stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

إنسانية وتربوية

أيُّ رجاءٍ لسورية اليوم؟

785views

hope-f-syria-00

بقلم الأب نورس السمّور اليسوعيّ

نُشرت في مجلّة المشرق الإلكترونيّة – العدد الخامس – كانون الأوّل ٢٠١٤

مقدّمة

في خضمّ حرب لا تعرف رحمةً ولا هوادة، تحرق المدن والقرى وتتسبّب بمقتل عشرات الألوف وتهجير الملايين، ويلاحق عنفُها الأعمى الأطفال والنساء والعجّز حيثما حلّوا وارتحلوا، يمتلك نفسَ المرء شعورٌ باليأس، ولا سيّما في ظلّ غياب بوادر حلٍّ يُعطي بارقة أمل بقرب انتهاء جولات الجنون. غير أنّ ثمّة وجوهَ أشخاصٍّ تستيقظُ في الذاكرة تحمل معها نورَ الرجاء. فكيف لا يمكن ذكرى أشخاص أمثال ديترِش بونهوفر الراعي البروتستانتيّ الذي استشهد في معسكر اعتقال نازيّ، وإغناطيوس ألِّيكوريا ورفاقه اليسوعيّين الذين قضوا في السلفادور في العام 1989 أثناء الحرب الأهليّة، وأسقف الجزائر بيار كلافري الذي بذل حياته في تلك البلاد العام 1996 ، والأب اليسوعيّ فرانس فاندر لُخت الذي استشهد في مدينة حمص العام 2014 وغيرهم، إلاّ أن تكون مصدر إلهامٍّ ورجاء في زمن البربريّة؟ فكلٌّ من هؤلاء سعى على طريقته ليشهد لكرامة الإنسان في ظلّ ظروف لم تعرف من الإنسانيّة شيئًا، ويشهد، بفضل تمسّكه بإيمانه، لأخوّة ممكنة بين البشر جميعًا، مهما اختلفت ثقافاتهم وأعراقهم وجنسيّاتهم وأديانهم. لنتوقّف بوجازة، في البداية، على ظروف سورية الاستثنائيّة، قبل أن ننظر، من ثمّ، في أوضاع المسيحيّين السوريّين، ونختم بتفكير في رسالة الرجاء التي يلهمنا إيّاها هؤلاء الأشخاص.

