احتفالا بنصر أكتوبر المجيد : أخلاقيات الحرب فى التعليم الاجتماعي للكنيسة الكاثوليكية
دراسة وتحقيق : ناجح سمعـان
تحمل المناسبات الوطنية الكثير من معاني الفخر التى تعبر بقوة عن معنى الانتماء وعمق الارتباط بالوطن ، الأرض والحلم .
تأتي حرب تحرير سيناء فى 6 أكتوبر 1973 ، على رأس المناسبات الوطنية العزيزة على الوجدان المصري ، لما تمثله الحرب فى الذاكرة الوطنية من علامة انتصار ناصع على العدو الاسرائيلى ، كان بمثابة حجر الزاوية فى مسيرة مصر نحو السلام القائم على العدل .
إن قراءة خبرة الحرب تتطلب الكثير من الدرس والعميق من التأمل حتى تأتي التجارب التاريخية بثمارها فى بناء السلام وتطور المجتمعات .
يحاول التقرير التالي استعراض بعض من تعليم الكنيسة الاجتماعي ، قديماً وحديثاً ، فى شأن قضية ” الحرب والسلام ” للتدليل على ما حملته خبرة حرب أكتوبر المصرية من قيم الحرب العادلة ، حرب الدفاع عن النفس فى سبيل الكرامة الوطنية .
كذلك يحاول الباحث أن يضع أمام القارئ الكريم جانباً مما تزخر به أدبيات الكنيسة الكاثوليكية من تعاليم اجتماعية تستند فى منابعها على قيم روحية أصيلة ، وتتسع فى أفاقها إلى دعوة كل ذوي الإرادة الصالحة لنشر حضارة المحبة .
فى محاولة للتعرف على مسيرة تطور الفكر المسيحى بشأن الحرب ، نقرأ فى كتاب ( مدخل إلى اللاهوت الأدبي .. تعليم الكنيسة الاجتماعي ) للمطران كيرلس سليم بسترس ، رئيس أساقفة بعلبك للروم الملكيين الكاثوليك ، يتناول الكتاب فى فصله العاشر قضية ” الكنيسة والعنف ” . ويستعرض الكاتب مسيرة تطور الفكر المسيحى تجاه العنف ، ويقول : ” تطور موقف المفكرين المسيحيين من العنف مع تطور اندماج الشعب المسيحى فى الشئون الزمنية .
ففي القرون الثلاثة الأولى للميلاد ، عاش المسيحيون فى ترقب المجيء الثاني للمسيح ، وبالتالي فى نوع من اللامبالاة تجاه التقلبات السياسية .
لذلك نجد بعض المسيحيين يقفون موقفاً معادياً ويحرمون تحريماً صريحاً على الشعب المسيحى الانخراط فى سلك الجندية . وقد كان هذا الموقف ممكناً ، لأن حماية الدولة كانت تقع على عاتق الجنود الوثنيين ” .
ويضيف سيادة المطران : ” إلا أن عدد المسيحيين تكاثر فى القرن الرابع ، واخذوا يتبوءون مراكز المسئولية فى الدولة ، فرأوا من الطبيعي أن يستخدم الجنود ، سواء أكانوا وثنيين أم مسيحيين ، قوة الدولة لضمان احترام الشرائع وحماية البلاد ” .
وفى هذا الظرف التاريخي الجديد ، راح القديس اغسطينوس ( 354 – 430 ) يتساءل عن الشروط التى تجيز من الوجهة الأخلاقية اللجوء إلى الحرب .
فرأى أن الحرب لا تكون عادلة إلا إذا شُنت على دولة ظالمة . استناداً إلى هذا المبدأ ، كانت تعد عادلة الحرب التى تقوم بها دولة لاسترجاع أراض اغتصبتها دولة أخرى عدوة ” .
وعن نظرية الحرب العادلة خلال القرون الوسطى يستطرد المطران كيرلس سليم فى بحثه ويقول : ” لم تتوقف الحروب فى القرون الوسطى ، حتى بين الدول المسيحية .
بيد أن تساؤل القديس اغسطينوس حول أخلاقية الحرب ظل يراود أفكار اللاهوتيين والفلاسفة . فراحوا يحددون بدورهم الشروط التى تجعل الحرب عادلة ، وذلك بغية إنارة ضمائر الملوك والأمراء وقادة الدول المسئولين عن الخير العام فى مختلف البلدان ” .
