مواهب الروح القدس السبع: موهبة الحكمة
منحنا السيد المسيح معزّيا ومرشدا ومحييا ليرافقنا في كلّ مجال من مجالات حياتنا المختلفة . إنّها ” نعمة ” مجانيّة ، ولكنّها تصبح غير فعّالة عندما لا نقبلها ولا نستغلّها فتُؤخذُ الحكمةُ منّا وتُعطى لغيرنا ، لأننا لا نُحسن التعامل مع “النعمة – الموهبة”.
موهبة الحكمة ، في الكتاب المقدس ، هي من المواهب التي تتميز بها الشيخوخة ، بَيدَ أنّ الحكمة ليست مزيّة تلقائيّة من مزايا السن ، بل هي هبة من الله على المسنّ أن يتقبّلها و يتوخّاها ، ليصل إلى حكمة القلب التي تمكّنه من أن يُعِدّ أيامه ، أي من أن يعيش بطريقة واعية الزمن الذي وهبَتْه العنايةُ الإلهية لكل منّا . النقطة الأساس في هذه الحكمة هي اكتشاف الحياة البشرية في معناها الأعمق واكتشاف الإنسان في مصيره السامي ، فإذا كان هذا على جانب من الأهمية بالنظر إلى الشاب ، فهو أكثر أهمية بالنسبة إلى المسنّ الذي يجب أن يوجّه حياته بحيث لا يغيب عن ذهنه “الشيء الضروري الوحيد” – “النصيب الأفضل” (لو 10/42)،والذي لن ينزعه أحد منّا .
يقول البابا فرنسيس في كلامه عن ” المواهب السبع : ” يخبرنا الكتاب المقدس أنه عند تتويج سليمان ملكًا على إسرائيل ، سأل الله أن يمنحه نعمة الحكمة . إنها نعمة القدرة على رؤية كل شيء بعيني الله . إنها ببساطة رؤية العالم والحالات والمشاكل وكل شيء بعيني الله . وهذه هي الحكمة . أحيانًا نرى الأشياء كما نريد وبحسب الحالة التي يعيشها قلبنا: بحب أو كراهية ، بحسد … وإنما هذا ليس من خلال عيني الله . لأن الحكمة هي عمل الروح القدس فينا لنرى كلّ شيء بعيني الله ! ” . تأتي هذه العطية من العلاقة الحميمة مع الله، من علاقة الأبناء مع الآب. وعندما تقوم هذه العلاقة يمنحنا عندها الروح القدس موهبة الحكمة. عندما نكون في شركة مع الرب يتجلّى الروح القدس في قلبنا ويجعله يشعر بدفئه ومحبته. إن الروح القدس يجعل المسيحيّ “حكيمًا”. ولكن ليس بمعنى أن لديه جوابًا لكل شيء ويعرف كل شيء وإنما بمعنى أنه “يعرف” الله، يعرف كيف يتصرّف الله ويعرف أن يميّز ما هو من الله، والحكمة التي يمنحها الله لقلوبنا. وبهذا المعنى يمكن القول أن الإنسان الحكيم يحمل في قلبه نكهة الله. كم تحتاج جماعاتنا لمسيحيين بهذا الشكل! كل شيء فيهم يتحدث عن الله ويصبح علامة جميلة وحية لحضوره ومحبته. وهذا أمر لا يمكننا ارتجاله أو منحه لأنفسنا: إنه عطية يمنحها الله للذين يطيعون الروح القدس.
إنّ ما تلهمنا إيّاه موهبة الحكمة ، ليس سوى حركة ٍ من الروح القدس ينقلُ بها إلينا ، عن طريق القلب ، شبه إختبار ٍ لمعاينـة الله وجها لوجه في السماء . نحن نبقى في دائرة الإيمـــان ، لأنّ الإيمان هو الذي يحدد لنا موضوع حبّنا . موهبة الحكمة ، هي أن يكون الله هو أيضا ، أساسَ كياننا ، وله الأولويّة في حياتنا ، وأن يكونَ ، دائمًا ، أمامنا في كلّ شيء .
في التأمّل الدائم والصلاة وحركة الكيان الكليّ للإلتفات إلى الله ، نغوص في كيان الله فتغيبُ التصوّرات والخيالات والأوهام والغشاوة من أعيننا ، ونلقي عنّا ، كلّ الأوزان الثقيلة التي نحملها ، فيكون الله هو عيارُ الكائن ووزنه وكثافته .
يقول الأب غردي الدومنيكيّ : ” لا بدّ لعقلنا أن يتمزّق داخليّا ، وأن يتسع بحيث يتمدّد بإفراط ليكون على إتصال باللانهائيّ من حيث هو غير محدود . فلكي يبلغ العقل هذا الحدّ يمرّ بحالة رهيبة هائلة يسمّيها أهل النجوى الصوفيّة ” الظلام الكبير ” ، أو ” الظلمة الكبرى ” . حينئذ ، نفقد كلّ ما كان نورًا لبصيرتنا ، ويلزمنا أن نتخلّى عن أساليب العقل الطبيعيّة ، حتى عن الجلاء والوضوح ، ويجب أن نلاشي فعل العقل الذي يُسرّ بما يرى .