أوّلاً: مأساة تفطر القلوب منذ ثلاث سنوات

بدأت الأزمة في سورية ربيعَ 2011 ، واتّخذت بدايةً شكل مظاهرات قبل أن تتحوّل تدريجيًّا إلى مواجهات عنيفة تستمرّ إلى اليوم. تكمن في أصول الأزمة هذه مشاكل سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة. ذلك بأنّ سورية كانت تفتقر إلى البُنى الضروريّة التي كانت لتؤول إلى تحديث الدولة وتأمين شروط ديمومتها، بالرغم من الاستقرار الظاهريّ الذي ساد طويلاً، والازدهار الذي بقي هشًّا بل ورمزيًّا. أمّا نتائج الأزمة الجارية والمتفاقمة على المستويات النفسيّة والإنسانيّة والاقتصاديّة والتربويّة، فهي مأساة بكلّ ما للكلمة من معنى. فالخوف والقلق وانعدام الأمن تسود جميع السوريّين؛ فما من مكان بمنأى عن العنف والوحشيّة. فأعمال الخطف، ومنها يتمّ بدافع طلب الفدية، والاغتصاب والسرقات وغيرها من اعتداءات، تأتي لتنزع كلَّ شعور بطمأنينة نسبيّ حتّى في المناطق التي تُعدّ هادئة. وتبعًا للإحصاءات غير الرسميّة المتداولة إلى حين كتابة هذا المقال، سقط ما لا يقلّ عن 165 ألف ضحيّة نتيجة المواجهات العسكريّة، منهم حوالى 15 ألف طفل، من دون أن تشمل هذه الأرقام المريعة المخطوفين بقصد الاحتجاز أو التصفية. كما تشير الإحصاءات عينها إلى أنّ ما يقارب ثلاثة ملايين مواطن قد غادروا الأراضي السوريّة نهائيًّا ولجأوا إلى البلدان القريبة وتحديدًا لبنان والأردنّ وشمال العراق وتركيا، ومنهم من قصد بلدان بعيدة مثل مصر والجزائر. ولا داعي للكلام على المعاناة التي يعيشها العدد الأكبر من هؤلاء اللاجئين في المخيّمات التي تأويهم على الصعد كافّة، من صحّيّة وغذائيّة وتربويّة. كما يرد في الإحصاءات أنّ هنالك ثلاثة ملايين مواطنٍّ داخل الأراضي السوريّة يحتاجون إلى مساعدات غذائيّة وطبّيّة فوريّة. أمّا على المستوى الاقتصاديّ والتربويّ فإنّ المعارك قضت على البُنى التحتيَّة لهذَين القطاعَين الحيويَّين، وأدَّت إلى انقطاع الخدمات العامّة في أرجاء واسعة من البلاد وتراجعها كثيرًا في مناطق أخرى. وتأتي هجرة العقول المفكّرة ورؤوس الأموال لتزيد من نتائج الأزمة السلبيّة حدّةً ومأسويّة. وعلى المستوى الاجتماعيّ، تشهد البلاد تفكّك رباطها الاجتماعيّ وتصاعد التيّارات الدينيّة المتطرّفة وتفاقم العصبيّة الدينيّة. وممّا لا شكّ فيه أنّ ثمّة مجموعات أصوليّة تستلهم عقيدتها من تنظيم “القاعدة”، فاعلة في مناطق من سورية، وتسعى لتفرض برنامجها على أطراف المعارضة. وتدّعي بعض مرجعيّات الجيش السوريّ الحرّ في هذا السياق أنّ المجموعات الأصوليّة تتمتّع بقدرات ماليّة تفوق بكثير قدرات أطراف المعارضة الأخرى، وهذا ما يجعل تلك المجموعات قادرة على استقطاب العديد من الأشخاص لضمّهم إلى صفوف مقاتليها. وفي إطار متّصل، يحتار المراقبون والخبراء المحلّيّون والخارجيّون في تحديد ما الذي يجري في سورية اليوم؛ سؤال يبقى برسم الجواب. فالأصوليّون يكتسبون نفوذًا في أوساط المعارضة التي لها أوجه عديدة؛ والقتال الدائر يتّخذ طابع حرب أهليّة تنطوي على ألوان طائفيّة ومذهبيّة وعرق يّة ذات امتدادات إقليميّة ودوليّة، الأمر الذي يُنتج مشهدًا معقّدًا أيّ تعقيد.

ثانيًا: ضيقُ المسيحيّين السوريّين

في ظلّ هذه الأوضاع، تعيش الجماعة المسيحيّة في سورية ضيقًا شديدًا. لا شكّ في أنّ السوريّين جميعًا يعانون من الضيق هذا، ومن وطأة العنف الذي لا يميّز بين الناس. غير أنّ المسيحيّين، بسبب قلّة عددهم أصلا، وبسبب صعود الإسلام الأصوليّ، وما حلّ بمسيحيّي العراق ابتداءً من العام 2005 ، وتعرّض ، بعض أوساط مسيحيّي مصر وكنائسهم بعد ثورة كانون الثاني/يناير 2011 ولأكثر من مرّة، لاعتداءات، فإنّهم يشعرون بضيق وقلق أشدّ من مواطنيهم المسلمين. ويأتي استهداف المجموعات التابعة لتنظيم “القاعدة” المسيحيّين وباقي الأقليّات، بل وحتّى السنّة الليبراليّين والمعتدلين، في المناطق التي يسيطرون عليها، لتضاعف من القلق. فهذا ما حصل في مدن صغيرة مثل القصير وشَدَدْ وغيرهما. ومن المألوف، في الواقع، أن تكون الحلقة الأضعف في المجتمع عرضةً لتتحمّلَ عواقب سلوك الآخرين السلبيّة.

وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ غياب مرجعيّة مسيحيّة وموقفٍّ كنسيّ يناديان بمبادئ الإنجيل وتعاليم الكنيسة الاجتماعيّة وكرامة الإنسان والعدالة، يُساهمان في إضعاف دور المسيحيّين ويزيدان من الضيق.