و عن الحرب والحق الطبيعي يقول المطران بسترس فى كتابه : ” فى القرن السادس عشر أخذ اللاهوتيون يخضعون الحرب ، لا لحكم الأمير وضميره ، بل لقوانين عامة تعترف بها وتتفق عليها مختلف الدول ، وتستند إلى الحق الطبيعي الذى يعتمده جميع الناس .
وبهذا التركيز على الحق الطبيعى على حق الشعوب ، أسهم الفكر المسيحى مرة أخرى فى تطوير مفهوم الحرب العادلة وفى إنشاء ما يدعى بالحق الدولي ” إلى هنا ينتهي اقتباسنا من كتاب ” التعليم الاجتماعي للكنيسة الكاثوليكية ” لسيادة المطران كيرلس سليم .
لكننا فى ختام القراءة لمسيرة تطور الفكر المسيحى فى شأن قضية الحرب ، نتوقف أمام أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني ( 1962 – 1965 ) ، ونقرأ ما جاء فى الدستور الراعوي ( الكنيسة فى العالم المعاصر ) ، حيث يقول أباء المجمع : ” لا شك فى أن الحرب لم تختف من حياة البشر . وما دام خطر نشوبها قائماً ، ومادام العالم يفتقر إلى سلطة دولية مختصة تملك الردع ، لا يمكن أن ننكر على الحكومات حقها الشرعي فى الدفاع عن بلادها متى استنفدت بلا جدوى كل ما فى مقدورها من وسائل التسوية السلمية .
ويقع على عاتق رؤساء الدول وعلى الذين يشتركون فى تحمل مسئولية السلطات العامة ، واجب تأمين سلامة الشعوب التى اؤتمنوا عليها ، دون ما استهتار فى معالجة مسائل تبلغ هذا الحد من الخطورة ، إلا إن القيام بالأعمال العسكرية بغية الدفاع العادل عن الشعب شئ ، ومحاولة السيطرة على الدول الأخرى شئ أخر . أما الذين يتفرغون لخدمة الوطن فى صفوف الجيش ، فليعتبروا أنفسهم هم أيضا فى خدمة أمن الشعوب وحريتها ، فإذا قاموا بهذه المهمة بما يليق من الدقة ، فإنهم يساهمون حقاً فى المحافظة على السلام ” .
فى زماننا الحاضر ، يعتقد الباحث أنه من الأهمية بمكان أن نقرأ فى كتاب تعليم الكنيسة الكاثوليكية الاجتماعي للشبيبة ( DOCAT ) الصادر عن أعمال الكرسي الرسولي ( 2017 ) حيث يقدم الكتاب رؤية الكنيسة الكاثوليكية المعاصرة لقضايا الشأن الاجتماعي ليس للمسيحيين فحسب بل ولكل ذوي الإرادة الصالحة الساعين إلى العدالة والسلام فى تحقيق الخير العام .
فى فصل بعنوان ( العيش بسلام ودون عنف ) من كتاب تعليم الكنيسة الكاثوليكية الاجتماعي للشبيبة ، نقرأ عدداً من المبادئ التى تحدد الظروف التاريخية التى يتوجب معها الحرب ، ومعنى الحرب الدفاعية ، وما على القيادات السياسية والعسكرية التحلي به من قيم إنسانية عند اندلاع الحروب ، بغية تحقيق العدالة وإقرار السلام .
فى البداية يقدم التعليم الاجتماعي نظرة الكنيسة إلى الحرب، ويقول : ” الحرب هي النتيجة الأسوأ لإخفاق السلام وما يجر وراءه هذا الإخفاق من تبعات كثيرة . لذلك تدين الكنيسة باستمرار ” لا إنسانية الحرب ” .
فالحرب لا تستطيع بتاتاً أن تكون وسيلة ناجعة لحل المشاكل التى تنشب بين الأمم ، لأنها تؤذي كل الأطراف ، وتؤدي إلى نشوء صراعات جديدة أكثر تعقيداً . الحرب دائمة خسارة بشرية ” . وحول الواقع الذى يتوجب معه قيام الحرب ، يقول تعليم الكنيسة الاجتماعي : ” وفي حال اندلاع حرب يحق للمسئولين فى الدولة الُمعتدى عليها ، لا بل يجب عليهم تنظيم طرق الدفاع عن الدولة حتى بالعنف المسلح . من هنا يحق للدول أن تمتلك قوى مسلحة وسلاحاً لحماية شعبها فى وجه الاعتداءات الخارجية . ويحق كذلك للمسيحيين أن ينخرطوا فى الجندية ، ما دامت القوى المسلحة تخدم أمن البلاد وحريتها ، ومستعدة لخدمة حفظ السلام ” .
