أبواب مختارة من موسوعة المؤتمن -تحقيق الأخ وديع الفرنسيسكاني
أبواب مختارة من موسوعة المؤتمن – الباب السابع والأربعون – تحقيق الأخ وديع الفرنسيسكاني
في وجوب إكرام الصليب وتعظيمه وتقبيله، ورسم مثاله على الأعضاء البدنية، وذكر الآيات التي ظهرت بواسطته
3- لمّا كان السبب الآليّ أحد الأسباب الأربعة، التي تتمّ بها الأمور: كالقلم بالنسبة إلى الكاتب، وكالسيف والرمح بالنسبة إلى الطعن والضرب؛ مثلما لو ضرب عدوّ عدوًّا له بسيف، ليقتله، فوقاه درع كان عليه، ومنعه أن يؤثّر السيف فيه، أليس كان يحتفظ بالدرع ويدخره، ويتذكّر كلّ وقت فضيلته، ويذكرها لمن يجتمع به من أصحابه، ويكن عزيزاً عليه؟
4- وكذلك لو صادف عدوّ عدواً له راكباً على فرس، فتبعه وساق خلفه، ليلحقه ويقتله، فسبقه فرس الهارب، ونجّاه من عدوّه، أليس كان يخيّر الفرس على جميع خيله ومراكبه، ويعدّه من أنفس ذخائره، وأشرفها وأجلّها، ويزيد في عليقه وخدمته، ويتبارك بناصيته ويقبلها؟
5- هكذا لمّا كانت خشبة الصلب آلة صُلب عليها السيّد المسيح بإرادته، وأداة بواسطتها تمّ الخلاص لنا، وعافى الرسل وأتباعهم عالماً كثيراً، من الأمراض المزمنة والمحدثة، بتشكيله على أعضائهم، بقوّة المصلوب، على مثاله، وببركات الكهنة على الشعب، بتشكيل مثاله على أيديهم عليهم، في الهواء.
6- والقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم قال، في الموعظتين الرابعة والخمسين والسابعة والثمانين، من شرح إنجيل متّى: فلنختم صدورنا برسم الصليب متذكّرين ما جرى في وقته، لكي نبرّد حرارة القلب الغضبيّة ونسكّن حركتها.
7- وقال: إنّ الصليب بداية حياتنا، وسبب نجاتنا، وإكليل فخرنا، وراية ظفرنا، وعلامة خلاصنا؛ فلذلك نرسم مثاله على جباهنا ومستقرّ أفكارنا، ونصوره في منازلنا على الحيطان والطاقات؛ وعلامته، في عهد أسلافنا وفي عهدنا، فتحت أبواب مغلقة، وأطفأت نيران عقاقير قتّالة، وشفت من نهش الهوام المسمومة.
8- ونحن نقول: فلا تعجبنّ، أيّها المتشكّك، من ذلك، فإنّ القدرة التي جُعلت في الحيّة النحاس التي، لمّا استوت الحيّات على بني إسرائيل في البريّة، علّقه لهم موسى النبيّ (عليه السلام) بأمر الله (تعالى)، فكان كلّ ملسوع بحيّة يتطلع إلى الحيّة النحاس، وهي معلّقة، وحال رؤيته لها، للوقت يتخلّص ويشفى، ولا يؤثّر فيه السمّ، على ما شهدت به التوراة المقدسة؛
9- فتيك القدرة الإلهيّة الفاعلة ما فعلت بواسطة التطلّع إلى الحيّة النحاس، والنظر إليها، هي التي تفعل ما قاله الذهبيّ الفم، بواسطة إمثال الصليب، الذي صُلب عليه الجسد المسيحيّ.
10- وقد علمت، أيّها المؤمن، أنّ إيمان قسطنطين الملك، إنّما كان بأنّ الله (تعالى) أراه في السماء، وقيل: في المنام، مثال الصليب، وسمع صوتًا من السماء يقول: احمل هذا المثال، تغلب أعداءك، وكان كذلك، فانتقل من الكفر إلى الإيمان، وإلى معرفته بالله (تعالى). وشيّد الله به الدين، وأقام أركانه، وثبّت بمملكته عمده، وأعزّ بسلطته الشعب المسيحيّ، وكثروا في أيّامه، ونموا جداً، إلى أن اتّسعت ممالكهم، وامتلأت الأرض بهم.