فلا عجب، إزاء هذه الأوضاع، أن نلاحظ ثمّة خطرًا يتهدّد المسيحيّين السوريّين ومسيحيّي الشرق عمومًا، ألا وهو خطر التغرّب عن واقعهم، إذ يجدون أنفسهم يحلمون بالعيش في مكان آخر، أو يبحثون عن قوّتهم في الماضي أو في المستقبل، مُغيِّبين دورهم أو متجاهلينه في اللحظة الراهنة. بالطبع، ليست اللحظة هذه سهلة؛ فالموت يتحوّل لعبةً سهلة سخيفة يوميّة، قد تصطاد في شباكها في أيّ لحظة أيًّا كان. لقد بات السوريّون جميعًا يعيشون والموت حاضر في أذهانهم. ولكن هل يعني هذا الواقع القاسي انتهاء سورية المضيافة والمسالمة؟ هل يجب الاستسلام للعنف والانقسامات والدمار وآلة الموت؟

ثالثًا: أيُّ رسالة رجاء؟

هل من مكان بعدُ للرجاء؟ هل ثمّة بصيص نور في هذا الظلام الحالك؟ لعلّ نظرةً واقعيّة وعقلانيّة إلى ما يحصل تُعطي جوابًا قاطعًا: لا يمكن بعدُ فعل أيّ شيء! ولكن حيث يبدو الوضع إنسانيًّا ميؤسًا منه، تبرز رسالةُ الرجاء بقوّة: “حيث لا يمكن بعدُ القيام بشيء، فيجب وبكلّ تأكيد القيام بكلّ شيء مرّة أخرى” (إغناطيوس ألِّيكوريا). ليست هذه الكلمات مجرّد تعزيات رخيصة، بل تنبع من قناعة كلّ مؤمن يعرف أنّ الرجاء الذي يحمله يجعله قادرًا على تجاوز حدوده الشخصيّة وظروف مجتمعه.

ما هو مدخل رسالة الرجاء هذه في سورية؟ تُبيِّن لنا الصفحات الحالكة من تاريخ البشريّة أنّ من دواعي معاناة الإنسان الأشدّ افتقاده الوسائل التي تسمح له بالتعبير عن ضيقه وخوفه؛ عندما تخونه اللغة وتعوزه الكلمات الضروريّة ليصف ما يعيشه ويخبر عن حياته الممزّقة. لذا، فالسؤال الذي يُطرح هو الآتي: كيف يُعطى الصوت لمن لا صوت لهم؟

من وجهة نظر مسيحيّة، يُترجم هذا الوضع بمفارقة تفتحنا على الرجاء: فالحالة الميؤوس منها إنسانيًّا، الحالة التي تعرف “لاإنسانيّة”، تصبح فرصة بل ونعمة. فالشعور بالضعف وسطوة الظروف القاسية يسمح بتجلّي قدرة الله وقوّته (2 قورنتس 21: 9).

ماذا يعني أن نكون نحن المسيحيّين السوريّين ضعفاء؟ وكيف يكون الضعف هذا نعمة؟ بصفتنا ضعفاء، فنحن لا نهدّد أحدًا ولا نُخيف أحدًا. ولعلّ بعضهم بسبب هذا الوضع ينظر إلينا نظرة استخفاف. ولكنّ ذلك كلّه فرصة لنا للمبادرة في الانطلاق نحو الآخر حيث هو، لنكون معه في معاناته وفي ادّعائه امتلاك القوّة والنفوذ، بل وحتّى تسلّطه على الحياة نفسها، إذ يحافظ عليها أو يقضي عليها كيفما شاء. فالله ينتظرنا في انطلاقتنا تلك؛ إنّه “لا يزال يعمل” في تلك المبادرة عينها. ذلك بأنّ الله إله منفتح، هو أبو الجميع، أبٌ لا يستثني أحدًا من أولاده. إنّه المخلّص الذي يبحث عن خرافه الضالّة ليعيدها إلى حظيرته (لوقا 15: 4 – 5. أنظر أيضًا: يوحنّا 10 :1 – 16). لذا، باسم الإنجيل نفسه، لا يحقّ لنا أن نستسلم ونصاب بالهمود، بل “يجب وبكلّ تأكيد القيام بكلّ شيء مرّة أخرى”. فهذه كلمة الرجاء التي نحملها ونقدر على التعبير عنها.

