إستشهاد يوحنا المعمدان – الأب وليم سيدهم
يقول الكتاب المقدس على لسان يسوع: “لَيْسَ مَا يَدْخُلُ الْفَمَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ، بَلْ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِ هذَا يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ.” (مت 15: 11) ونحن أمام مشهد كتابي فريد، فنجد فيه إرتابط نجاسة القلب بالإقدام على القتل، المشهد ببساطة تنبع جذوره من نجاسة قلب هيرودس الملك، ففي حفل مهيب يليق بملوك العصر الأول الميلادي، رقصت بنت هيروديا في هذا الحفل، فتجلت مكانتها أمام الحاضرين، وملكت على قلب الملك هيرودس، أراد أن يكافئها بنصف مملكته إن رغبت في ذلك، ولأن هذ الفتاة بنت هيروديا التي كانت تطمح في الزواج من هيرودس، ولأن يوحنا المعمدان كان واقفًا لها بالمرصاد رافضًا مثل هذا الزواج. ولعلمها بأن الملك هيرودس لن يرجع في تنفيذ أي طلب تطلبه ابنتها، فليست من عادة الملوك التراجع عن تنفيذ أوامرهم، طلبت أن يقدم لها”رأس يوحنا المعمدان على طبق”
نجاسة القلب هنا، هي الحقد المتمكن من قلبها ضد صوت الحق، لم تعُد تتحمل وخذ الضمير الذي كان يسببه لها يوحنا المعمدان.
ومقارنة بسيطة بين سلطة يوحنا المعمدان وسلطة هيرودس الملك، فإننا لا يمكن أن ننكر بأي حال من الأحوال أن سلطة يوحنا على هيروديا كانت أقوى من سلطة هيرودس الملك نفسه. وشتان الفرق بين السلطتين، فهيرودس يملك سلطة مطلقة على رعيته، وكلامه أوامر، ومنه تصدر القرارات بالحرب والسلم، يرفع أو يخفض أيًا من رعاياه، لديه وزراء وجيش ووزارة داخلية وقصر كبير وحرس وخدم ومحظيات، أما يوحنا فهو مجرد إنسان زاهد في السلطة وفي المنصب، وفي الأكل والشرب واللبس. إنه “صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً».” (مر 1: 3) وهو في السجن بسبب موقفه من تلك المرأة النجسة.
ولكن صوت يوحنا، لأنه صوت الحق، ملك على عقل وقلب تلك المرأة لدرجة أنها لن تتحرر من سلطة هذا الرجل عليها إلا بحذفه من الوجود.
لهذه الدرجة، قول الحق يعرض صاحبه للموت ؟ ولهذه الدرجة استطاع يوحنا أن يستفز هذه المرأة لدرجة أفقدتها صوابها، إن التخلص من الخصوم بقتلهم هو الحل الوحيد الذي يجعل هذه القلوب القاسية المتحجرة غير قادرة على التصالح مع هؤلاء الخصوم او التصالح مع أنفسهم.
لقد مات يوحنا شهيد الحق، ولم يكن في محضر هيرودس – الذي كان يحب يوحنا – لا البحث عن الحقيقة، ولا الحكم بإنصاف، ولا عدم الوقوع في فخ الشهوة القاتلة، أمر هيرودس بقتل يوحنا ليس بسبب خطورته على الأمن القومي، ولا على تأثيره في دهاليز السياسة. ولكن بأمر من غريزته الجنسية من ناحية، ومن ناحية أخرى للمحافظة على كبريائه والمجد الباطل الذي كان يغلف به نفسه.
إن جريمة القتل هذه ستظل تشهد على قوة الغرائز حينما تسيطر على عقل الإنسان فتبطله وتلغيه في صالح عواطف متغيرة وشديدة الذاتية وسريعة الزوال.