11- ولمّا ملك بعده قسطنطين، ولده، ظهر على المقبرة، في أيّامه، في أورشليم، في الساعة الثالثة من عيد يوم العنصرة، صليب عظيم من نور، ولم يظهر لواحد، ولا لاثنين، بل لكلّ أهل المدينة، جهراً، ورآه الناس بأعينهم، ثلاث ساعات؛ حتّى أنّ شعاعه غلب على شعاع الشمس وحجبها؛ وتنصّر عند رؤية هذه الأعجوبة ألوف كثيرة، وصاروا مسيحيين. وهذا تواتره صحيح.
12- ومن حصر صفات هذا المثال الشريف أنّ اليهود لمّا جعلوا خشبته، المتشرّفة بتعليق الجسد المسيحيّ عليها، تحت كوم الجلجلة المرتفعة، وأخفوها، وكشفتها الستّ هيلانة، والدة قسطنطين، الملك المذكور، بنثار الدنانير على الكوم المذكور، إلى أن وجدت الخشبة، مع الخشبتين اللتين صُلب اللصّان، مع السيّد، عليهما.
13- فلم تعلم أيّهنّ الخشبة المخصوصة به، فاستدعت هيلانة جسد ميّت، وأمرت بوضع الخشبات الثلاث عليه، فوضع خشبتا اللصّين عليه، فلم يتحرّك الميّت، ولم يقم، ووضع خشبة السيّد عليه، فللوقت قام حيّا ممجّدًا للسيّد المسيح (له المجد) وهذا تجده مسطوراً في التواريخ.
14- ومما يصدق هذا النقل، ويحقّق آيته ومعجزاته، ما تضمّنه تاريخ السامرة، المسمّى سفر يوشع وكتاب البيان، وهو المعروف بسفر الجلوات، وتدوينهم هذه الآية فيه آية ثانية، لأنّ هذه وأمثالهم مرادهم أن يخفوها، ولو ادّعينا عليهم بها لجحدوها. وإنّما قدرة الله أرشدتهم إلى إيرادهم في كتابهم؛ ليكون اعترافهم بها آية ثابتة لنا، وفيه من شطح النصارى وأنبياء بني إسرائيل ما يكافئهم الله عليه.
15- قالوا: إنّ في أيّام قسطنطين الملك وُجدت خشبة المسيح، التي صُلب عليها. وكان لمّا قُتل، صُلب بين اثنين قاتولين، ودُفن ببيت المقدس، وكان هناك حاضراً حكيم منجّم حاذق، يهودي، ودفن الخشبة في حاكورة، وقال لمقدّمي اليهود: يجيء وقت تُطلَب منكم، فإن لم توجَد تهلكوا.
16- وقد دفنت هذه الخشبات الثلاث، متى طلبوا منكم، احضروا، تصيبوهنّ، وأنا أعرفكم معجزاً، تقولوا: هذه إذا قُدّمت لميّت قام، قولوا هذه خشبة يوشوا، أي يشوع وأنتم تتخلّصوا. وكذلك فعلوا وقالوا. هذا نصّ ما تضمّنه كتاب السامرة المشار إليه. والفضل ما شهدت به الأعداء.
17- وإذا كانت هذه الآيات والكرامات قد جعلها الله فيه، وأظهرها بواسطته، وشهد بصحّتها المؤمنون والأعداء المباينون، وكان سبباً أدويّاً لظهور هذه الآيات، والتيمّن به؛ وجب تعظيمه وتكريمه وتقبيله، ورسم مثاله في لحوم أيدينا، وتصوير أمثلته لتذكار آياته ومنافعه، وعظمة مَن صُلب عليه بإرادته (تبارك وتعالى). وكان صلبه سبباً لخلاصنا من الخطيئة ومن الموت النفسانيّ، ولمنافع كثيرة حصلت به إلينا، وعادت علينا، واتّصلت بنا، وأضرار كثيرة ارتفعت عنّا.
