أمثال إنجيل القديس متى- شرح مثل الزوؤان (مت 13: 36-43)- د. الأب / كميل وليم
نتناول في هذا العدد شرح مثل الزوؤان وباقي أمثال الفصل الثالث عشر وهي مثلا الكنز واللؤلؤة (مت44:13-46) ومثل أو تشبيه الشبكة (مت47:13-5).
يلي مثل الزوؤان، كما كان الأمر مع مثل الزارع، تفسير له (مت36:13-43). هناك اختلافات عديدة بين المثل وبين تفسيره. تطال هذه الاختلافات كل الجوانب: فهي تطال المعنيين بالمثل، والإطار العام، والنوع الأدبي، والموضوع الأساسي. لقد وجّه المعلم المثل إلى الجماهير، ولكنه يوجّه شرحه إلى التلاميذ وحدهم، إطار المثل أو المكان الذي قيل فيه هو شاطئ البحر (مت 1:13)، أمّا التفسير فيتم في البيت (مت 36:13).
لقد حوّل التفسير المثل إلى تشبيه، يجد فيه كل شخص وكل جانب وكل عنصر ما يقابله ويشبهه: فالزارع هو ابن الإنسان (مت 37:13)، والحقل هو العالم (مت 38:13أ)، والزرع الجيد هم أبناء الملكوت (مت 38:13ب)، والزوؤان هم بنو الشرير (مت 38:13ج)، والعدو هو الشيطان (مت 39:13أ)، والحصاد هو نهاية الأزمنة (مت39:13ب)، والحصادون هم الملائكة (مت 39:13ج). أمّا أهم ما تغيّر في المثل فهو مركزه: لم يعد الأمر الأساسي هو منطق الله الذي يقود إلى الملكوت، بل الدينونة في اليوم الأخير. لقد اختفى، في تفسير المثل، كل أثر لأسئلة العبيد ورد سيدهم. كان المثل ذا هدف لاهوتي، أما هدف تفسير المثل فهو أخلاقي. لقد تحوّلت جدَّة التعليم إلى تحذير جليّ وواضح: عدم استغلال صبر الله تعالى.
إن المسألة التي تشغل المكانة الأولى، في تفسير المثل، هي مصير الأشرار النهائي، وليست مسألة تواجد وتعايش الصديقين والأشرار معاً في الجماعة. يدل هذا التحوّل، في التفسير، على محاولة عقلنة الأمور وجعلها تسير بطريقة منطقية. لا يسلب هذا التغيير أهمية التفسير الكبيرة، إذ أنه يذكّر المسيحيين أنه ليس أمراً مفروغاً منه أن يكونوا زرعاً جيداً. حذار، فقد يكونون زوؤاناً.
ربما يرجع سبب هذا التحوّل في طريقة تفسير مثل الزوؤان إلى تغيّر وضع جماعة المؤمنين التاريخي والرعوي. لقد خبا الحماس الأول عبر الزمن ، وأحدق بالجماعة خطر الإحساس باللامبالاة تجاه خطايا وانحرافات أعضائها: لم تعد هذه الخطايا تثير الاستغراب أو تسبب الشكوك. لقد اعتادت عليها الجماعة وتأقلمت.
لم يعد هناك خطر التشدّد والصرامة بل التسيب واختلاط الأمور. لذلك لا يركّز إنجيل القديس متى، في تفسير مثل الزوؤان، على صبر الله، بل يحذّر من استغلال هذا الصبر والتمادي في الأخطاء والانحرافات. التسامح هو فضيلة يتحلى بها الله تعالى، ولكن ليس هذا التسامح هو نتيجة لا مبالاة. فتسامح الله وغفرانه ناتجان عن حبه؛ عن عدله الواضح والمحدد.
مثلا الكنز واللؤلؤة (مت 44:13-46)
إننا أمام مثلين- مثلا الكنز واللؤلؤة- توأم، مرتبطين معاً. التكرار هو وسيلة من وسائل الرواية الهامة والمفيّدة: إنه يسمح، من جهة، بالتأكيد والتشديد على الأمور الأساسية، ومن جهة أخرى يسمح بتنويع العناصر التي تساهم في تحديد وإبراز الموضوع الرئيسي والتعليم الأساسي. لقد أحسن الإنجيلي بضمه هذين المثلين القصيرين إلى تعليم يسوع الموجّه للتلاميذ، وليس للجموع “ثم ترك الجموع ورجع إلى البيت، فدنا منه تلاميذه وقالوا له فسّر لنا مثل زوؤان الحقل” (مت36:13). وبعد أن فسّر يسوع لهم المثل، واصل تعليمه بهذين المثلين. أمّا سبب ذلك فهو أن التلميذ معرّض، أكثر من غيره من العامة، لخطر عدم تقدير النعمة التي نالها.
