيّة تحتَ شفاعةِ أمّنا مريمَ العذراءِ سيّدةِ البيت، كما أطلبُ شفاعةَ القدّيسَينِ أنطونيوسَ ومارون لعلّهما يَبْقيان مثالَنا فنهتديَ بهما في عَيْشِ حياةٍ رهبانيّةٍ بروحيّةٍ متنوّرةٍ، متذكّرينَ دائماً وأينما كنّا، أنّه من المسيحِ يجبُ أن ننطلقَ وأن نكونَ شهوداً على حُبِّهِ لنا.

عن موقع زينيت- روما