أقمع جسدي وأستعبده – الأب وليم سيدهم
إن كلمة القمع سيئة السُمعة. فحينما نسمعها نلتفت مباشرة إلى ما نعانيه من قمع للحريات والمشاعر والإحساس بالإختناق، والقمع مقصود به المنع والتحريم والتجريم لكل فعل يصدر من الإنسان ليعبّر فيه عن عدم إمتنانه للإدارات الدكتاتورية السياسية التي تقمع إرادته وحريته وقدرته على التعبير عن آراءه وأفكاره حتى لو أختلف معه الآخرون.
ولكن القديس بولس يتحدث هنا عن قمع من نوع آخر؛ قمع يكون فيه الإنسان سيّد نفسه وجسده. لقد تحدثنا عن خمس حواس تفتح الجسد على العالم الخارجي كاللمس والشم والبصر والسمع والتذوق وحذرنا من ترك هذه الحواس على طبيعتها لأنها عمياء دون تحكم العقل فيها و تنظيم حركتها.
بالإضافة إلى ذلك نجد الغرائز الأخرى الساكنة فينا مثل غريزة الجنس والجوع والعطش وغريزة حب الذات والبحث عن السلطة والبحث عن الأمان.
أقمع جسدى بمعنى أن أسيطر عليه كما يسيطر الخيّال على حركة حصانه بواسطة اللجام. ولأن غرائز الإنسان ورغباته قد تقوده إلى ما لا يحمد عقباه في علاقته مع أنداده من البشر لأن لديهم نفس مطالب الجسد وغرائزه فإن القديس بولس يدعونا لنعامل جسدنا بقدر من العقلانية ومن التنظيم، لقد تحمل بولس الرسول الجوع والعطش وخطر الموت غرقًا أو قتلًا طُرد من مسكنه وحيكت ضده الدسائس ولم يتراجع في تأدية رسالته الخلاصية نحو الأمم واليهود.
إن كلمة “إستعباد” يجب أن تؤخذ على محمل السيطرة على رغباته الجامحة وتدريبه على قوة إحتمال العطش والجوع وغيرها من الإحتياجات الأساسية للإنسان. إن الصيام هو أحد الوسائل لترويض الجسد على إحتمال الجوع والعطش في سبيل أن يكون الرسول متحكماً في مثل هذه الإحتياجات.
يقول الكتاب : “فإذا أكلتم أو شربتم أو مهما فعلتم فإفعلوا كل شيء لمجد الله” (1كو 10 : 31)، وبالتالي فليس المطلوب من المؤمن هو الإمتناع عن إشباع غرائزه وإحتياجاته الأساسية، إنما المطلوب تنظيمها و ضبطها ولو نظرنا حولنا لوجدنا كثير من الناس يسرفون في المأكل والمشرب ويسرفون في تزيين مساكنهم ويبالغون في إستخدام قوتهم مما يترتب عليه كثير من الخلل الجسماني أو النفسيجسماني.
أقمع جسدي وأستعبده لأن الإنسان يختلف عن الحيوان في القدرة على تنظيم الحصول على إحتياجاته الأساسية بصورة تليق بإنسان عاقل خلقه الله على صورته ومثاله وأعطاه حُريّة ولكى يبرمج نفسه بنفسه على عكس الحيوان الذي برمجه الخالق بشكل يحافظ فيه على إحتياجاته الأساسية.
إن القمع يحتاج لتدريب على الصبر وقوة الإحتمال لنمارس حياتنا الإيمانية بسلام وإطمئنان وليس المطلوب منّا تعذيب أنفسنا ولكن تدريب أنفسنا على عدم المبالغة في سدّ إحتياجاتنا الجسدية والنفسية فعدم ضبط النفس يؤدى إلى الحروب وممارسة العنف. لذلك يقول الرسول : “من أين تأتي المخاصمات والمعارك بينكم؟ أما تأتي من أهوائكم التى تعترك في أعضائكم” (يعقوب 4 : 1)، إنها تأتى من إنفلات غرائزنا وعدم تدريبها على الإكتفاء والرضى خاصة وقت أن تندُر الإمكانيات التي نحتاجها لسدّ مطالبنا الجسدية و النفسية.