قيل يُعرف الصديق وقت الضيق، و يسوع فى تعاليمه تعرض لمواقف صعبة في حياته أصعب المواقف التى أظهرت معدن أصدقاءه و تلاميذه هو موقف صلاته فى بستان الزيتون “كان يتصبب عرقاً” وهو في طريقه إلى تنفيذ حكم الإعدام صلباً. و اصطحب معه ثلاثة من تلاميذه المقربين و طلب منهم أن ينتظروه في بستان الزيتون حيث ركع على مقربة منهم يصلى إلى الآب : “يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ” ، نجده هنا منكسراً لقد نام بطرس و يعقوب بدلاً من البكاء و النحيب ، لقد ناما و قلوبهم غلَّفت بالبلادة و عدم الفهم و جاء صوت المعلم المكلوم معاتباً “أَهكَذَا مَا قَدَرْتُمْ أَنْ تَسْهَرُوا مَعِي سَاعَةً وَاحِدَةً؟” .
المسألة لم تنحصر فى يهوذا الذى خانه و إنما فى بقية تلاميذه اللذين كانوا أقرب المقربين إليه إنهم كانوا يعيشون أوهام المجد و قيام الملك لإسرائيل رغم كل الإشارات و التفاسير التى قدمها لهم يسوع عميت عقولهم و قلوبهم عن الخروج من قمقم الأوهام و الخيالات التى تراودهم عن صورة الملك الداودى الذى سيرتقيه معلمهم يوماً ما لقد فقدوا ذاكرتهم و نسوا مشهد التجلى على الجبل ، فلا الصراع مع رؤساء الكهنة و لا مؤشرات القبض على معلمهم و لا حديثه لهم مراراً كثيرة عن موته على يد الأشرار الفريسين شفع له عندهم حتى يشاركوه معاناة الوحدة و عدم الفهم لا بل و الظلم.
ولكن هل عاملهم يسوع بالمثل؟ أبداً لم يتركهم للحظة و حدهم و قبل بصفته إنسان أن يعانى كل الآلام النفسية و الجسدية وحده، ولكن في حوار مستمر مع الآب لم تكن إرادة الآب أن يقتل ابنه إنما كمثل اى أب من بنى البشر عندما يجد ابنه يتألم فى الكلى أو يعانى من السرطان أن يشعر بألم ابنه أو أن يصدر أوامر بشفاءه و لكن يعترف أنه قبول الموت عند البشر هى أكمل وسيلة للتعامل مع نهاية وشيكة لهذه الحياة هو الوسيلة الوحيدة للإعتراف بمحدودية الإنسان و الإعتراف بأبوة الله و مجده.
وهنا نجد مجد الله يتجلى فى صدق حب ابنه للبشر و البشرية و فى قدرته على البلوغ إلى الكمال بالصليب و قد تعلم الطاعة بما لقى من الألم ” هذه الطاعة تعنى قبوله محدودية الجسد الإنسانى و رفضه اللجوء لصفته الإلهية للهروب من ظروف البشر، فلم يكن من الامانة أن ينكر المسيح في أواخر حياته البشرية حقيقة تجسده و إنتمائه لمحدودية البشر و لو أنه لجأ إلى صفته الالهية ليهرب من صفة البشرية لكانت صفعة لمن جاء ليقدس هذا الجسد المحدود و يؤهله للولوج إلى سر القيامة و جلوسه عن يمين الآب.
إن الله “أمين وعادل” و حينما نكون مسكونين بوطئة الألم يغيب عنا أى صوت يدعونا للخروج من هذه المعاناة سواء كانت جسدية أم نفسية أم روحية. إلا أن يسوع فى قلب اللم الجسدى و النفسي و الروحى لم ينسى أن يغفر لمن صلبوه “لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون” هو هو صوت الرب “هَلْ تَنْسَى الْمَرْأَةُ رَضِيعَهَا فَلاَ تَرْحَمَ ابْنَ بَطْنِهَا؟ حَتَّى هؤُلاَءِ يَنْسَيْنَ، وَأَنَا لاَ أَنْسَاكِ” .
إن صدمة يسوع أبدية و مستمرة و لكن هيهات أن نُصغى و حينما لا نستطيع أن نصغي تحت وطأة القهر و الألم فإن حنان الرب وتعاطفه معنا يكون في ذروته، و لا نتعرف عليه و لا نعترف به إلا حينما نخرج من برزخ الألم و الموت ، هنا نقول ” لقد كان الرب معى” و إلا كيف خرجت من براثن و مخالب الموت و القهر.
طوبى لنا إذا اصغينا لصوته و فتحنا أبواب قلبنا و عقلنا سنفرح ثن نفرح و نحتفل بالحياة و نمجد الله مخلصنا و صديقنا الحقيقي .