بالطبع، إنّ نظرتنا المليئة بالرجاء هذه إلى الواقع دعوة إلى خوض مغامرة لا تُعرف نتائجها، مغامرة لا ضمانات لها. غير أنّها تقوم على الله الذي يدعونا إلى الالتزام الحرّ في الإيمان المعاش من خلال عمل مسؤول. ولكن أليس الإنجيل، في نهاية المطاف، دعوة إلى المغامرة؟ أليس الإنجيل مغامرة قبل خوضها بحرّيّة يسوع الذي أسلم نفسَه بشجاعة إلى “جهالة الصليب”؟ وبكلام آخر، يدعونا الإنجيل إلى الشهادة للحرّيّة المفتداة، حرّيّة تحثّ المؤمن على الاتّكال الكامل على الله، وتجعله يألف موتَه نفسه، بقوّة الحياة وتعرّضه اليوميّ لخطر الموت، وبفعل طاعته الحرّة. فهذا ما عاشه الأب فرانس فاندر لُخت اليسوعيّ الذي استشهد في حمص يومَ 7 نيسان/أبريل 2014 . فقد عرف هذا اليسوعيّ الشهيد كيف يشهد لقيمة حياةٍ وُهبت له نعمةً، ويألف بذلك موته نفسه.

لذا، في صميم بلاد غاب عنها الاستقرار وتعيش تحت وطأة الخضّات المتنوّعة والعنف، يثبت مَن لا يركن إلى منطقه ولا إلى مبادئه ولا إلى حرّيّته أو فضيلته، بل يتمسّك بالله وحده، مستعدًّا ليضحّي بكلّ شيء حتّى بنفسه، “لأنّ إيمانه يدعوه إلى عمل مطيع ومسؤول. فإنّه لا يريد أن تكون حياته إلاّ تجاوبًا ونداء الله وسعيًا للإجابة عن سؤال طرحه الله عليه” (بونهوفر). وما من سؤال سديد يطرحه الله علينا اليوم في سورية إلاّ هذا: “أين هو أخوك؟” (تكوين 4: 1).

لذا، يجد المسيحيّون مكانهم عندما يفطنون دعوتَهم ورسالتَهم بأن يكوّنوا “كنيسةً” في الظروف التي تصلب الإنسانيّةَ، إذ تقضي عليها وعلى وحدتها. “نحن إذّاك في مكاننا الفعليّ، لأنّنا في هذا المكان فقط يمكن أن نرى نورَ القيامة، ومعه الرجاء بتجديد عالمنا” (بيار كلافري).

خاتمة

تبعًا لقولٍّ مأثور، هم المنتصرون مَن يخطّون حروف التاريخ. ولكن في نظر الربّ سيّد التاريخ، لا يعني هذا القول البشريّ الكثير. بصفتنا مسيحيّين نكوّن كنيسة، “لا نريد أن نكون مراقبين ولا انتهازيّين، ولا يجب أن نكون كذلك. بل علينا أن نكون أناسًا يشاركون الآخرين، بدافع إيمانهم بالله إله التاريخ، في مسؤوليّة بناء التاريخ، في كلّ حالة وفي كلّ لحظة، أكنّا منتصرين أو مغلوبين” (بونهوفر).

بصفتنا نكوّن “كنيسة”، تقع علينا إذًا مسؤوليّة مستقبل الأجيال في سورية. ويبدأ تحمّل هذه المسؤوليّة بالتربية، وتحديدًا بالتربية على الحريّة المسؤولة التي ترفض كلَّ حطٍّ من كرامة الإنسان، وتعارض كلّ استبداد. فإخضاع العقل للمصادرة واتّباع شرِّ الآخرين بعناد، ما هو – كما يقول بونهوفر – إلاّ العدوّ الأخطر الذي لا يمكن التغلّب عليه بمجرّد عمل تعليميّ، بل بعمل تحريريّ شامل من خلال الحبّ. هو هذا الحبّ الذي أسَّس الكنيسة وهي تحمله. لذا، فكنيسة عقيمة غير مثمرة ليست كنيسة أسَّسها المسيح وأرادها. لذا، نجهد لنكون صوت الغالبيّة الصامتة التي تريد الأفضل لبلادها؛ تريد بلادًا منفتحة، تعدّديّة، موحّدة، عادلة لجميع المواطنين من دون تفرقة أو تمييز. ولا يتّصل الكلام في هذا السياق بعمل سياسيّ كما يقوم به السياسيّون. بل نعني ذلك الحضور اليوميّ البطوليّ الصامت وسط شعب سورية المتألّم، حضور يعرف كيف يتضامن مع الجميع متجاوزًا خطوط التماس، ويحمل شعلة الرجاء في وجه كلّ أسباب الإحباط والاستسلام.

يسوعيون