تشير إلى التعليم الأساسي مجموعة من الأفعال العادية جداً “وجد.. عاد.. باع.. اشترى”. وترد هذه الأفعال في اللغة الأصلية، أي اليونانية، في المثل الأول في الزمن الحاضر، وفي المثل الثاني في الزمن الماضي. ربما يكون سبب الانتقال من الحاضر إلى الماضي رغبة الكاتب في التنويع. كذلك يذكر المثل الأول فرح من وجد الكنز “لشدة فرحه” وهو أمر هام لا يذكره المثل الثاني، وربما يكون تفسير ذلك مثل الأمر السابق (الحاضر والماضي).
إننا أمام مشهدين مختلفين: يبرز المثل الأول أجيراً زراعياً، يعمل باليوم في حقل لا يملكه، والمثل الثاني تاجراً غنياً، يمتلك العديد من محلات التجارة، كما تشير إلى ذلك الكلمة اليونانية “أموروس”. يبدو، لأول وهلة وبنظرة سطحية، أن الأجير في الزراعة والتاجر هما بطلا المثلين، إذ أنهما فاعلا كل الأفعال التي ترد في المثلين: وجد، أعاد، دفن، مضى، باع، اشترى (المثل الأول)؛ كان يطلب، وجد، باع، يملك، اشترى (المثل الثاني).
ولكن التعمّق في المثلين يكشف أن البطل الحقيقي للمثلين هو الكنز، في المثل الأول، واللؤلؤة، في المثل الثاني، إذ يسيطران تماماً على الرجلين. تحرك سيطرة الكنز واللؤلؤة كل أفعال وتصرفات الرجلين. ويحدث هذا الأمر ويتكرر في خبرة اللقاء بالخبر السار. يثير تصرّف الرجلين، أمام اكتشافهما، الدهشة والإعجاب، وذلك لسرعة رد فعلهما واتخاذهما قرارات مؤثرة، لا بل مصيرية جذرية بلا تردد أو خوف وببساطة نادرة. إن تصرفهما هو تصرّف أي إنسان عاقل في مكانهما. الاكتشاف المفاجئ والغير متوقع يدفع إلى هذا التصرّف.
تكمن جِدَّة تعليم المثلين في الطبيعية. إن كل من يقابل ويكتشف الإنجيل يتصرّف تماماً مثل هذين الرجلين. لا يمكن اعتبار تصرف مثل هذا تصرفاً غير عادي أو استثنائي. إنه التصرّف الطبيعي والمتوقع أمام اكتشاف شيء غير متوقع! إنه إنسان محظوظ للغاية، لأنه وجد الكنز واللؤلؤة.. كذلك التلميذ الذي وجد الإنجيل.. يسوع.. الله.
باع العامل الأجير كل ما يمتلك. ربما لم يكن يمتلك الكثير، وباع التاجر الغني الكثير الذي كان يمتلكه. إن الذي يجمع بين هذين الرجلين هو أنهما باعا “كل ما يمتلكان”. يقتضي الإنجيل تجرداً كاملاً. وليس دافع هذا التجرّد هو الرغبة في التضحية بالممتلكات والذات لأجل الله، بل دافعه هو فرح العثور على الله. يبيع الأجير والتاجر كل ما يمتلكان ولكنهما لا يندمان على شيء ولا يشعران بالأسى. إنهما لا يضحيان بل يتاجران ويكسبان ما هو أفضل: إنها لفرصة لا تتاح لأحد غيرهما لا يستطيع أن يتركها أي إنسان أوتي القليل من الفهم!.
كذلك الأمر بالنسبة لملكوت الله: إنه يظهر أمام الإنسان فجأة، والاختيار العاقل الوحيد هو ترك كل شيء لامتلاكه. هذا ما فعله التلاميذ الأولون (مت 18:4-22): سمع بطرس واندراوس النداء “فتركا الشباك من ذلك الحين وتبعاه” (مت20:4)، وكذلك يعقوب ويوحنا ابنا زبدي “تركا السفينة وأباهما من ذلك الحين وتبعاه” (مت 22:4). وهذا ما لم يفعله الشاب الغني الذي قال له يسوع : “اذهب وبع أموالك وأعطها للفقراء” (مت21:19) ولكنه “انصرف حزيناً لأنه كان ذا مال كثير” (مت 22:19).
