ها هو يُناديك – بقلم الأب نادر ميشيل اليسوعيّ
القراءات الكتابيّة
* إرميا 31: 7-9.
فإنَّه هكذا قالَ الرَّبّ: رنموا لِيَعْقوبَ بِفَرَح، واصهلوا لِرَأسِ الأُمَم. أَسمِعوا وسَبِّحوا وقولوا: «خَلِّصْ، أَيُّها الرَّبُّ شَعبَكَ، بَقِيَّةَ يعقوب.» هاءَنَذا أُعيدُهم مِن أَرضِ الشَّمال وأَجعُهم مِن أَطْرافِ الأَرض وفيهمِ الأَعْمى والأَعرَج الحُبْلى والوالِدَةُ جَميعًا. جَمعٌ عَظيمٌ يَرجِعُ إِلى هُنا. يَأتون باكينَ وأَهْديهم مُتَضَرِّعين وأُسَيِّرُهم إِلى مَجاري المِياه في طَريقٍ مُستَقيمٍ حَيثُ لا يَعثُرون لِأَنِّي أَبٌ لِإِسْرائيلَ وأَفرائيمُ بكرٌ لي.
* العبرانيين 5: 1-6.
إِنَّ كُلَّ حَبرٍ يُؤخَذُ مِن بَينِ النَّاس ويُقامُ مِن أَجلِ النَّاس في صِلَتِهم بِاللّه، لِيُقَرِّبَ قَرابينَ وذَبائِحَ كَفَّارَةً لِلخَطايا. وبِوُسعِه أَن يُشْفِقَ على الجُهَّالِ الضَّالِّين لأَنَّه هو نَفْسُه مُتَسَربِلٌ بِالضُّعْف، فعَلَيه مِن أَجْلِ ذلِك الضُّعْفِ أَن يُقَرِّبَ كَفَّارَةً لِخَطاياه كَما يُقَرِّبُ كَفَّارةً لِخَطايا الشَّعْب. وما مِن أَحَدٍ يَتَوَلَّى بِنَفْسِه هذا المَقام، بل مَن دَعاهُ اللهُ كَما دَعا هارون. وكَذلِك المسيحُ لم يَنتَحِلِ المَجْدَ فيَجعَلَ نَفْسَه حَبرًا، بل تَلَقَّى هذا المَجْدَ مِنَ الَّذي قالَ لَه: «أَنتَ ابنِي وأَنا اليَومَ وَلدتُكَ». وقالَ لَه في مَكانٍ آخَر: «أَنتَ كاهِنٌ لِلأبَدِ على رُتْبَةِ مَلكيصادَق».
* مرقس 10: 46-52.
في ذلِكَ الزَّمان: وبَينَما يَسوعُ خارِجٌ مِن أَريحا، ومعَهُ تلاميذُهُ وجَمْعٌ كثير، كانَ ابنُ طيماوُس (وهو بَرطيماوُس) الأَعْمى جالِسًا على جانِبِ الطَّريق يَستَعطي. فلمَّا سَمِعَ بِأَنَّهُ يسوعُ النَّاصِريّ، أَخذَ يَصيح: «رُحْماكَ، يا ابنَ داود، يا يَسوع!» فَانَتهَرَه أُناسٌ كثيرونَ لِيَسكُت، فَصاحَ أَشَدَّ الصِّياح: «رُحْماكَ، يا ابنَ داود!». فوَقفَ يسوعُ وقال: «اُدْعوهُ». فدَعَوا الأَعمى قالوا له: «تَشَدَّدْ وقُم فإِنَّه يَدْعوك». فَأَلقى عنهُ رِداءَه ووَثَبَ وجاءَ إِلى يسوع. فقالَ له يسوع: «ماذا تُريدُ أَن أَصنَعَ لكَ؟» قال له الأَعمى: «رابُوني، أَن أُبصِر». فقالَ له يسوع: «اِذهَبْ! إِيمانُكَ خلَّصَكَ». فأَبصَرَ مِن وَقتِه وتَبِعَه في الطَّريق.