18- وتضمن كتاب السنكسار المشتمل على أعياد الشهداء والقدّيسين، ومن تضمّن ذكره ممّن استحقّ أن يُعيِّد له، قال في السابع عشر من توت: إنّه لمّا كان المعجز يظهر من المقبرة المقدّسة، بالقدس الشريف، من إقامة الأموات، وإبراء المقعدين، نادى اليهود، في القدس الشريف وجميع اليهوديّة، بأنّ كلّ مَن كنس داره، أو كان عنده تراب، لا يرميه إلاّ في المكان الذي دُفنت فيه الخشبة.
19- واستمرّ الحال على ذلك، ما يزيد على مائتين سنة، فصار كوماً عظيماً، حتّى أظهرته هيلانة، أم قسطنطين، على ما تقدّم ذكره، في العاشر من برمهات، وبنت له كنيسة، وكُرِزت في السابع عشر من الشهر المذكور، وهو يوم ظهور رأس المقبرة. وصار الشعب يحجّون إلى الكنيسة المذكورة، مثل عيد الفصح.
20- فاتّفق بأن إنساناً، يقال له إسحاق السامريّ، كان هو وجماعة يمشون مع الشعب، في الطريق، وكان يبكّتهم على تعبهم وعنائهم، وحجّهم ليّسجدوا لخشبة. وكان فيهم قسّ قدّيس يُسمّى اوخيدس، فلمّا مشوا في الطريق عطشوا، ولم يجدوا ماء سوى ماء منتّن مرّ، في جبّ، فضاق الشعب جداً. وبدأ إسحاق السامريّ يستهزئ بهم، فغار القسّ المذكور غيرة إلهيّة، وجادل السامريّ فقال له: إن عاينت قوّة باسم الصليب آمنت بالمسيح؟ فصلّى القسّ على الماء المنتّن، فصار حلواً، وشرب منه جميع الشعب ودوابهم.
21- فأمّا إسحاق السامريّ فإنّ الماء الذي اتّخذه في أوعيته، دوّد؛ فبكى، وأتى إلى القسّ، وخرّ عند قدميه، وآمن بالسيّد (له المجد)، وشرب من الماء، وصار الماء حلوا لكلّ مَن يشرب منه، من المؤمنين، ومراً لمن يشرب منه من غيرهم. وظهر في الماء صليب نور، وبنوا على جبّ الماء كنيسة. ولمّا مضى إسحاق إلى القدس، توجّه إلى أسقفه، فعمّده هو وأهل بيته كلّهم، وصاروا مؤمنين.
22- فأما أنّهم لم يعيّدوا للصليب يوم ظهوره، فإنّه كان في الصوم المقدّس، فجعلوا عيده يوم تكريز الكنيسة، في السابع عشر من توت، وهو يوم ظهرت رأس المقبرة.
23- وفي اليوم تنيّحت القدّيسة ثاوغنسطا، أيام انوريوس وارغاديوس الملكين البارّين. وكان في بعض الأيام، قد وصل إليهما رسول ملك الهند بهدية، فصادفوا هذه القدّيسة المذكورة، وفي يدها كتاب تقرأ فيه، فاختطفوها ومضوا بها إلى بلادهم، وصارت رئيسة عيال الملك ونسوانه. فاتّفق أن مرض ابن الملك، فجعلته في حضنها، وصلّبت عليه بعلامة الصليب، فعوفي، فشاع خبرها في تلك البلاد.
24- ومضى الملك إلى الحرب، فقام عليه قتام وضباب، فصلّب على الريح بعلامة الصليب، كما كان رآها تصلّب، فصار صحواً، وبعلامة الصليب قهر أعداءه. فلمّا عاد من الحرب منصوراً، سأل القديسة المذكورة أن تعمده هو وكلّ مَن في كورته، فعرّفتهم أنّه ليس لها سلطان أن تعمّدهم، فأرسل واستدعى قسّاً حبيساً من عند انوريوس الملك، فعمّدهم، وناولهم القربان.
25- وفرحت بهم القدّيسة العذراء المذكورة، وبنت لها ديراً، وجعلت عندها فيه عذارى. ولمّا عاد الحبيس إلى الملك، وعرّفه بإيمانهم، فرح، وجعله أسقفاً، وردّه إليهم، فابتهجت به نفوسهم؛ وتتمته.
26- وتجد في أخبار القدّيسين وأكابر الرهبان عجائب كثيرة، ظهرت بواسطة الصليب.