إرحمنى يا الله كعظيم رحمتك – الأب وليم سيدهم
هذا المزمور الخمسون هو قطعة شعرية من أروع نصوص الكتاب المقدس، وعُرف هذا المزمور الذى يبدأ بطلب الرحمة من الله على أنه أروع ما تفوه به داود النبى بعد خطيئته مع “بثشبع” إمرأة أوريا الحثى.
وهى ترينا الوجه الآخر لداود النبى و الملك فبعد أن أرسل الله ناثان للنبى داوود كى يخبره بفعلته الشنعاء استيقظ داود من غفلته التى جعلته ينسى إنه عبدالله و ليس إله و يعترف بإنه مجرد رجل خاطئ و أن ما فعله من زنى و قتل هو انتقاص من حق الله عليه و غرور ما بعده غرور جعله ينسي الخالق في سبيل تنفيذ نزواته و شهواته.
إنه يخاطب الله من منطلق حقارته ووضاعته كإنسان : “اغْسِلْنِي كَثِيرًا مِنْ إِثْمِي، وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي. لأَنِّي عَارِفٌ بِمَعَاصِيَّ، وَخَطِيَّتِي أَمَامِي دَائِمًا. إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ، وَالشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ، لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي أَقْوَالِكَ، وَتَزْكُوَ فِي قَضَائِكَ. هأَنَذَا بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ، وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي. هَا قَدْ سُرِرْتَ بِالْحَقِّ فِي الْبَاطِنِ، فَفِي السَّرِيرَةِ تُعَرِّفُنِي حِكْمَةً.طَهِّرْنِي بِالزُّوفَا فَأَطْهُرَ. اغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ الثَّلْجِ.”
لقد زرف داود الدموع و عبر عن ندمه و عن ضعفه بكلمات قوية لازالت تُتلى كل يوم عدة مرات في الكنائس و فى كل أنحاء العالم ، لم تكن دموع داود مجرد تعبير شعورى سطحى و إنما كانت تعبيراً صادقاً عن الأسى و الحزن اللذان سيطرا عليه و عن التحول العميق و الباطنى الذى زلزل كيانه.
إن فحص الضمير و الوقوف وجهاً لوجه أمام النفس يجعل الإنسان يرى الفظائع التى يرتكبها حينما يفعل شئ في غياب الله عن ذهنه و مخيلته. و نحن كم من المرات يغيب وجه الله عن ضمائرنا و عقولنا و نقع فريسة لشهواتنا و لذاتنا الحسية و المعنوية.
إن رحمة الرب عظيمة ” كعظيم رحمتك” و هى قائمة و مستمرةو لكن كالسحابة التى تحجب الشمس عن الأرض فإن خطايانا لا ترى النور إلا في عتمة القلب و العقل، هذه الظلمة تزول إذا أشرق عليها نور الله برحمته اللامحدودة و حنانه الذى يلتحف كل عطاياه المجانية الظاهرة و الباطنة.
”لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى.ذَبَائِحُ اللهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. الْقَلْبُ الْمُنْكَسِرُ وَالْمُنْسَحِقُ يَا اَللهُ لاَ تَحْتَقِرُهُ.” ، إن المحرقة الحقيقية التى يطلبها الله هى “القلب المنكسر و المتواضع” فالخطيئة هى “القلب المتعجرف و المستقل عن الله” لذا فإن الإعتراف بأن الإنسان بعيداً عن الله و منفصلاً عنه يتحول إلى أقل من حيوان يفقد صورة الله فيه و بالتالى كل النعم الخاصة التى ينفرد بها بين الكائنات و حصوله على الوعى و الحرية اللذان يصبوان الى الإتحاد بالخالق كما يتحد الجسد بالنفس و الروح في كل كيان إنسانى.
إن محدودية الإنسان هى أحد العوامل الهامة التى تجعله قابل للضعف و السقوط في بئر الخطايا. فالغضب و العنف و الشهوة و التقوقع على الذات و ممارسة الحرية بعيداً عن نظر الله هى ممارسات لصيقة بالجسد كما يقول القديس بولس “وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ” لا يمكن اكتسابها إلا بالإنفتاح على روح الله و ليس على روح الشيطان.
هذا الروح هو الذى ينتشل الإنسان من محدوديته و يفتحه على سموات الفضيلة و السعادة مع الخالق بصفته ضامن لحريتنا الحقيقية و لإختياراتنا اليومية في صلب الواقع و تحدياته المستمرة.
نعم إرحمنى يا الله فإننى أشتاق اليك كما يشتاق الايل الى مجارى المياه.