العظة
ارحمني ! صرخة برتيماوس، الشحاذ الأعمى الجالس على جانب الطريق خارج أريحا. لم يفقد برتيماوس الأمل في غدٍ يسطع فيه النور، ولم تمت في داخله رغبة الحياة والتصالح مع مجتمعه والدخول في معترك الواقع اليوميّ. مؤلم للغاية هو العمى والانفصال عن عالم البشر، وما يتبعه من الاحتياج المستمر إلى شخص آخر للتواصل مع الناس ومتابعة أمورهم. العمى هو نوع من الموت، ونحن وسائر البشر نعيش نوعًا من العمى. العيون منفتحة والحمد لله، ولكنّ القلب لا يرى أشخاصًا بعينهم لكونهم مختلفون في الدين أو المستوى الاجتماعيّ والثقافيّ، أو لأنّهم ينتمون لتيار فكريّ أو سياسيّ مغاير لما نتبعه نحن، والقلب لا يسمع نداءات أناس من حوله لأنّها تضيع وسط هموم الحياة الدُنيا ومشاغلها وملذاتها. ونحن نعرف العمى أيضًا تجاه الذات، فنجهل أو نتجاهل حضور الله بداخلنا، ونكبت روح المحبّة والمصالحة والتسامح ونطلق العنان لمشاعر المقارنة والحسد، ومن ثمّ الغضب والحزن، وهكذا ننزلق في طريق الانغلاق والأنانيّة.
تعددت مظاهر العمى والألم واحد، هو ألم انحسار الحياة والشعور بالاختناق، بلا رجاء. وللخروج من العمى طريقان، إمّا طلب النجدة، وأمّا التعايش والعمى. يعني طلب النجدة الوعي بأنّ العمى ينقص الحياة ويهدّدها، والإنسان الحيّ هو الإنسان الذي يرى ما بداخله وينظر إلى الناس في واقعهم بقبول وامتنان، لأنّه يكتشف حضور الله فيه وفي الآخرين، فلا يرضى بالعمي ويطلب الخلاص من يسوع، من يستطيع أن يعيد إليه البصر. وقد كان برتيماوس أحد هؤلاء الأشخاص الذين لم يتواطؤوا والعمى، وكان يصرخ إلى الله القادر أن يخلصه، ووجد في شخص يسوع بن داوود الإنسان الممتلئ بالشفقة والرحمة القادر على أن يسمع صرخة ألمه وأن يقوده إلى الحياة مجدّدًا.
كان برتيماوس أعمى ولكنّ قلبه كان حيًّا وحرًّا، ورغبته في الحياة قويّة وعميقة، أشدّ من اليأس والاستكانة، أعلى من رفض الناس لنداءاته الموجهة ليسوع، مفعمة بالإيمان والثقة بيسوع بالرغم من كلّ شيء. ليس العمى هو العقبة الكبرى في طريق الحياة، بل التعايش والموت لدرجة مجاراة الناس الذين يقدّسون الأمر الواقع ويكرهون صرخات من يطلبون الشفاء والحياة والحرّيّة. ثبت برتيماوس نظره إلى يسوع وتشبث به، فلم يخذله يسوع، بل واجه تيار الناس المتخاذلين وأوقفهم ليقابل برتيماوس وجهًا لوجه، ويسأله عن رغبة قلبه وإرادته العميقة، فيجيب الأعمى : أن أبصر. ورد يسوع حازم، مباشر، قويّ وفعال : اذهب، إيمانك شفاك. الإيمان هو الشافي، ويسوع هو الوسيط بين الذات والحياة، بين القلب والنور، هو خادم الإنسان الذي يعيده إلى عمق ذاته فيجد الإيمان بالله أبيه من يعطيه الحياة ويجددها فيه وبداخله.
التعايش والعمى أسهل بكثير من طلب الشفاء، أكل الفتات التي يلقيها الناس للشحاذ أيسر من العمل والجد والاجتهاد طلبًا للعيش الكريم، البكم والاستكانة والاستسلام أبسط من الصراخ والمناداة بالنور والكرامة والحرّيّة. تمرد برتيماوس على أسر العمى، حالمًا بالحرّيّة، مؤمنًا بأنّ يسوع يسمع صلاته “ارحمني”، وبالفعل تتحرك أحشاء يسوع بالشفقة وينادي الأعمى، وها هم الأشخاص أنفسهم الذين كانوا للتو يدعونه للصمت، يخرجون من عماهم وقساوة قلبهم، ويشجعون الأعمى: تشجّع، قم، ويسيرون وراءه وهو يجري نحو يسوع. صرخة إنسان واحد أيقظت جموعًا كانت تسير بلا هدى، لا تسمع لقبلها ولا تعرف رغبة قلبها، ولكنّ في هذا اللقاء العجيب بين يسوع وبرتيماوس، بفضل إيمان الشحاذ الأعمى الملقى خارج المدينة على جانب الطريق، يرى كثيرون النور.
ارحمني، تشجّع، قم، ها هو يناديك، طريق برتيماوس الأعمى نحو الحياة، والحياة هي في السير مع يسوع على الطريق، فهو النور الحقيقيّ الذي يضيء في ليل البشر ويقود أناس كثيرين للنور بفضل إيمان شخص واحد جرؤ على أن يؤمن به وأن يصرخ إليه.
بقلم الأب نادر ميشيل اليسوعيّ
يسوعيون