هناك تناقض بين حزن الشاب الغني (مت 22:19) وفرح الأجير الذي وجد الكنز (مت44:13). يعلم المثلان أن التوبة، وهي تقتضي تخلياً سريعاً وقاطعاً، تنبع من كون الإنسان عثر، وجد، تنبع من خبرة عطاء غير متوقع، مفاجئ، تنبع من لقاء يغمر القلب: إنه خبر ملكوت الله السار والمفرح. لذلك لا يقول التائب الحقيقي: “لقد تركت”، إنما: “لقد وجدت”، لا يقول: “لقد بعت حقلاً”، بل “وجدت كنزاً”. إن التلميذ الحقيقي لا يتكلم كثيراً عما ترك بل يتكلم دائماً عمّا وجد. إنه لا يحسد أحداً، لأنه يعتبر ذاته أفضل الناس حظاً وأكثرهم سعادة بما نال. هنا يكمن تعليم الإنجيل في المثلين: إن جذرية التخلي هي الوجه الآخر لما كان يمتلكه الإنسان قبلاً. وفور أن يتم الاكتشاف يقرر الأجير والتاجر أن ينتميا كلية إلى الكنز واللؤلؤة اللذين وجدا. إن مقياس التلمذة هو الانتماء وليس الابتعاد أو التخلي. يترك الإنسان كل شيء لأنه يرتبط بشيء آخر أفضل وينتمي إليه.
نختم الحديث عن هذين المثلين قائلين إن الأجير يبيع كل ما يملك “لشدة فرحه”. هذا الفرح نابع من “العثور على” وليس من “بيع ما”. إن في ذلك قلباً لمفاهيم وحياة التجرّد والتخلي. ليس التخلي هو الثمن أو ألم الحرمان، إنه الحصول على الكنز، على ما يشتاق إليه أكثر من أي شيء آخر، وبالتالي يجب نشر هذا الفرح والتعمّق فيه بقدر ما يستطيع حائز الكنز.
مثل الشبكة (مت 47:13-50)
إذا اكتفينا بتشبيه الشبكة التي إذا أُلقيت في البحر أخرجت كل أنواع السمك، ما كانت هنا أية صعوبة في تفسيره: إن زمن يسوع وزمن الكنيسة، هذا الزمن، هو زمن الحصاد والدينونة. لقد أعلن يسوع ذاته في عظته على الجبل: “لا تدينوا لئلا تدانوا” (مت1:7). هناك بالتأكيد دينونة، ولكنها لا تتم الآن، بل في نهاية الأزمنة. إذا تمت قراءة مثل الشبكة بهذه الطريقة فإنه يكرر ويلّح على تعليم مثل الزرع الجيد والزوؤان. ولكن الشرح الذي يلي التشبيه (مت 49:13-50) يسير في اتجاه مختلف تماماً، حيث يركّز على الدينونة أكثر من تركيزه على الحصاد، وبالتالي فإنه لا يكرر تعليم مثل الزوؤان إنما تعليم تفسير مثل الزوؤان (مت 36:13-43) الذي يتلخص في هذا الأمر: حتى وإن بدا غير ذلك فهناك دينونة.
إنه من الطبيعي، في هذه الحالة، كما فعلنا في مثل الزوؤان وتفسيره، أن نقول: المثل هو النص الأصلي، أمّا التفسير الذي يليه فهو إعادة قراءة المثل وتطبيقه على الظروف الراهنة للجماعة، وقت كتابة النص. تغيرت نقطة ارتكاز المثل في التفسير لكي تطابق وتلائم ظروف جماعة المؤمنين الرعوية الجديدة. وهكذا الأمر بالنسبة لمثل الشبكة: قصد التشبيه الأولي الحصاد، أمّا التفسير فإنه يتناول الدينونة.
إنه افتراض مغري ولكن الذي يدعو إلى الحذر في قبوله هو أن الدينونة حاضرة ولو بالتنويه في التشبيه الأولي نفسه وليس فقط في التفسير. ودليل ذلك هو توظيف أزمنة الأفعال: يتم التعبير عن أفعال إلقاء الشبكة في البحر، وجمع كل جنس وإخراج الشبكة إلى الشط بمصادر الأفعال (كما فعلنا الآن في كلامنا)، وبالتالي تكون حسب أصول اللغة اليونانية وقواعدها، إشارة إلى خلفية الحدث.
أمّا فعلا التمييز: جمع الطيب في السلال وإلقاء الخبيث فإنهما يردان في الحاضر للتأكيد. وبالتالي يتم التركيز، على هذين الفعلين: التمييز. لذلك نقول يحتل التمييز في الفصل (الدينونة) المكانة الأولى حتى في التشبيه.
عن مجلة صديق الكاهن