وحول شروط حرب الدفاع عن النفس يقول التعليم الاجتماعي للكنيسة الكاثوليكية : ” لا يمكن تبرير الدفاع المسلح إلا تحت شروط صارمة ، ووحدها المؤسسات المنوط بها الحفاظ على الخير العام ، يمكنها أن تقرر التقيد بهذه الشروط . أول هذه المعايير ثبوت صحة الأضرار الناجمة عن المعتدى وجسامتها واستمراريتها . الثاني ، عدم توافر سبل أخرى فى وضع حد للاعتداء واستنفاذ السبل السلمية لحل الصراع . ثالثاً ، يجب ألا تكون نتائج التدخل العسكري بهدف الدفاع ، أسوأ من الأضرار التى تسبب بها المعتدى . وأخيرا ، لابد من أن يحظى عمل الدفاع بحظوظ واقعية للنجاح ” . وما على الجندي التنبه له أثناء الحرب يقول : ” تقع على الجنود مسئولية رفض الأوامر التى تتعارض والقانون الدولي . ولا يسمح للجندي أبدا مثلا بالمشاركة فى إبادة جماعية لمدنيين أو لأسرى الحرب ، حتى لو أمر بها رؤساؤه . فهو لا يستطيع فى هذه الحال الادعاء بأنه لم يعمل إلا تنفيذ الأوامر فهو مسئول عما يقوم به ” .
وفى مسألة ضحايا الحرب تذكر العقيدة الاجتماعية للكنيسة :” يجب حماية الضحايا البريئة التى لا طائل لها فى الدفاع عن النفس فى وجه اى اعتداء ، أيا كان الثمن ، وهذه الحماية تنطبق على جميع السكان المدنيين . والأطراف المتحاربة مسئولة بدورها عن اللاجئين والأقليات ، أما محاولة القضاء على مجموعات كاملة من السكان ( إبادة ) أو الإقدام على ” التطهير العرقي “، فهي جريمة ضد الله وضد البشرية ” . عن حق الدفاع ضد الإرهاب يقول التعليم الاجتماعي للكنيسة الكاثوليكية : ” لابد من شجب حاسم لكل عمل إرهابي ، لأنه يطاول غالبا الأبرياء ويتسبب بضحايا تم اختيارهم بشكل عشوائي . والإرهابيون بعملهم هذا يؤكدون على احتقارهم للحياة البشرية احتقارا كاملا وسافرا ، وبالتالي لا يمكن تبرير أعمالهم بأي شكل من الأشكال .
لا يمكن لأي دين السماح بالإرهاب ، وما المجاهرة بالإرهاب باسم الله وقتل الأبرياء باسمه تعالى ، سوى تجديف مرعب . من هنا تطالب الكنيسة الكاثوليكية الجماعات الدينية بالابتعاد بشكل صريح عن الإرهاب الذي له دوافع دينية ، وهي تمد يد التعاون لكل الديانات للعمل معاً على نزع كل أسباب العنف ، وتحقيق الصداقة بين الشعوب ” .
ختاماً ، حول دور الكنيسة الكاثوليكية فى العمل من اجل السلام ، نقرأ الكلمات : ” الكنيسة تصلى من اجل السلام قبل القيام بأي شي عملي . فالصلاة ، كما يؤمن المسيحيون ، تملك قوة قادرة على تحويل العالم . علاوة على ذلك ، الصلاة هي مصدر قوة أساسي فى الجهد الذى يبذله المسيحيون من أجل السلام . والكنيسة لا تنثني فى بشارتها عن المطالبة بالسلام ، وتشجع المؤمنين على طلب السلام . وهى فى كل اللقاءات التى تنظمها تحاول إيجاد مناخ سلام ومحبة ، وتهدف من خلال ذلك إلى إظهار إيمانها بحضارة المحبة والسلام . إن هذه الحضارة ليست محض نظرية ، بل هي ممكنة وواقعية ، وحين يحاول المسيحيون العيش بحسب الإنجيل ، فهم يشكلون أكبر حركة سلام فى العالم ” .